الأربعاء 17 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
 المضللون وثائق كشف أكاذيب الإخوان "معركة الأزهر ضد الجماعة الإرهابية" "2"

المضللون وثائق كشف أكاذيب الإخوان "معركة الأزهر ضد الجماعة الإرهابية" "2"

فتوَى أزهرية: النقراشى شهيد.. والإخوان يعادون الله ورسوله



 

فى 28 ديسمبر 1948 اغتالت جماعة الإخوان رئيسَ الوزراء «محمود فهمى النقراشى». الاغتيال الذى يمكن أن نعتبره حادثًا مُهمًا ومُؤثرًا وحاكمًا فى تاريخ الجماعة الإرهابية - باعتبار أن ما بَعده فى حياة الإخوان لم يكن مثل ما قبله أبدًا - أقدمت عليه الجماعة بعد أن قرر «النقراشى» حل الجماعة ومصادرة أموالها ومَقرَّاتها. 

لم يكن صعبًا أن يتم القبض على قاتل «النقراشى» عضو النظام الخاص، جناح الجماعة المسلح، «عبدالمجيد أحمد حسن»، ولم يكن عسيرًا على المحققين معه دفعه إلى الاعتراف بما فعله؛ فقد كان يعتبر قتله لرئيس الوزراء جهادًا فى سبيل الله، وأقنع نفسَه بذلك، فالنقراشى تجرأ على حل الجماعة التى هى جماعة ربانية، وعليه فهو تجرأ على الله.. فيستحق القتل!. 

تَخيَّل «حسن البنا» وقادةُ الجماعة أن اغتيال «النقراشى» يمكن أن يمر دون عناء، خَيَّل لهم غرورُهم ذلك، اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يفكر فى حل جماعتهم، لكن ولأن الحل حدث فلا بُدَّ من عقاب من تَجرأ على ذلك حتى يكون عبرة للجميع. 

رَدُّ الفعل السياسى والشعبى كان عنيفًا، وعلى عادته التى كان يتبعها أصدر «البنا» بيانًا صدره بأنه «هذا بيان للناس»، وعلى طريقة المريب الذى يكاد أن يقول خذونى، استنكر اغتيال «النقراشى» وتبرّأ من قاتليه، فى محاولة لنزع فتيل القنبلة التى كانت على وشَك الانفجار فى وجهه.

اشتعلت النار حول «البنا» 

فبَعد ما يقرب من أسبوعين وفى 16 يناير 1949 قام أعضاءُ التنظيم الخاص بتفجير محكمة الاستئناف بمنطقة باب الخَلق، يومها تطوّع «شفيق إبراهيم أنس»، أحد أعضاء التنظيم؛ لينقذ أعضاءَ الجماعة الذين تورطوا فى اغتيال «النقراشى» والتخلص من مستندات النظام الخاص التى وُجدت فى سيارة چيب تم ضبطها قبل أيام. 

حمل «شفيق» حقيبة وذهب بها إلى محكمة الاستئناف بباب الخَلق بوسط القاهرة، وادّعى أنه مندوب من خارج القاهرة جاء بقضايا يعرضها على مكتب النائب العام، وترك الحقيبة ثم انصرف بحُجة تناوُل الإفطار، وبعد مغادرته بدقائق شك الموظفون فى أمر الحقيبة فحملوها إلى خارج المحكمة لتنفجر على الفور. 

فى التحقيقات اعترف «شفيق» بأنه خطط للتفجير حتى ينسف المحكمة ليتخلص تنظيم الإخوان من أوراق ومستندات السيارة الچيب، وأن الخطة كلها وضعها قادة التنظيم وأشرفوا على تنفيذها. 

 كان لا بُدَّ أن يتصرف «حسن البنا» وبسرعة، ولم يجد أمامَه إلا أن يصدر بيانه «ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين». 

