الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ ..ديننا الحنيف لا يحض على هجر الحياة

الحقيقة مبدأ ..ديننا الحنيف لا يحض على هجر الحياة

التصريحات التى أدلى بها وأكد عليها الرئيس «عبدالفتاح السيسى»: إن بناء الوعى وتصحيح الخطاب الدينى وتضافر جميع الجهود من أجل بناء مسار فكرى مستنير ورشيد يؤسّس به شخصية سوية قادرة على مواجهة التحديات وبناء المستقبل هى أهدافٌ مهمة لبناء الجمهورية الجديدة التى لا بُدّ أن تشيد على بناء العقل ونشر الوعى الدينى المحمود.. هذه الكلمات المهمة التى وردت بخطابه فى الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام- هى جهودٌ محمودة لمحاربة قوَى الظلام والتكفير البعيد كل البعد عن ديننا الحنيف، هذه الأهداف هى المحور العلمى البحثى الذى ينبثق من رؤية الأزهر العلمية والعالمية من خلال انتشار وعّاظه بين الناس بخطاب دعوى مستنير لا إفراط فيه يتخذ من منهج الأزهر الوسطى سبيلاً للتوعية وتحصين العقول من كل محاولات العبث أو تشتيت الأذهان، أو بث الأفكار الشاذة، كذلك حصر القضايا الجدلية وتفكيك الأسُس التى تقوم عليها هذه الأفكار المتطرفة والمغالاة فى التحريم لكل مناحى الحياة المعتدلة البعيدة عن التعصب والإرهاب والجهاد والحاكمية وغيرها من القضايا الشائكة التى تستغلها تلك الجماعات الظلامية، التى تشوّه الدين الإسلامى الحنيفَ الذى لا يرفض الحياة على البَشر فى سلام.



 

دينُنَا الحنيفُ لا يحضّ على هجر الحياة ولا مقاطعة العمل؛ بل العكس تمامًا، إنه يشجع المؤمنين على الإنتاج وتحسين الحياة؛ ذلك بالسعى لإعلاء قيم العلم؛ حيث أنزل القرآن الكريم فى إحدى سوره الكريمة ما يدعو إلى الزيادة فى العلم والتعلم، فقال تعالى «وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا»، ذلك الدعاء الذى أوصى به الله إلى الإنسان ليحفزه للاستزادة فى العلم والعدل والحق والتسامح.

إن نشر التعاليم السمحة أمرٌ مهم للحفاظ على ثوابت وقيم الإسلام النبيلة بحق البشر جميعًا فى الحياة؛ ذلك ليتحقق التعايش والسلام الاجتماعى بين البشر ونبذ الفتن، هذا مع إعمال العقل وهو أمرٌ مهم للوقوف أمام تلك الأفكار التكفيرية الهدامة التى تبث الخبيث من تلك الأفكار بعقول البعض الذين لا يفهمون الدين الحق، وينشأون بأفكار تكفيرية مغلوطة تكفّر مَن يخالفهم رأيَهم. كل ما سبق يقودنى إلى ذكريات قديمة بدأت من الطفولة وحتى اليوم.. أتذكر والدى الشيخ المعمم رحمه الله، الذى يحمل شهادة العالمية الأزهرية التى تعادل فى أيامنا الدكتوراه فى العلوم الدينية، هذا الشيخ الذى درس وفهم ووعى حقيقة ديننا الحنيف لأكثر من 25 عامًا.

بعد انتهائه من دراسته فى التفسير والوعظ والإرشاد عُيّن واعظًا عامًّا بمحافظة سوهاج عام 1934م، كان متزوجًا حديثًا، اصطحب زوجته ورضيعه الأول إلى هناك، حين وصوله إلى البلدة وجد قسًّا من أهل البلدة ينتظره حاملًا صينية كبيرة عليها الطعام، قدّمها لوالدى احتفاءً به وبأسرته.. وبوجه والدى البشوش حيّا القسيسَ وقدّم له الشكر على هذا الفضل، بقى أبى بهذه المحافظة لمدة من الزمن، كان خلالها صديقه المقرب هو هذا القس المسيحى الطيب، يتبادلان الزيارات والمَحبة والمودة، نُقل بعدها والدى إلى محافظتنا الحبيبة دمياط ليعمل بها واعظا دينيًا عامّا.. كان فى بلدتنا مَدرسة يطلق عليها مَدرسة الراهبات تقبل التلاميذ للتعلم بها دون تفرقة بين مسلم ومسيحى التحق بها 4 من أخوتى ثلاثة صبيان وصبية.. أول العام تبدأ المدرسة بالتعرف على التلاميذ الصغار وتسأل عن وظيفة أو مهنة والد كل تلميذ، سألت أحد أخوتى عن طبيعة وظيفة والدى، رد عليه الطفل بأنه يعمل واعظ عام دينى، سألته ما معنى واعظ عام، لم يعرف الصغير أن يشرح لها طبيعة عمل الوالد. عندما عاد إلى المنزل سأل الوالد عن مغذى عمله، عندها رد عليه الشيخ المعمم بأبسط كلمة وقال لولده قول لمعلمتك بأننى قسيس مسلمى المحافظة، هذا التعبير البسيط أعجب المعلمة التى تفهم قيمة المساواة والتعايش السلمى مثلها مثل والدى، الذى نُشئ وتربّى وفهم ووعى الدين الإسلامى الحنيف وشرحه فى كلمة بسيطة دون غلو ولا تطرُّف ولا عنصرية.

