
تحية عبدالوهاب
الحقيقة مبدأ.. حــروب الآلهة
طالما كانت الأساطير الإغريقية مُلهمة للكُتّاب والفلاسفة وصُناع السينما.. فالأسطورة اليونانية القديمة مليئة بالحب والحرب، ولا تعرف النصر أو الهزيمة، لكنها دائمًا ذات نهايات مفتوحة تسمح بالاستكمال وتطلق العنان للخيال.. وكما هو الحال فى ملاحم الإغريق، يكون الواقع السياسى، فليس هناك منتصر أو مهزوم؛ إنما يخرج الكل بمكاسب؛ خصوصًا عندما يتعلق الأمر بصراعات الكبار أو القوى العظمَى التى تقتات دائمًا على معاناة الشعوب ولا تكترث للضحايا من الصغار «صغار الدول».
فمنذ 60 عامًا «1962» كانت أزمة الصواريخ الكوبية وظن الجميع حينها أن الحرب العالمية الثالثة ستبدأ، لكن لم يحدث ما ظنه الجميع ولم تقم الحرب.. وكل ما فى الأمر هو انسحاب أمريكى من تركيا وانسحاب سوڤيتى من كوبا، وبقى كل من «نيكتيا خروتشوف» و«جون كيندى» بطلين فى أعين شعوبهما التى ظنت من وجهة نظر كل منهما أنها منتصرة، وفى واقع الحال لم يُهزَم أحد، لعل هذا هو حال الوضع الأوكرانى المتأزم حاليًا بين شد وجذب كُل من موسكو وواشنطن والذى سينتهى باتفاق قد يكون تفعيلاً لبروتوكول مينسك سنة 2015، وعليه تضمن موسكو من تفعيله ألا تنضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطى وكذلك تجميد قانون كاتسا الذى صدر عن الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018، وهناك وجهة نظر أخرى بأن موسكو قد توافق على انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسى فى مقابل تجميد أو إلغاء «كاتسا»، هذا فيما يتعلق بها تحديدًا.. كل الحلول مطروحة وخيارات الاتفاق مفتوحة.. لم تقع الحرب فى الموعد الذى حدده «بايدن» ووسائل الإعلام الغربية؛ بل الذى حدث هو العكس عمّا قالته وسائل الإعلام؛ حيث قامت روسيا بسحب بعض دباباتها من على مقربة من الحدود الأوكرانية، أى أن الأمر سجال بين الدولتين العُظميين، إحداهما تهدد الأخرى والأمر أنه صدى مصطنع للحرب الباردة بين البلدين كما كانا من قبل أن يتم التوقيع على بروتوكول مينسك واحد واثنين عامَى 2014، و2015، هذا البروتوكول ينص على عدم التدخل الروسى فى أوكرانيا عسكريًا وعليه بالتالى لا تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية فى محاولة خلق أى نزاع عسكرى داخل أوكرانيا أو ارتكاب أى انتهاكات تخالف اتفاقيتى مينسك. الواضح أن الصراع الدائر حاليًا ما هو إلا صراع الإرادات وإعادة ترتيب الإرادات؛ الولايات المتحدة الأمريكية تريد تعديل هذه الترتيبات، ذلك لتصبح تعبيرًا عن اندحار كامل لروسيا أمام التحالف الأطلسى، مدعومًا بالاتحاد الأوروبى، وانضمام أوكرانيا المحتمل للحلف الأطلسى.. الصراع يكشف عن تباينات بداخل نفس التحالف الأوروأطلسى.. هذه التباينات هى نفسها تعبيرات عن إعادة تشكيل للنظام الدولى، والاختلافات الاقتصادية تفسر بدورها التباين فى المواقف؛ روسيا هى ثانى شريك تجارى لألمانيا، والأهم أنها مصدر الغاز الطبيعى لها، كما أن فرنسا تتمسك من حيث المبدأ بحق أى دولة فى الانضمام للحلف الأطلسى، لكنها حريصة على الحوار وعلى التمسك بما يسمى «صيغة نورماندى» وهى اجتماع رؤساء فرنسا وروسيا وأوكرانيا والمستشار الألمانى أو وزراء خارجية تلك الدول والتحاور، وهى الصيغة التى مكنت من الوصول إلى اتفاق مينسك الذى وضع حدًا للأزمة الأوكرانية الأولى فى عام 2014 بفرنسا.