هل كان «حسن البنا» على قناعة أن قاتل «النقراشى» وشركاءه الثلاثة بالفعل «ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين»؟ أعتقد أنها كانت مناوَرة منه، كان يريد أن ينجو بما تبقى من جماعته، يقدم فروض الولاء والطاعة لمن بأيديهم القرار، وفى النهاية ينقذ رقبته، بعد أن أدرك أن حياته ستكون مقابل حياة رئيس الوزراء لا محالة، وهو ما يجعلنى أرى دائمًا أن «حسن البنا» هو مَن قتل نفسه؛ فقد دفع خصومَه دفعًا إلى اغتياله.

ما يؤكد لى أن «البنا» لم يكن راغبًا فى إصدار بيانه «ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين»، ما تكشف من أن هذا البيان تحديدًا كتبه الصحفى الكبير «مصطفى أمين». 

 كان «مصطفى أمين» صديقًا لحسن البنا، أو على الأقل من معارفه المقربين، فى مكتبه بأخبار اليوم جرت المفاوضات، تم دفع «البنا» دفعًا لأن يصدر البيان الذى فارق عنوانه عناوين بيانات الجماعة التى كانت تنحاز إلى أن تكون بيانًا للناس، أمّا «ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين» فهو عنوان صحفى يمكننا أن نكتشف بسهولة أنه من عناوين مَدرسة «مصطفى أمين». 

نقل «مصطفى أمين» إلى صديقه «حسن البنا» أنه لا بُدَّ أن يصدر بيانًا واضحًا وصريحًا يدين فيه ما جرى للنقراشى وللأحداث التى جرت بعد ذلك؛ لأن هناك اتجاهًا لجَعله شريكًا فى الجريمة، وأنه سيلقى نفسَ عقوبة القاتل، وأن إنقاذه الوحيد لن يكون إلا بالاعتراف الكامل والتفصيلى على قيادات عناصر التنظيم الخاص وكشف أماكن اختبائهم ومخازن الأسلحة التى يتم استخدامها فى العمليات الإرهابية. 

لم يوافق «البنا» على إصدار البيان، فى البداية تردد، كان يعرف أن هذا البيان لن يكلفه خسارة جماعته فقط؛ بل يمكن أن تجعله يخسر حياته، فى الحالتين لن يخرج رابحًا، لكنه فى النهاية رضخ وأبلغ «مصطفى أمين» أنه يوافق على البيان الذى كتبه «مصطفى» كاملاً، ولم يكن للبنا فيه أى دور إلا التوقيع عليه. 

كان البيان فى نصه كالآتى: «وقع هذا الحادث - حادث محاولة نسف مكتب سعادة النائب العام- وذكرت الجرائد أن مرتكبه كان من الإخوان المسلمين، فشعرت أن من الواجب أن أعلن أن مرتكب هذا الجُرم الفظيع وأمثاله من الجرائم، لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين؛ لأن الإسلام يُحرمها، والإخوان تأباها وترفضها».

«ومن المرجح؛ بل من المحقق، أنه إنما أراد به أن يتحدى الكلمة التى نشرت قبل ذلك بيومين تحت عنوان «بيان للناس»؛ ولكن مصر الآمنة لن تروعها هذه المحاولات الأثيمة، وسيتعاون هذا الشعب الحليم الفطرة مع حكومته الحريصة على أمنه وطمأنينته فى ظل جلالة المَلك المعظم على القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة».

«وليعلم أولئك الصغار من العابثين أن خطابات التهديد التى يبعثون بها إلى كبار الرجال وغيرهم، لن تزيد أحدًا منهم إلا شعورًا بواجبه، وحرصًا تامًا على أدائه، فليقلعوا عن هذه السفاسف، ولينصرفوا إلى خدمة بلادهم، كل فى حدود عمله، إن كانوا يستطيعون عمل شىء نافع مفيد». 

