الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

يرجع إليها نشأة الأديرة للراهبات فى مصر: دميانة القديسة التى أعادت والدها عن طريق الضلال

قديسات مصريات علمن العالم



فى هذه السلسلة نعرض نماذج لقديسات مصريات

اعترف بهن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.. كان لهن أثر كبير ليس فى الكنيسة فحسب بل أدين أدوارهن المجتمعية.. وترددت أسماؤهن داخل مصر وخارجها..

فى بيوتنا المصرية عندما ترحل الأم مبكرًا عن بيتها تصبح الابنة الكبرى أيًا كان عمرها هى عمود الأسرة من بَعدها وتكون سَند والدها  تراعى أخواتها وتكون سَند الأب دائمًا.. وفى قصة هذا العدد لم تكن فقط السَّنَد؛ بل كانت صوت الحق الذى أرجع والدَها عن طريق الضلال وكانت السَّنَد له حتى استشهد على اسم المسيح متمسكا بعقيدته بعد أن أنكر إيمانه وكانت ابنته السبب الرئيسى فى صحوة ضميره.. إنها الشهيدة «دميانة» والتى يرجع إليها أيضًا نشأة الأديرة للراهبات فى مصر.

 

 ابنة والى البرلس

وُلدت «دميانة» من أبوين مسيحيين فى أواخر القرن الثالث، كان أبوها مرقس واليًا على البرلس والزعفران بوادى السيسبان.

وعندما بلغت العام الأول من عمرها تعمدت فى دير الميمة جنوب مدينة الزعفران، وأقام والدها مأدبة فاخرة للفقراء والمحتاجين لمدة ثلاثة أيام وبعد فترة توفيت والدتها وتركتها فى رعاية والدها الذى أحسن تربيتها على العقيدة المسيحية.

وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها تقدَّم أحد الأمراء إلى والدها يطلب يدَها، وكانت معروفة بتقواها ومَحبتها للعبادة مع جمالها وغناها وأدبها.

عرض الوالدُ الأمرَ عليها، فأجابته: «لماذا تريد زواجى وأنا أود أن أعيش معك؟ هل تريدنى أن أتركك؟»، تعجب والدُها لإجابتها هذه، فأرجأ الحديث عن الزواج.

لاحظ «مرقس» على ابنته أنها أحبت الكتاب المقدس، وكانت تلجأ إلى حجرتها الخاصة لتقرأ وتصلى فى خلوة منفردة، كما لاحظ تعلقها الشديد بالكنيسة مع كثرة أصوامها وصلواتها، وحضور كثير من الفتيات صديقاتها إليها يقضين وقتهن معها فى حياة نسكية تتسم بكثرة الصلوات مع التسابيح المستمرة.

 بداية عزلتها 

وعندما بلغت الثامنة عشرة كشفت لوالدها عن عزمها على حياة البتولية، فرحب والدها بهذا الاتجاه، ولتحقيق هذه الرغبة بنَى لها قصرًا فى جهة الزعفران بناءً على طلبها؛ لتنفرد فيه للعبادة، واجتمع حولها أربعون من العذارَى اللواتى نذرن البتولية.

فرحت «دميانة» لمَحبة والدها لها التى فاقت المَحبة العاطفية المجردة، إذ قدّم ابنته الوحيدة ذبيحة حب لله. عاشت مع صاحباتها حياة نُسكية. امتزج الصوم بالصلاة مع التسبيح.

 وقوفها أمام والداها

 أثناءَ الاضطهاد الذى أثاره الإمبراطور الرومانى «دقلديانوس» ضعف أبوها «مرقس» وبخر للأوثان.

فما إن سمعت «دميانة» هذا الخبر حتى خرجت من عزلتها لتقابل والدها. طلبت «دميانة» من صديقاتها العذارى أن يصمن ويُصلين لأجل خلاص والدها حتى يرجع عن ضلاله.

التقت القديسة بوالدها، وفى شجاعةٍ وبحزم قالت له: «كنت أود أن أسمع خبر موتك عن أن تترك الإله الحقيقى». كما قالت له: «اعلم يا والدى أنك إذا تماديت فى هذا الطغيان لست أعرفك وسأكون بريئة منك هنا وأمام عرش الديان؛ حيث لا يكون لك نصيب فى الميراث الأبدى الذى أعده الله لمحبيه وحافظى عهده».

