الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ..  سيظل حاضرًا رغم موت الجسد عبدالناصر.. ملحمة وطــــن لا تمـــوت

الحقيقة مبدأ.. سيظل حاضرًا رغم موت الجسد عبدالناصر.. ملحمة وطــــن لا تمـــوت

رُغْمَ موت الجسد منذ 51 عامًا؛ فإن الزعيم الراحل بقى كالبريق الذى يستعصى إطفاؤه، ولا يزال يُشكل حضورًا طاغيًا، ذلك لأنه لا يزال المشروع والحلم والإنجاز للقطاع العريض من شعب مصر، لمن عاصروه ولأجيال وُلدت بعد عشرات السنين.. لا يزال «ناصر» يعيش فى وجدان الشعب العربى كله حتى ممن تضرروا من سياساته وكابوسًا لا يفارق قوَى الاستعمار والاستغلال.. حاولوا تشويه صورته، ويجهلون أنه مات «واقفًا»، رفض الشعب المصرى والعربى أن تغادر صورته ذاكرتهم، اقترب من الشعب فحملوه على الأعناق وأصبح نبضهم وصوتهم، أسكنوه بالقلوب.. 51 عامًا مرّت على جنازته التى لن تتكرر، ولم يشاهد ولن يشاهد العالم كله مثلها حتى الآن.



 

زحف المواطنون من كل بقاع المحروسة نحو القاهرة لوداع الزعيم «أبوخالد»، عاش معهم ولأجلهم؛ فأصبح حبيب الملايين، هتفوا باسمه بقلوب ملتاعة، بكت الأمّة العربية كلها، حتى من اختلفوا معه فى بعض الأوقات، حاول الأعداءُ والصهاينة تشويه الصورة ويجهلون أنه مات «واقفًا» لآخر نفَس فى صدره، ذلك بعد حل الأزمة التى نشبت بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التى كان يدعمها ويؤيد أهدافها مؤمنًا بالقضية الفلسطينية العادلة والمحورية للاهتمام القومى العربى وللشعوب المؤمنة بالحرية والعدالة.

وتم عَقد قمّة عربية طارئة بالقاهرة فى 27 سبتمبر عام 1970 بذل فيها الكثير من الجهد حتى تتم المصالحة، ومات بعد أن ودّع آخر الرؤساء العرب بعد إتمام المصالحة العربية بين منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، كان الشعب العربى عامّة يُشاهد الأحداث عبر شاشات التليفزيون. أصيب بالأزمة القلبية فور وصوله منزله، ولم يستطع الطقم الخاص به إنقاذه، فتوفى عن عمر ناهز الثانية والخمسين عامًا. رحل الزعيمُ تُشَيّعه دموع حارقة من أكثر من خمسة ملايين مواطن من شعبه الذى ظل متمسكًا به حتى اليوم.

تلك الجنازة التى لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً من قبل وحتى يومنا. هتفوا فى تشييعهم للزعيم مرددين هتافًا حزينًا وبعفويتهم مرددين «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين».. لم يعرف العالم أمّة خرجت جماهيرها من قبل بالملايين فى جميع بقاعها وكفورها تُطالب زعيمها المهزوم فى الحرب بالبقاء، رافضين تنحيه عن السُّلطة حتى يتم النصر بقيادته وليس غيره.

 لهم وبهم، كان بالنسبة لهم رمزَ الصمود والتصدى والصدق والوفاء لهم وللوطن، وضد الانكسار، وبالفعل بدأ منذ ذلك اليوم الإعداد ليوم الثأر الذى تحقق عام 1973، وبالفعل أعاد «عبدالناصر» بناءَ القوات المسلحة بادئًا من تحت الصفر، وقام بترتيب البيت وتنظيم صفوف قواته، وقام بتصحيح الأسباب التى أدت إلى الهزيمة العسكرية، استعدادًا ليوم الفصل.

خاضت مصر تحت قيادته حربَ الاستنزاف التى توصف بأنها بروفة لحرب أكتوبر. فى فبراير عام 1968 أصدر «ناصر» قرارًا جمهوريًا بإنشاء قوات الدفاع الجوى لتمثل القوة الرابعة فى قواتنا المسلحة والتى نجحت بعدها فى إنشاء حائط الصواريخ، وفى صُبح 30 يونيو 1970  وخلال حرب الاستنزاف تمكنت تجميعات الدفاع الجوى من إسقاط طائرتى «فانتوم» واثنتين أخريين «سكاى هوك»، وكانت هذه أول مرّة تسقط فيها طائرة فانتوم، ثم توالى بعد ذلك سقوط الطائرات حتى وصل عددها إلى اثنتى عشرة طائرة.