إن الاتجاهات السياسية منقسمة ما بين الاتجاهات الحاكمة منذ الحرب العالمية الثانية والتى تتخذ مواقف فى مجملها شبيهة بالمواقف الرسمية، وهناك اتجاهات اليسار الشعبوى وأقصى اليمين التى تنحو إلى تفهُّم الموقف الروسى وتأييده، أقصى اليمين الأوروبى كان مستبعدًا من الأنظمة السياسية الداخلية، ومن النظام الدولى ومن المشاركة فيها وكان هدفه كله هو إعادة تشكيل هذه الأنظمة، المجر كذلك يقف إلى الجانب الروسى فى الأزمة الأوكرانية، معللاً أن أوكرانيا تتعامل مع الأقلية المجرية فى أوكرانيا بمعاملة سيئة، الأمر الذى جعلها تساند روسيا فى موقفها من تلك الأزمة، أما زعيمة التحالف الأطلسى أمريكا فتصر من حيث المبدأ هى الأخرى على أن من حق أى دولة ديمقراطية، فى أوروبا الانضمام إلى الحلف الأطلسى، وكذلك على حق الحلف فى أن ينشر جنوده فى الدول الأعضاء بالحلف، بما فى ذلك دول الشرق الأوروبى، وقامت بإرسال عشرة آلاف جندى إلى رومانيا، الواقع أن التغيير فى بنية النظام الدولى وفى نمط تفاعلاته لا يقتصر على أوروبا فقط؛ بل إننا نجد الصين قد أعربت عن رأيها فى الأزمة الأوكرانية على لسان وزير خارجيتها وعن تفهُّم الصين لأوجُه القلق الروسى، كما قامت الدولتان بالاتفاق على التعاون الاستراتيچى، ذلك بضرورة القيام بمزيد من الأعمال المشتركة من أجل الحفاظ على مصالحهما الأمنية، كما ينبغى لهما أن يعززا التعاون بينهما لتكون كلمتهما فى الحوكمة، وفى الشئون الدولية.. هذا كما قامت روسيا ببيع نظام الدفاع المضاد للصواريخ إس- 400 ولم تبالِ الهند بالغضب الأمريكى، كذلك لم تقم الولايات المتحدة باتخاذ أى قرار ضد الهند لاتخاذها قرارًا بالتعاون مع الروس عسكريًا، ولم تطبّق عليها قانون كاتسا الذى يقضى بتوقيع عقوبات على الدول التى تترى أو تتعاون عسكريًا مع الروس والذى صدر 2018.
أمّا الجانب الروسى الذى أراد أن يؤكد حضوره فى الحسابات الدولية فقام بالحشد العسكرى على حدوده مع أوكرانيا تأكيدًا أنه دولة كبرى وللتأكيد على محيطه الأمنى الاستراتيچى فى أوكرانيا وبقية دول الاتحاد السوفيتى السابق، وأنه لن يتهاون بشأنه.. أو أن يسمح بتمركز «حلف الناتو» على حدوده، تبدو الأزمة الأوكرانية أقرب لاستعراض الدب الروسى الذى نجح فى مناورته الدبلوماسية والعسكرية ذلك حين قام بحشد 130 ألف جندى على الحدود المشتركة مع أوكرانيا وقبل أن يسحب فى لحظة ذروة الأزمة بعض قواته، ذلك فى الوقت الذى اشتعلت الأعصاب فى لحظة قام الدب الروسى بانسحاب بعض قواته قبل أن تهدأ فى لحظة أخرى، وظل السجال دائرًا، وما يحدث من الممكن توصيفه بالحرب النفسية، إن ما يحدث نراه بأنه إعادة لتشكيل النظام الدولى الجديد، وهو نظام تختلط فيه أنماط العلاقات، ذلك لتعدد الخيارات به، ولا يمكن حتى للدولة الأقوى أن تفرض إرادتها كيفما شاءت فى النظام الدولى ولن تعود فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى تسيُّد النظام الدولى كما كانت من قبل.
.. تحيا مصر.