و«إنى لأعلن أننى منذ اليوم سأعتبر أى حادث من هذه الحوادث يقع من أى فرد سبق له اتصال بجماعة الإخوان، موجّهًا إلى شخصى، ولا يسعنى إزاءَه إلا أن أقدم نفسى للقصاص، وأطلب من جهات الاختصاص تجريدى من جنسيتى المصرية، التى لا يستحقها إلا الشرفاءُ الأبرياءُ، فليتدبر ذلك مَن يسمعون ويطيعون، وسيكشف التحقيق ولا شك عن الأصيل والدخيل. ولله عاقبة الأمور».

الغريب أن الإخوان حاولوا تجميل صورتهم بعد ذلك. 

فى كتابه (حقيقة التنظيم الخاص) يذهب «محمود الصباغ»، أحد أعضاء التنظيم، إلى أن اغتيال «النقراشى» لم يكن اغتيالاً سياسيًا؛ بل كان عملاً فدائيًا. 

وفى وصلة من التدليس الكامل يقول: «لا يمكن أن يعتبر قتل النقراشى باشا من حوادث الاغتيال السياسية، فهو عمل فدائى قام به أبطال الإخوان المسلمين، لما ظهرت خيانة النقراشى باشا صارخة فى فلسطين؛ بل أسهَم فى تسليمها لليهود، ثم أعلن الحرب على الطائفة المسلمة الوحيدة التى تنزل ضربات موجعة لليهود، فحل جماعتهم واعتقل قادتهم وصادر ممتلكاتهم وحرّم أن تقوم دعوة فى مصر تدعو إلى هذه المبادئ الفاضلة إلى الأبَد، فكانت خيانة صارخة لا تتستر وراء أى عُذر أو مبرر، مما يوجب قتل هذا الخائن شرعًا، ويكون قتله فرضَ عين على كل مسلم ومسلمة، وهذا ما حدث له من بعض شباب النظام الخاص للإخوان المسلمين دون أى توجيه من قيادتهم العليا، فقد كان المجرم الأثيم قد أودعهم جميعًا السجون والمعتقلات، وحال بين الإخوان ومرشدهم؛ حيث وضعت كل تحركاته تحت رقابة بوليسية علنية من تاريخ إصدار قرار الحل حتى اغتياله بأيدى جنود إبراهيم عبدالهادى».

لكن لماذا أقول إن هذه وصلة تدليس؟ لقد قلت ذلك لأكثر من سبب:

فالصباغ يسرِّب فى كلامه أن جماعة الإخوان وحدها هى جماعة المسلمين؛ أمّا غيرها فليسوا كذلك، وهى الصيغة التى اعتمدت عليها الجماعة فى تكفير الجميع واستحلال دمهم وأموالهم.

ثم إنه يكذب كذبًا بَيّنًا واضحًا، عندما يقول إن شباب النظام الخاص قتلوا «النقراشى» دون علم من قياداتهم؛ فقد كان «حسن البنا» يعلم ويبارك؛ بل سبق له أن حرّض على «النقراشى».

الوثائق هنا هى التى تتحدث.

الوثيقة الأولى؛ خطاب كتبه «البنا» بخط يده ورفعه إلى المَلك «فاروق».

يقول «البنا» فى خطابه: «حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك وادى النيل حفظه الله، أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو وأصلى وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وأحيى سدة جلالتكم المجيدة بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته متبوعة بأصدق آيات الإخلاص وأخلص معانى الولاء.

يا صاحب الجلالة لقد حُرمنا جهادنا فى فلسطين أو كدنا، لا لضعف فى جيشنا أو تخاذل فى شعبنا، أو نقص فى عددنا، أو جهل بواجبنا؛ ولكن لتحكُّم السياسة المتردّدة فى الحرب الصارمة وتدخُّل رئيس الحكومة فى شئون القتال وتردده فى مواجهة المواقف بما تقتضيه، إلى جانب العوامل الأخرى التى لا بُدَّ لنا فيها، ولكن كان فى وسع الحازم اللبق والقوى الفطن أن ينتفع بها ويستفيد منها.

