الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
تحولات الإعلام فى تونس

تحولات الإعلام فى تونس

(حينما قابلت صديقى الصحفى التونسى بعد طول غياب، سألته عن حال الإعلام فى بلاده بعد مرور عشر سنوات من اندلاع الثورة، أجابنى بلهجة تونسية محببة إلى قلبى: «دار لقمان على حالها .. يا صديقى»!



مع انتقال ديمقراطى ملىء بالعثرات والسقطات- رأى فيه البعض أنه يقدم نموذجًا عربيًا لما ينبغى أن يكون عليه الانتقال السياسى الديمقراطى- جاء الانتقال الإعلامى أكثر صعوبة مع عدم وجود بوصلة واضحة للإعلام أو رؤية شاملة بشأنه لدى مَن حكموا، تنحاز للوطن ومستقبله لا للمَصالح السياسية الضيقة على مدار السنوات العشر الماضية).

 

إعلام العناية الفائقة بالزعيم

فى الأول من مايو 1966 ومع أول بث للتليفزيون التونسى الوطنى وبمناسبة الاحتفال بعيد النصر خاطب الزعيم «بورقيبة» شعبه قائلًا: (انطلاقًا من اليوم يجنبنا التليفزيون عناءَ حضور الاجتماعات العامة تحت الشمس الحارقة أو تحت المطر... اجتماعاتنا ستجرَى من الآن فصاعدًا عندكم داخل بيوتكم وفى صالوناتكم.. لذا فكل ما يلزم هو أن تحصل كل عائلة على جهاز استقبال، ومنه يبرز حرصنا على التخفيض فى أسعار أجهزة الاستقبال التليفزيونى..).

كان الرئيس «بورقيبة» فى ذلك اليوم، يضع حَجَر الزاوية للمجال العام الجديد فى تونس، ويؤسّس للضوابط التى ستحكم عمله، وبالفعل ظل المجال الإعلامى يعمل ببصيرة السُّلطة السياسية، وظلت (اجتماعات) الرئيس بشعبه داخل البيوت وفى الصالونات والمقاهى يؤمّنها التليفزيون والإذاعة اللذان ينقلان نشاطه الرئاسى وحتى احتفالات عيد ميلاده؛ حيث تتخذ البرامج الإذاعية والتليفزيونية منحى خاصًا يمنح الاحتفال أولوية مطلقة فى الخريطة البرامجية، وأولوية تجند لها الكفاءات الفنية والتقنية، وبدأت منذ ذلك اليوم تتشكل (فلسفة) فى الإنتاج الإعلامى تدور كلها حول العناية الفائقة بالزعيم، ومن اللافت فى تلك الفترة سلسلة المحاضرات التى كان يقدمها «بورقيبة» بنفسه فى معهد الصحافة وعلوم الأخبار بجامعة منوبة مخاطبًا طلاب العلم، وكذلك الشعب التونسى بأكمله، كان «بورقيبة» خطيبًا مفوهًا ويمتلك كاريزما خاصة، وفى تقديرى أن ذلك كان يعكس ذكاءً حادًا ووعيًا فارقًا لـ«بورقيبة» أن يخاطب فئة الشباب بُناة المستقبل بشكل مباشر وجهًا لوجه، من أجل نشر أفكاره التى أسّست تونس الحديثة، فمع اختلاف التقييمات وتعددها لفترة حُكمه فإننا لا ننكر إذا نظرنا- بعين الإنصاف والموضوعية- لمنجزه السياسى والفكرى ما قدّمه وأشاعه من أفكار حول إعلاء قيم العلم والتعليم والبناء والمدنية وتحرر المرأة وهو ما جنت ثماره أجيال متعاقبة فى تونس تتسم بقدر كبير من التفتح والثقافة والتعليم.