«ومن أجل هذا الحدث أصبح 30 يونيو عيدًا للقوات الجوية»، هذا الحائط تم بناؤه بملحمة عظيمة؛ حيث تم بناؤه فى ظروف بالغة الصعوبة، وكانت القوات الجوية الصهيونية تعمل بشكل دءوب لمنع مصر من إنشاء أى تحصينات، وكان الصهاينة ينجحون فى إصابة أو هدم ما يتم تشييده من تلك التحصينات، إلا أن الجندى المصرى وقيادته نجحوا فى إنشاء حائط الصواريخ. المواطن المصرى الذى رفض الهزيمة بتظاهرات 9 و10 يونيو المليونية، والتى امتدت إلى العالم العربى كله، وعبّروا عن ذلك بأشكال كثيرة، كان من أبرزها حمل الشعب السودانى سيارة الزعيم «ناصر» من مطار الخرطوم على أعناقهم حتى أوصلوه بها لمنزل محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء السودانى آنذاك؛ لإتمام المصالحة بين «عبدالناصر» و«الملك فيصل» ملك السعودية حينها عام 1967.

اليقين والحقيقة التاريخية التى سطرتها بطولات حربُ الاستنزاف كان من بينها عمليات شرسة ضد الكيان الصهيونى وكبّده الكثير، مما جعله يلتاع ويندم على ما أصابه بالخذلان ودفع بالإعلام العبرى إلى محاولة فاشلة فى النيل من الزعيم «عبدالناصر» حتى بعد مماته بعد فشلهم فى النيل منه حيًا، زعموا حينها أن تل أبيب قتلته خجلًا بعد نكستنا فى 1967، تناسوا أنه مات وهو واقف شامخ منصور برجالات القوات المسلحة الذين لم يتوانوا فى حرب الاستنزاف بإثقال العدو الصهيونى بالهزائم المتتالية فى الأرواح والعتاد، الأمر الذى دعاهم للهرولة نحو واشنطن لإطلاق مبادرة وقف إطلاق النيران.

سر قوة «ناصر» هى شخصيته التى اكتشفها الشعب المصرى، ذلك لأن شخصيته شعبية أصيلة تمتد جذورها إلى أعماق الشعب المصرى، شخصيته تستمد عناصرها من كل فلاح وكل عامل وكل مثقف حتى من تضرروا من سياساته، إنهم يشعرون بالفخر كلما ذكر اسمه وحتى يومنا هذا. كان خبر وفاة الزعيم يوم 28 سبتمبر 1970 صدمة داخل الوطن العربى وخارجه، تبارى الكثيرون منهم وقتها فى إبداء انفعالهم تجاهه حتى من البعض الذين عارضوه حيًا وتعرّضوا حينها للاعتقال فى فترة رئاسته، وكان من الغريب أن يمتدحه بعض الشعراء الذين كانوا على خلاف معه ومع نظامه، إلا أنهم بعد خبر وفاته الذى أصاب الشعوب العربية بالحسرة والحزن القاتل من هذه الفجيعة.. فنرى الشاعر نزار قبانى الذى هاجم فى قصيدة شعرية الأنظمة العربية كلها كتب قصيدته الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة»، لكن المفاجأة أنه بعد وفاة «عبدالناصر» كتب قصيدة صارخة فى رثاء «ناصر» لم يرثِ بها أحد محبيه واصفًا الزعيم الراحل فى القصيدة «بالهرم الرابع»، قال فيها: «السيد نام، السيد نام، السيد نام، كنوم السيف العائد من إحدى الغزوات- السيد يرقد مثل الطفل الغافى فى حضن الغابات.. السيد نام.. وكيف أصدّق أن الهرم الرابع مات؟».. بعد تلك القصيدة لحقها بأخرى كتب فيها «قتلناك يا آخر الأنبياء».. كذلك فعل الشاعر فؤاد حداد الذى اعتقل أكثر من مرّة، لكن عند وفاته كتب رثاء للزعيم فى ديوان بعنوان «استشهاد جمال عبدالناصر» قائلاً فيه: «يا حضن مصرى، يا طلعة فَجر، يا رئيس مع السلامة يا والد يا أحَن شهيد».

51 عامًا مرّت على وفاة «أبوخالد» إلا أنه ظل رمزًا للاستقلال والكرامة، صورته تُرفع فى الأزمات، وذكراه تتجدد مع الثورات وكأنه بيننا.. شعورنا يوم رحيله كان كالأيتام على مائدة اللئام.. مات وقلبه معلق بفلسطين وشعبها المكلوم، رحل وقبل الرحيل بساعات نجح فى توقيع اتفاق القاهرة من أجل حقن الدماء الفلسطينية وإنقاذ زعيمها «ياسر عرفات».

وهب حياته للعروبة، كان أيقونة ونقطة مضيئة فى تاريخ مصر وشعبها لم ينطفئ بريقها، ولا تزال حدة النظرات قادرة على الإرباك حتى بعد الرحيل، لم يقتصر بريق تلك الشخصية على الشعوب العربية؛ بل جميع شعوب العالم المتطلعين إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، تأججت حركات التحرُّر والتغيير فى أرجاء شتى بالعالم فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. نرفع صورته بعد رحيله ومنذ 51 عامًا مضت مع كل مناسبة وطنية لأن صورته تجسّد مدى إيماننا بأنه كان صوت المعذبين فى الأرض وهو سبب لا يخفى على أحد عاصره أو قرأ عنه أو سمع عنه، هو المؤمن الذى دفع حياته انتصارًا لقضية العدالة والحرية والانحياز للطبقات الفقيرة.. عاش جمال عبدالناصر.. وتحيا مصر.