الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مصر أولا.. بين كاريزما البابا وقوة الدولة: من له الحق فى تمثيل المواطنين المسيحيين المصريين؟!

مصر أولا.. بين كاريزما البابا وقوة الدولة: من له الحق فى تمثيل المواطنين المسيحيين المصريين؟!

من الملاحَظ، أن نظرة المواطنين المسيحيين المصريين إلى شخص البابا الراحل شنودة الثالث.. تطورت على مَر السنوات لتصبح بمثابة النظرة له كبطل وكحالة استثنائية تتسم بقوة العقل وصلابة الإرادة والقدرة على استشراف المستقبل وتحديد الأولويات.. فهو نتاج لعقل يُفكر ويملك القدرة على التفاعل السريع مع القضايا والأحداث قبل أى شىء؛ خصوصًا أن البابا شنودة ليس صورة مكررة لأسلافه.



 

إن نموذج البابا الراحل شنودة الثالث هو من أكثر البطاركة إثارة وجدلًا ليس فقط للمركز الدينى الذى تبوأه لأكثر من 40 عامًا فحسب؛ بل لكونه أيضًا من المشاركين فى العديد من المواقف والأحداث التاريخية المهمة فى النصف الثانى من القرن العشرين، وستظل تجربته فى أزمة الصدام مع الرئيس الراحل أنور السادات بعد تحديد إقامته فى الدير فى سبتمبر 1981 نقطة فاصلة فى علاقة الكنيسة بالدولة على مَر التاريخ.

وإذا كان هناك أفراد تصنعهم المؤسَّسات التى يتولون رئاستها لما لهذه المؤسّسة من ثقل أو تأثير فى المجتمع؛ فإن الحال يختلف مع البابا الراحل شنودة الثالث الذى تولى رئاسة الكنيسة القبطية.. فأحدث فيها تحولًا جذريًا فى آلية عملها وتفاعلها.. مما زاد من أهمية الكنيسة ومكانتها فى المجتمع من جانب، وأعطى للكرسى البابوى هيبته بإضافة أبعاد أخرى جديدة له من جانب آخر. كما أنه مع مرور الوقت وتنوع الخبرات وتراكمها تنامى حضور شخص «البابا» ودوره فى المجتمع، بينما توارت خلفه دور المؤسّسة التى يقودها ويعبر عن فكرها.. كظاهرة تعبر عن سيادة النمط المصرى التقليدى تاريخيًا، وسطوته فى التأثير على أتباع مؤسّسته الدينية.. وهو محل النقاش والجدل المستمر.

 

لم يكن الصدام بين قيادة الكنيسة مع رئيس الدولة هو البداية، ولكنها كانت إحدى نتائج تفاقم الضغوط والمشكلات والأزمات والتوترات الطائفية وتراكمها منذ ثورة يوليو 52 دون وجود حلول حقيقية. وهو الأمر الذى نتج عنه تراجع دور الدولة مع أبنائها من المواطنين المسيحيين المصريين من جهة، فى مقابل تنامى دور الكنيسة لسد فراغ الدولة لأتباعها من جهة أخرى. وهو ما رسخ تدريجيًا أن يكون البابا أو الكنيسة هى المعبرة عن المواطنين المسيحيين المصريين والمتحدثة باسمهم. 

ولذا كان من الطبيعى، أن يترتب تدريجيًا على ما سبق.. السؤال اللغم حول: مَن له الحق فى التحدث باسم المواطنين المسيحيين فى مصر؟ وذلك فى ظل مرور فترات سياسية.. لم يحصلوا فيها على حقوق المواطنة بشكل عملى وحقيقى.. حتى أصبحت «المواطنة» دون تأثير أو مضمون حقيقى؛ بل تم استخدامها سياسيًا وتوظيفها إعلاميًا. وظل الإنجاز هو أن أصبحت نصًا رسميًا فى المادة الأولى من الدستور المصرى حسب تعديلات سنة 2007.

وربما تكون هذه الملاحَظة الأخيرة هى السبب الأساسى فى اختلاف الآراء بين مؤيدين ومعارضين لمكانة الكنيسة فى التعبير عن هموم المواطنين المسيحيين المصريين ومشكلاتهم، أمْ أنها فقط المنوط بها المسئولية الروحية والدينية فى كل ما يخص أمور العقيدة المسيحية، وذلك على اعتبار أن الدولة هى المنوط بها المسئولية السياسية لهم؟.  

 

لا يوجد شخص محدد يتكلم باسم المواطنين المسيحيين فى مصر. وفى المسيحية يُمثل البابا رأس الكنيسة؛ حيث يعاونه العديد من الأساقفة الذين يشكلون فى مجملهم «المجمع المقدس» الذى يقوم بدور السلطة الدينية العليا للكنيسة وللمواطنين المسيحيين المصريين. وبالتالى؛ فالسلطة هنا هى سلطة دينية فقط، وليست سلطة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية.. مع تأكيدنا على التمييز بين كل من: الانتماء السياسى/ الوطنى، والموقف/ العمل السياسى، أى الفصل بين الموقف السياسى الناتج عن فهم مجريات أمور الوطن وبين العمل السياسى كرد فعل للفهم السياسى. وذلك على غرار أنه عندما يصرح البابا أو أى رتبة دينية برأى فى قضية ما؛ فهو يُعبر عن موقف مواطن مصرى يعيش فى هذا الوطن. فالموقف الوطنى للكنيسة هو الموقف الذى يُعبر عن إجماع الوطن بكل طبقاته وفئاته وأديانه على غرار الموقف من ثورة 30 يونيو العظيمة، وهو أمرٌ مقبول ومطلوب حتى لا نتهمها بالسلبية، أما المرفوض فهو دور رجال الدين السياسى.. وهو غير مرغوب فيه تمامًا.