الإعلام فى زمن «بن على» 

شهدت صناعة الإعلام التونسى عددًا من فترات «الصحوة» القصيرة، إلا أنها نجمت أساسًا عن رغبة سياسية فى فتح هذه الصناعة من أجل تخفيف حدّة التوتّرات الاقتصادية التى مرّت بها البلاد، وعكس صورة إصلاحية للنظام. وتأسيسًا على ذلك؛ شهدت السنوات (1977-1988) «ربيعًا صحافيًا تونسيًا»، تمثّل فى ظهور عدد من المطبوعات المستقلّة، وجلب صعود «بن على» إلى السُّلطة «ربيعًا» آخر قصيرًا لوسائل الإعلام فى البلاد (1988-1990)، لكن سرعان ما طُبّقت لأول مرّة تدابير مثل الرقابة المسبقة على الصحافة، وبموجب تلك السياسة، كانت المطبوعات تضطر إلى تسليم نسخ إلى وزارة الإعلام لمراقبة محتواها قبل توزيعها.

وقد خضع قطاع الإعلام المرئى والمسموع إلى هيمنة قناتين تليفزيونيتين كبيرتين، تمثّل دورهما فى تغطية نشاطات الرئيس وعائلته، (الوطنية 1) و(الوطنية 2). وفى غضون السنوات العشرة الأخيرة من عمر نظام «بن على»، أصبح محتوى القناتين يركّز على أخبار «العشيرة» الأوسع وليس الرئيس فقط. إضافة إلى هاتين القناتين الكبيرتين، كانت هناك قناتان تليفزيونيتان خاصتان واثنتا عشرة محطة إذاعية، تملك الدولة اثنتين منها. كان لقناتين أخريين كبيرتين ترتبطان بالنظام (تليفزيون حنبعل وتليفزيون نسمة) مشاهدة واسعة فى جميع أنحاء البلاد، لكن لا يمكن وصفهما بأنهما مستقلّتان. فقد منعت كل وسائل البث الخاصة من تقديم تقارير عن المجال السياسى، وظلّ الأمر حكرًا على وسائل الإعلام التى تديرها الدولة، والتى اقتصر دورها السياسى على سرد أخبار أسرة الرئيس.

تولّت مجموعة كبيرة من مؤسّسات الدولة تنظيم الجهاز الإعلامى. كانت وزارة الاتصالات تتولّى المسئولية العامة عن الإعلام التونسى، فيما كانت وزارة الداخلية هى المسئولة عن المصادقة على طلبات إصدار المطبوعات الجديدة. وقد حوّلت وزارة الداخلية تلك العملية، التى كان ينبغى أن تقتصر على مجرد إخطار بسيط، إلى نظام مقنّع لمنح التراخيص.

ولعبت الوكالة التونسية للاتصال الخارجى دورًا محوريًا فى كل هذا. أُنشِئَت هذه الوكالة، التى كانت تتبع وزارة الاتصالات، فى العام 1990، وكانت مهمّتها الرئيسية تجميل صورة النظام فى وسائل الإعلام الدولية.

مواقع التواصل الاجتماعى.. الفضاء البديل تونسيًا

بعد اندلاع الثورة، شهدت العلاقة بين الإعلام والدولة تحولًا جذريًا؛ إذ انحسر دور الدولة بشكل شامل، فتم إلغاء وزارة الإعلام والاتصال ووكالة الاتصال الخارجى، وبالتوازى مع تفكيك الآليات التى كانت تمتلكها الدولة تنامَى خطاب يوصف بـ(الثورى) يدعو إلى فك العلاقة بين الإعلام والمجتمع كشرط من شروط (الإعلام الحر والمستقل). 