ولقد انفرد الحاكم العام بالعمل فى السودان ينفذ فيه سياسة بريطانيا المرسومة، وخطتها الانفصالية المعلومة، وأخذ يوجِّه إلى مصر اللطمة بعد اللطمة، وينفذ من برنامجه الخطوة تلو الخطوة، والحكومة المصرية تمدُّ له فى ذلك وتشجعه على المُضى فيه بسياستها السلبية وهو ممعن فى عدوانه حتى بلغ به الأمْرُ أخيرًا إلى أن يمنع بعثة المحامين من أداء واجبها ويعلن على لسان رجاله أن مصر شىءٌ والسودان شىءٌ آخر، وكل هذا يحدث والحكومة المصرية لم تفعل شيئًا بعد.

والعالم كله يا صاحب الجلالة تغلى مراجله بالأحداث الجسام والخطوب العظام، ويبدو فى آفاقه كل يوم شأن جديد لا يقوَى أبدًا دولة النقراشى باشا على أن يضطلع بأعباء التصرف فيه بما يحفظ كرامة مصر ويصون حقوق الوادى المجيد العظيم، والنزاهة وطهارة اليد لا تكفى وحدها لمواجهة هذه الغمرات المتلاحقة من أحداث الزمن ومضلاَّت الفتن».

وفى وسط هذه اللجة من الحوادث الجسيمة التى تتصل بحاضر الوطن ومستقبله وكيانه فى الصميم، يعلن دولة «النقراشى باشا» الحربَ السافرة الجائرة على الإخوان المسلمين، فيحل بالأمر العسكرى بعض شعبهم، ويعتقل بهذه السُّلطة نفسها دون اتهام أو تحقيق سكرتيرهم العام وبعض أعضاء هيئتهم، ويأمر الوزارات والمَصالح المختلفة بتشريد الموظفين الذين يتصلون بالهيئة ولو بالاشتراك فى أقسام البر والخدمة الاجتماعية تليفونيًا أو تلغرافيًا إلى الأماكن النائية والمهاوى السحيقة، وما عليهم أن يُنقلوا فذلك شأن الموظف المفروض فيه، ولكن صدور هذه التنقلات فى هذه الصور الفاشية التى تحمل معنى الانتقام والاتهام تجرح الصدور وتثير النفوس وتسىء إليهم فى نظر رؤسائهم ومرؤوسيهم على السواء.

ويصدر الرقيبُ العام أمرَه بتعطيل جريدتهم اليومية إلى أجَل غير مسمى بحجة لا قيمة لها ولا دليل عليها؛ بل إنه لو صحَّت الأوضاع لكان للجريدة أن تؤاخذ الرقباء أشد المواخذة بمواقفهم منها وتعنُّتهم معها وعدم إصغائهم إلى شكاياتهم المتلاحقة.

ويتردد على الأفواه والشفاه قرار حل الهيئة ووعيد الحكومة لكل من اتصل بها بالويل والثبور وعظائم الأمور.

وأخيرًا يحاول رئيس الحكومة أن يلصق بالإخوان تهمة الحوادث الأخيرة والتى لم تكن إلا صدًى لهذا العدوان من الحاكم فى السودان، ولجهاد إخواننا السودانيين فى جنوب الوادى ويلقى عليهم تبعة هذا الحادث الأسيف حادث مصرع حكمدار العاصمة الذى كان المركز العام للإخوان المسلمين أول من أسف له وتألم منه، إذ كان رحمه الله معروفًا بعطفه على حركتهم ودفاعه عن هيئتهم ومواقفه الطيبة فى ساعات المحن إلى جانبهم مع حكمة فى العمل وإحسان فى التصرف.