ونموذج ذلك الدال، عندما صرّح البابا شنودة الثالث بمنع المواطنين المسيحيين المصريين من زيارة القدس.. كان يعنى حينذاك موقفًا ومبدأ وطنيًا من جانب، وموقفًا/ مبدأً عقيديًا من جانب آخر دون تعارُض؛ لأن زيارة القدس غير ملزمة فى العقيدة المسيحية.

ما سبق، هو ما جعلنى دائمًا أرفض تمامًا الرأى الذى استطاع نخبة الجماعة الإرهابية ترسيخه بالتأكيد على أن الدولة قد استساغت اعتبار البابا هو الممثل للمواطنين المسيحيين المصريين عند كل منعطف يمس التماسك الوطنى.. على اعتبار أن التعامل مع فرد– ممثلًا لجماعة– يجنب الكثير من متاعب التعامل مع القاعدة العريضة، وهو ما يُكرس– الأمر الجلل– بأن يتحول البابا إلى زعيم سياسى.. كان هدفًا لهجوم التيارات المتطرفة والمتشددة. وأعتقد أنه أمرٌ يرفضه البابا نفسُه قبل غيره.. لما يترتب عليه من تسييس الدين والمصالح. وهو ما يجعلنا نؤكد على فصل الدين عن السياسة، وعدم التداخل فيما بينهما.   

أعتقد أن أهم ما يميز البابا تواضروس الثانى أنه ليس كسَلفه الراحل البابا شنودة الثالث؛ لأن المقارنة ستنتهى دائمًا فى صالح سَلفه. وهى مقارنة غير عادلة على غرار المقارنة بين الراحل البابا شنودة الثالث وسَلفه الراحل البابا كيرلس السادس فى سبعينيات القرن الماضى بسبب اختلاف مقومات وسياق وتاريخ المقارنة بينهما، وبسبب خبرة البابا شنودة الثالث التى وصلت إلى أكثر من 40 سنة من التجارب والخبرات، وأيضًا النجاحات والإخفاقات. فضلًا عن اختلاف التحديات والمشكلات وتطورها بعد أحداث 25 يناير 2011. 

الملاحَظ فى مواقف البابا تواضروس الثانى، تأكيده بشكل غير مباشر على أن الكنيسة هى المؤسَّسة الدينية والروحية الرسمية للمواطنين المسيحيين المصريين، ولكنها لا تمثلهم سياسيًا. بمعنى أن الدور الروحى والوطنى للكنيسة هو أمرٌ ضرورى وفائق الأهمية (وعلى سبيل المثال موقفها من: المشاركة فى الانتخابات والتصويت). ولكن الدور السياسى للكنيسة هو أمرٌ غير مقبول ومرفوض، ولكنه مقبول لأبنائها من العلمانيين كمواطنين مصريين.. أى بمعنى أشمل فصل الدين عن الدولة تمامًا.

كما تحمل تصريحات البابا تواضروس الثانى.. دعم ومساندة ربط المواطن المسيحى المصرى بالوطن والدولة، وعليه يتحدد مفهوم الانتماء ومعانيه. وهذا لا يتعارض بالطبع مع الانتماء للدين وللمؤسّسة الدينية؛ لأن هذا الانتماء يمثل واحدًا من أهم مرتكزات العقل الجمعى المصرى فى منظومته الفكرية. غير أن الخطر الشديد أن تكون المؤسّسة الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلامية هى الوسيط بين المواطن المصرى والدولة. وما يمكن أن ينتج عن هذا من حدوث خلل أو شرخ فى منظومة انتماء الفرد لوطنه، بحيث نجد أنفسنا فى مأزق وطنى حينما تصبح المؤسّسة الدينية هى البديل الشرعى للوطن والدولة.

نقطة ومن أول السطر..

أذكر ملاحَظة مهمة جدًا، وهى أن كل ما سبق.. قد تم تحقيقه بسبب استعداد الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو العظيمة وفى جمهوريتها الثانية على استيعاب المواطنين المسيحيين المصريين.. وعدم اختزالهم فى كنيستهم؛ لتعود الكنيسة إلى دورها الروحى، ولتعود الدولة كمظلة لكل مواطنيها المسيحيين والمسلمين.. وليعود المواطنون المسيحيون المصريون إلى الاندماج فى منظومة المواطنة المصرية الحقيقية من دون تهميش أو استبعاد أو إقصاء أو تمييز أو تنمُّر.. وتكون الدولة هى المعبرة عن هموم المواطن المصرى وليس مؤسَّسته الدينية.