صارت تبكته بمرارة عن جُحده لمسيحه مَهما كانت الظروف. وسألته ألا يخاف الموت؛ بل يخاف من يُهلك النفس والجسد معًا، وألا يجامل الإمبراطور على حساب إيمانه وأبديته. مع حزمها وصراحتها الكاملة كانت دموعها تنهار بلا توقف، وهى تقول له: «إن أصررت على جُحدك للمسيح؛ فأنت لست بأبى ولا أنا ابنتك!».

 رجوع مرقس

 ألهبت هذه الكلمات والدموع قلبَ مرقس، فبكى بكاءً مُرًا وندم على ما ارتكبه. فى توبة صادقة بروح التواضع المملوء رجاءً قال لها: «مباركة هى هذه الساعة التى رأيتك فيها يا ابنتى. فقد انتشلتينى من الهوّة العميقة التى ترديت فيها. وتجددت حياتى استعدادًا لملاقاة ربى العظيم الذى أومن أنه يقبلنى إليه». فتركها للوقت وذهب إلى إنطاكية لمقابلة «دقلديانوس» وجهر أمامه بالإيمان، وندم عما أتاه من تبخير للأصنام. تعجّب الإمبراطور لتحوّل هذا الوالى المتسم بالطاعة، والذى ترك إيمانه وبخر للأوثان أنه يجاهر بإيمانه بكل قوة.

وبَّخ مرقس الإمبراطور على جُحده الإيمان، وحثه على الرجوع إلى الإيمان الحىّ. لم يتسرع الإمبراطور فى معاقبته بل استخدم محاولات كثيرة لجذبه إليه، وإذ لم يتراجع مرقس ثارت ثائرة الإمبراطور وأمر بقطع رأسه.

وكان ذلك فى الخامس من أبيب، فى عيد الرسل والذى يوافق 12 يوليو من كل عام.

انتشر الخبر فى كل الولاية وتهلل قلب ابنته «دميانة»، وفى الوقت نفسه حزن الإمبراطور على مرقس، إذ كان موضع اعتزازه وتقديره.

 رحلة التعذيب

بعد أيام علم دقلديانوس أن ابنته «دميانة» هى السبب فى رجوع مرقس إلى الإيمان المسيحى، فأرسل إليها بعض الجنود، ومعهم آلات التعذيب؛ للانتقام منها ومن العذارى اللواتى يعشن معها. شاهدت القديسة الجُند قد عسكروا حول القصر وأعدوا آلات التعذيب، فجمعت العذارى وأعلنت أن الإمبراطور قد أعد كل شىء ليُرعبهن، فمن أرادت أن تواجه هذا المصير فلتنتظر؛ وأمّا الخائفة فلتهرب من الباب الخلفى. فلم يوجد بينهن عذراء واحدة تخشى الموت. بفرحٍ قُلن أنهن متمسكات بمسيحهن ولن يهربن.

التقى القائد بالقديسة وأخبرها بأن الإمبراطور يدعوها للسجود للآلهة ويقدم لها كنوزًا ويُقيمها أميرة. أمّا هى فأجابته: «أما تستحى أن تدعو الأصنام آلهة، فليس إله سوى رب السماء والأرض. وأنا ومن معى مستعدات أن نموت من أجل اسمه». اغتاظ القائد وأمر بتعذيبها. وكانت العذارى يبكين وهنّ ينظرن إليها.

أُلقيت دميانة فى السجن وهى أشبه بميتة، إلا أنها قاومت وأكملت الرحلة. فى الصباح دخل الجند السجن لينقلوا خبر موتها للقائد، فكانت دهشتهم كبيرة من مقاوماتها.

أعلنوا ذلك للقائد، فثار جدًا وهو يقول: «دميانة ساحرة! لا بُدّ من إبطال سحرها!»، إذ رأتها الجماهير صرخوا قائلين: «إننا نؤمن بإله دميانة»، وأمر القائد بقتلهم. ازداد القائد حنقًا ووضع فى قلبه أن ينتقم منها بمضاعفة العذابات؛ حاسبًا أنها قد ضلَّلت الكثيرين.

أُلقيت فى السجن، وفى اليوم الثانى ذهب القائد بنفسه إلى السجن حاسبًا أنه سيجدها جثة هامدة، لكنه انهار حين وجدها سليمة تمامًا، وفى ثورة عارمة بدأ يُعذبها بطرق كثيرة وأخيرًا أمر بضربها بالسيف هى ومن معها من العذارى، فنلن جميعًا الشهادة.