ويحاول دولته أن يتذرَّع لهذه الحرب الشعواء بتحقيقات لم ينته أمرُها بعد، ولم يعرف فيها المتهم من البرىء إلى الآن، وإن كانت وزارة الداخلية فى بلاغاتها الرسمية قد خالفت أمْرَ النيابة وسبقت كلمة القضاء وأعلنت على رءوس الأشهاد اتهامَ الأبرياء.

يا صاحب الجلالة اسمح لى أن أجرؤ فى هذا المقام الكريم فأقول إن هذه المجموعة من الإخوان المسلمين فى وادى النيل هى أطهر مجموعة على ظهر الأرض نقاء سريرة وحُسن سيرة وإخلاصًا لله وللوطن وللجالس على العرش فى كل كفاحهم فى سبيل دعوة لا تخرج أبدًا عمّا رسم الإسلام الحنيف قيد شعرة، واتهم بحكم إيمانهم ومنهاجهم ونظامهم وانتشار دعوتهم بكل مكان فى الداخل والخارج أفضل قوة يعتمد عليها من يريد بهذا الوطن الخير ويتمنى له التقدم والنهوض، وأكتب ورقة فى يد كل عامل لخير البلاد والعباد، وأن تحطيم دعوتهم والقضاء عليهم وهو ما تستطيعه الحكومة إذا أرادته وصمّمت عليه، ولو فى ظاهر الأمر إلى حين بما فى يدها من سُلطات عسكرية، وما تملكه من قوة رسمية ليس فى المصلحة من شىء؛ بل هو قضاء على نهضة هذا الوطن الحقيقية وقتل للبقية الباقية من روح الإخلاص والجد والاستقامة والطهر فيه على أن نتائج هذا الموقف فى مثل هذه الظروف غير مضمونة ولا معروفة، ولا أدرى لحساب من يقوم دولة رئيس الحكومة بهذه المهمة ويحمل هذه التبعة الضخمة أمام الله وأمام الناس وفى التاريخ الذى لا ينسى ولا يرحم.

يا صاحب الجلالة إن الإخوان المسلمين باسم شعب وادى النيل كله يلوذون بعرشكم وهو خير ملاذ ويعوذون بعطفكم وهو أفضل معاذ، ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة إلى نهج الصواب أو بإعفائها من أعباء الحُكم ليقوم بها من هو أقدر على حملها، ولجلالتكم الرأى الأعلى والله أسأل أن يتم عليكم نعمة التأييد والتوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

كان التوقيع على الرسالة لافتًا، فقد كتب: «المخلص حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين».

الرسالة تحريضية ما فى ذلك شك، نخلص منها إلى أن «حسن البنا» كان يبذل جهدًا خارقًا لإزاحة «النقراشى باشا» من المجال العام، وحين لم يستجب له المَلك أو يتجاوب مع رسالته قرَّر أن الاغتيال هو الحل الوحيد.

وهنا تظهر أهمية الوثيقة الثانية، وهى كتاب (فى نهر الحياة)، الذى كتبه «عبدالعزيز كامل» أحد قادة الإخوان الذى انشق عنها فيما بعد وأصبح وزيرًا فى الحكومة.

الحديث ليس عن اغتيال «النقراشى»؛ ولكن عن اغتيال المستشار «أحمد الخازندار»، وهو القاضى الذى اغتاله التنظيم الخاص اعتراضًا على أحد أحكامه ضد الجماعة.

يقول «عبدالعزيز»: سألت الأستاذ «حسن البنا» هل أصدرت فضيلتكم أمرًا صريحًا لعبدالرحمن السندى بهذا الحادث؟

قال: لا.

قلت: هل تحمل دم «الخازندار» على رأسك، وتلقَى به الله يوم القيامة؟

قال: لا.

قلت: إذًا فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسئولية هذا أمام الله.

قال: نعم.

التفت «عبدالعزيز كامل» إلى «عبدالرحمن السندى» الذى رتَّب عملية اغتيال «الخازندار» وهو موجود معهما.