تمضى الأيام والسنون ونحن نسكن فى منزل بشارع يسمى شارع الصاغة، ذلك نسبة إلى الحوانيت التى تبيع الحُلى من الذهب والفضة، كانت تلك المهنة يحترفها فى بلدتنا أخوتنا مسيحيو دمياط، كان الجميع فى محافظتنا يعرفون ويحبون ويجلون رجل الدين عامّة، منهم هؤلاء التجار فى شارعنا، ينتظرونه كل صباح ليقرأ الصحف ويتبادل معهم الحوارات.. كنت طفلة صغيرة لا يتعدى عمرى حينها ثمانى سنوات ولنا أخ رعانا نحن الصغار.. علمنا جميعًا أنا وأخوتى الصبيان السباحة وركوب الدراجات وفى نهر النيل الجميل سبَحنا وتعلمنا، لم يعترض والدى على ذلك، لم يأبه للوم البعض من الأهالى على أنه سمح لابنته بممارسة تلك الهوايات الرياضية، وكان يرد عليها بما يتقنه من التعبير البليغ الذى يفحم به ويلجم أفواههم بأسلوب بليغ ليقنعهم بما أفعل.. وعندما كنت بالمدرسة الإعدادية والثانوية مارست الأنشطة المدرسية من حفلات مدرسية من تمثيل واستعراضات غنائية برقصات تعبيرية، وكانت تلك الأنشطة تمارَس وقتها فى كل مدارس مصر وتدخل بها كل محافظة لتنافس الأخرى فى مدى إجادة واختيار النصوص بالمسرحيات العالمية ويتم التحكيم من خلال خبراء من وزارة التعليم والتعليم العالى؛ للأسف كل هذا انتهى منذ سنوات لم تعد هذه الأنشطة موجودة ليومنا هذا، هذه الأنشطة التى مارستها لم يعترض عليها والدى، اعترض البعض أيضًا وعاتبوه وكالعادة لم يكترث أو يمنعنى، نسى هؤلاء أن النبى- عليه الصلاة والسلام- حينما دعا الآباء إلى تعليم أولادهم السباحة وركوب الخيل ولم يميز بين البنين والبنات.

 تمر السنون وننتقل إلى القاهرة لمرض والدى، يكبر الصغار ويصبح أحدهم ملازمَ صاعقة كان متميزًا فى خُلقه ودينه ويكبرنى فى السّن، كان أحد تلاميذ البطل الهمام الشهيد إبراهيم الرفاعى الذى استشهد فى حرب أكتوبر المجيدة بعد أدائه لأعظم عمليات البطولة والتفانى فى حب وطنه وتراب بلده، هذا الأخ هو الشهيد أحمد كمال الذى استشهد وهو فى الواحد والعشرين من عمره فى حرب اليمن، استشهد وهو يحمى كتيبة ليلًا بعملية خسيسة من أحد شيوخ القبائل الذين كانوا يريدون لليمن الدماء والظلام والجهل.. بعد أن علمنا بنبأ استشهاد أخى الذى كان يومًا بليغ الحزن والأسَى على أمّى- رحمها الله- ونحن، تلقى أبى النبأ وهو صابر على ما ابتلى به ليصبّر أمّى ويطلب منها الصبر. فوجئنا حينها بحضور بعض أصدقاء والدى من دمياط ليقدموا التعازى ومنهم إخوة مسيحيون، أخبرونا بأن شارع الصاغة الذى كنا نسكن فيه أغلقت محلاته حدادًا على استشهاد ابن الشيخ عبدالوهاب الذى فارق البلدة منذ 6 سنوات ولم ينسوه.

كل ما ذكرتُ ليستْ سيرة ذاتية لى أو لوالدى؛ لكن سطرتها ليعرف هؤلاء المغالون والمتعصبون الإرهابيون ما كنا نعيشه بتلك الأيام الخوالى وكان الشعب المصرى كله يعرف معنى التسامح والتعايش مع الآخر سواسية فى الحقوق والواجبات، تلك المبادئ التى جاءت بكل الرسالات الإلهية، هذا التعايش نادت به ثورة 1919 عندما التحم الشعب كله تحت لواء الدين والوطن للجميع.. وتحيا مصر.