 دير البرارى 

فى القرن الرابع الميلادى جاءت الإمبراطورة «هيلانة» إلى برارى بلقاس وشيدت مقبرة خاصة بالقديسة «دميانة» والأربعين عذارى كما شيدت كنيسة على هذه المقبرة وقد دشن هذه الكنيسة البابا «إلكسندروس الـ19» يوم 12 بشنس ورسم أسقفًا للمنطقة.

وتمت إعادة بناء الدير فى عهد البابا خائيل الأول البطريرك 46 من باباوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذى دشن الدير أيضًا فى 12 بشنس.

بعد ذلك اعترف المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ديرًا للراهبات فى أول جلسة له فى يوم 20 فبراير 1979م وقد وصل عدد الراهبات الآن إلى أكثر من 80 راهبة وطالبة رهبنة.

كانت منطقة شمال الدلتا عامرة بالأديرة القديمة والكنائس الكثيرة المنتشرة فى كل مكان. ومن هذه الديارات دير القديسة دميانة بالبرارى، تلك الرقعة من الأراضى التى كانت تتبع قديمًا جزءًا من مقاطعة مصرية تسمى إقليم البرلس والزعفرانة بوادى السيسبان.

سُمى الإقليم بالزعفرانة؛ حيث اشتهرت هذه المنطقة بزراعة أنواع نادرة من الزعفران والحشائش العطرية الغالية القيمة. والزعفران اسم لنبات يسمى فى المصطلح اليونانى واللاتينى السيسبان. 

وحاليًا يقع إقليم البرلس فى شمال الدلتا، وتسمية المنطقة بالبرارى ترجع إلى أن أجزاء كبيرة من هذه المنطقة كانت أراضى بور خالية من الزراعة وبعضها أراضٍ منخفضة عن مستوى البحر وكانت تغمرها المياه وتكسوها النباتات المائية؛ خصوصًا كلما اقتربت من بحيرة البرلس.

أثناء زيارة العائلة المقدسة لمصر، مرّت بمنطقة البرلس- آتية من سمنود- حيث منطقة البرارى التى أُريقت فيها- فيما بعد- دماء القديسة دميانة والأربعين عذراء. ولقد تقدّست هذه المنطقة وتباركت بهذه الزيارة.

فى القرن الرابع (بعد ثلاثة قرون من الزيارة المباركة للعائلة المقدسة)، نشأ الدير بحرى مدينة الزعفرانة التى كانت بمثابة عاصمة لمنطقة البرلس وبها كرسى أسقفى، سكن فيها والدا القديسة. وبعد استشهاد القديسة «دميانة» مع العذراى دُفنت أجسادهن فى المكان الذى تعبدت فيه، إلى أن جاءت الإمبراطورة «هيلانة» أم الملك قسطنطين وبنت مقبرة خاصة بهن وكنيسة على هذه المقبرة وذلك أثناء قيامها ببناء كنيسة القيامة بأورشليم.

وفى القرن السادس، فى عهد الأنبا يوحنا أسقف البرلس- زمن البابا دميانوس الـ35 (563-598م) كتب مخطوطة تشمل تتابع أحداث سيرة القديسة «دميانة»، ثم بعد ذلك عندما أعيد البناء فى أيام الخليفة سنان.. وتوجد نسخ من هذه المخطوطة فى مكتبة دير القديسة دميانة: نسخة يعود تاريخ نساختها إلى سنة 1449ش، أى سنة 1732م، أى أنها نُسخت منذ نحو 273 سنة ميلادية. ونسخة أخرى يعود تاريخ نساختها إلى سنة 1498ش، أى سنة 1781م، أى أنها نُسخت منذ نحو 224 سنة ميلادية ولا يزال جسد الشهيدة «دميانة» فى كنيستها التى شيدتها لها الملكة «هيلانة»، والكائنة قرب بلقاس فى شمال الدلتا.

كما بنيت كنائس كثيرة باسمها فى كل القطر المصرى، وأصبحت القديسة «دميانة» تُعرف بأنها مؤسِّسة الحياة الديرية للراهبات فى مصر، وذلك بعد أن عاشت حياة النسك والعزلة مع الأربعين عذراء فى البرارى المصرية.