سألته: ممن تلقيت الأمر بهذا؟

فقال: من الأستاذ.

فقلت: هل تحمل دم «الخازندار» على رأسك يوم القيامة؟

قال: لا.

فقلت: وهذا الشاب الذى دفعتم به إلى قتل «الخازندار» من يتحمَّل مسئوليته والأستاذ ينكر وأنت تنكر، والأستاذ يتبرأ وأنت تتبرَّأ؟

قال عبدالرحمن: عندما يقول الأستاذ إنه يتمنَّى الخلاص من «الخازندار» فرغبته فى الخلاص أمر منه.

ما حدث مع «الخازندار» حدث مع «النقراشى»؛ فقد كانت الرغبة من «البنا» والتنفيذ من رجاله فى التنظيم الخاص.

بعد حادث اغتيال «النقراشى» صدرت وثيقة يمكننا اعتبارها من أوائل الوثائق الأزهرية التى تدين أعمال الإخوان، وتعتبرهم خارجين عن الإسلام بأفعالهم.

الوثيقة عبارة عن مقال كتبه الشيخ «أحمد محمد شاكر»، أحد علماء الأزهر الكبار، ونُشر فى جريدة الأساس العدد الصادر فى 2 يناير 1949، أى بَعد خمسة أيام من اغتيال «النقراشى».

وضع «شاكر» لمقاله عنوانًا دالاً وهو: «الإيمان قيد الفتك».

وقبل أن نقرأ المقال من المهم أن نعرف من هو الشيخ «أحمد محمد شاكر».

فهو واحد من أشهَر علماء الأزهر ومن أئمة الحديث، وُلد فى 29 يناير 1892 بالقاهرة، ووالده هو الشيخ «محمد شاكر»، العالم الأزهرى الذى شغل عدة مناصب وكان وكيلاً للأزهر، والتحق الشيخ «أحمد محمد شاكر» بمعهد الإسكندرية، ونال شهادة العالمية سنة 1917، وأخذ العلم عن الشيخ «محمود أبو دقيق» عضو هيئة كبار العلماء، وعلى والده الشيخ «محمد شاكر»، وعن السيد «عبدالله بن إدريس السنوسى»، والشيخ «سليم البشرى»، والشيخ «حبيب الله الشنقيطى».

يقول الشيخ «أحمد محمد شاكر» فى مقاله:

«رُوِّع العالمُ الإسلامى والعالمُ العربى بل كثيرٌ من الأقطار غيرهما باغتيال الرجل، الرجل بمعنى الكلمة النقراشى الشهيد غفر الله له وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين، وقد سبقت ذلك أحداث قدّم بعضها للقضاء، وقال فيه كلمته، وما أنا الآن بصدد نقد الأحكام ولكنى كنت أقرأ كما يقرأ غيرى الكلام فى الجرائم السياسية، وأتساءل: أنحن فى بلد فيه مسلمون؟

وقد رأيت أن واجبًا علىَّ أن أبيِّن هذا الأمر من الوجهة الإسلامية الصحيحة، حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر، ولعل الله يهدى بعض هؤلاء الخوارج المجرمين فيرجعوا إلى دينهم قبل ألّا يكون سبيل إلى الرجوع، وما ندرى من ذا بعد النقراشى فى قائمة هؤلاء الناس، وإن الله سبحانه توعَّد أشد الوعيد على قتل النفس الحرام فى غير آية من كتابه «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»، وهذا من بديهيات الإسلام التى يعرفها الجاهل قبل العالم، وإنما هذا فى القتل العمد الذى يكون بين الناس فى الحوادث والسرقات وغيرها، القاتل يقتل وهو يعلم أنه يرتكب وزرًا كبيرًا، أمّا القتل السياسى الذى قرأنا جدالاً طويلاً حوله فذاك شأنه أعظم وذلك شىء آخر.

القاتل السياسى يقتل مطمئن النفس، راضى القلب، يعتقد أنه يفعل خيرًا؛ فإنه يعتقد بما بُث فيه من مغالطات أنه عمل حلال جائز، إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسلامى قصَّر فيه غيره، فهذا مرتد خارج عن الإسلام، يجب أن يعامَل معاملة المرتدِّين، وأن تطبَّق عليه أحكامهم فى الشرائع، وفى القانون هم الخوارج، كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعون من اعترف على نفسه بالكفر، وكان ظاهرهم كظاهر هؤلاء الخوارج بل خيرًا منه، وقد وصفهم رسول الله بالوحى قبل أن يراهم، فقال لأصحابه: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».

وقال أيضًا: «سيخرج فى آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن فى قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».

والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة متواترة، وبديهيات الإسلام تقطع من استحل الدم الحرام فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

فهذا حُكم القتل السياسى هو أشد من القتل العمد الذى يكون بين الناس، والقاتل قد يعفو الله عنه بفضله، وقد يجعل القصاص منه كفارة لذنبه بفضله ورحمته؛ وأمّا القاتل السياسى فهو مُصرٌّ على ما فعل إلى آخر لحظة من حياته، يفخر به ويظن أنه فعل فعل الأبطال، وهناك حديث آخر فى القتل السياسى لا يحتمل تأويلاً، فقد كان بين «الزبير بين العوام» و«على بن أبى طالب» ما كان من الخصومة السياسية التى انتهت بواقعة الجَمَل.

جاء رجل إلى «الزبير بن العوام» فقال: أقتل لك عليًا؟

قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود؟

قال: ألحق به فأفتك به.

قال: لا.. إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن»، أى أن الإيمان يقيد المؤمن عن أن يتردى فى هوّة الردة، فإن فعل لم يكن مؤمنًا.

أمّا «النقراشى» فقد أكرمه الله بالشهادة، له فضل الشهداء عند الله وكرامتهم، وقد مات ميتة كان يتمناها كثيرٌ من أصحاب رسول الله، تمناها «عمر بن الخطاب» حتى نالها، فكان له عند الله المقام العظيم والدرجات العلى؛ وإنما الإثم والخزى على هؤلاء الخوارج القتلة مستحلِّى الدماء، وعلى من يدافع عنهم، ويريد أن تتردى بلادنا فى الهوّة التى تردت فيها أوروبا بإباحة القتل السياسى، أو تخفيف عقوبته؛ فإنهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون والهُدَى هُدَى الله».

لم يكن مقال الشيخ «أحمد محمد شاكر» واضحًا وحاسمًا فى موقفه وموقف الإسلام كما يراه من جماعة الإخوان فحسب؛ ولكنه كان موجعًا للإخوان، ولم ينسوه أبدًا.

ففى العام 1951 عندما أصدر الشيخ «محمد الغزالى» كتابه (من هنا نعلم)، وهو الكتاب الذى كان يرد به على «خالد محمد خالد» صاحب كتاب (من هنا نبدأ)، وهو الكتاب الذى هاجم فيه الإخوان وجعلهم فى العراء تمامًا، قال «الغزالى» بوضوح: «إننا نعرف أن الشيخ أحمد شاكر القاضى بالمحاكم الشرعية أصدر فتوَى بأن الإخوان المسلمين كفار، وأن من قتلهم كان أولى بالله منهم، والرجل الذى يصدر هذه الفتوَى كان ينبغى أن يُطرَد من زمرة العلماء، ومع ذلك فلا نحسب أحدًا أجرَى معه تحقيقًا».

لم يتعامل الإخوان مع ما كتبه الشيخ «أحمد شاكر» على أنه مقال رأى، يُعبِّر فيه عمّا يرَى أنه صحيح، ولكنهم استقرّوا على أنه فتوَى بتكفيرهم، وأعتقد أنهم بذلك كانوا يتحسَّسون البَطحة التى على رؤوسهم ولا تزال.