وقد ظهرت فى السنوات الأخيرة فضاءات جماعية تونسية متعددة الوظائف على غرار موقع (تونزيا سات)، والذى يُعتبر أكثر المواقع شعبية، وتشكلت مجموعات لا حصر لها فى كل المجالات السياسية والفنية والرياضية والدينية والاجتماعية، على غرار مجموعة (ما توينزى) عدد المشاركين فيها يفوق المليون مشترك، ولعبت مواقع التواصل الاجتماعى دورًا كبيرًا فى الحشد والتعبئة للشارع التونسى، وشهد الفيسبوك تسييسًا كاملًا وأصبح فضاءً يعبر من خلاله التونسيون عن انتماءاتهم الفكرية والأيديولوچية، وساحة للتعبير والتعليق على جميع الأحداث السياسية، كما انخرطت العديد من الأحزاب السياسية ومؤسّسات الدولة ومنظمات المجتمع المدنى فى هذا الفضاء البديل، لكن واقع التجربة التونسية يقول لنا: إن هذا الفضاء الجديد تحوّل إلى فضاء للفرقة والاستقطاب، تستخدم فيه كل أنواع التشهير والشتم والتخوين والشائعات.

فى المقابل؛ فإن وسائل الإعلام التقليدية انخرطت فى الصراع السياسى والحزبى وأهملت المواطن وأحواله المعيشية ولم تضعه على أچندة اهتمامها بالقدر الكافى، هذا المواطن الذى وجد نفسَه وحيدًا لا تعبر وسائل إعلامه عن همومه ومشاكله اليومية، ففى الانتخابات الرئاسية والتشريعية تناولت وسائل الإعلام التونسية هذه الانتخابات باعتبارها تنافسًا على السُّلطة، كما أعطت الأولوية لظهور السياسيين أكثر من إدارة النقاش العام المتعدد، كما عملت على تعميق الاستقطاب الحزبى والأيديولوچى بدلًا من التعبير عمّا يريده المواطن التونسى.

وقد كشفت إحدى الدراسات التى أجراها معهد علوم الأخبار بجامعة منوبة أن الغالبية الساحقة من التونسيين (93.5 %) لا تتواصل مع وسائل الإعلام حول القضايا التى تهمهم. وكان السبب الرئيسى لذلك، حسب ما يقارب ثلث العينة (32.9 %) أن الاتصال مع وسائل الإعلام «لن يحدث فرقًا».

وهذا يفسر تراجُع مستويات الثقة السياسية لدى المواطنين التونسيين فى الطبقة الحاكمة.

حركة النهضة وخطة التمكين الإعلامى فى تونس 

لم تتوقف مساعى حركة النهضة الإخوانية منذ صعودها فى المجال العام التونسى عن التضييق على خصومها من أصحاب الكلمة الحرة وناقدى أسلوبها وطريقتها فى الحكم.

وتتعدد أساليب النهضة فى ذلك، ابتداء بالمحاكمات وإطلاق الحملات التشهيرية وصولاً إلى حد الاعتداءات الجسدية على أصحاب الرأى.

وقد سجّل تقرير النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لسنة 2020 أكثر من 190 حالة اعتداء على أبناء المهنة، مؤكدًا أن وضع المؤسّسات الإعلامية فى السنوات الأخيرة يعيش صعوبات كبيرة قد تجعله مهددًا بالاندثار.

وتعمل حركة النهضة على محاصرة وسائل الإعلام بشتى الوسائل حتى التشريعية منها؛ حيث قدمت الكتل الإخوانية فى تونس العام الماضى (حركة النهضة وائتلاف الكرامة)، مشروع قانون يهدف إلى إلغاء التراخيص بشكل كامل على القنوات، مع تعديل مواد القانون الخاص بالهيئة المستقلة للاتصال السمعى والبصرى، مما يتيح لكل التيارات الإرهابية إنشاء محطات سمعية وبصرية.

وقد رأى خبراء الإعلام فى تونس أن هذه المبادرة الإخوانية هى من باب «دس السّم فى الدّسم»، فى ظاهرها دفاع عن الحرية وفى باطنها تشريع لتواجد القنوات الداعية للإرهاب ولأخونة المجتمع.

وعَلّق- حينها - نقيب الصحفيين التونسيين «ناجى البغورى» فى صفحته الرسمية على «فيسبوك» على المبادرة الإخوانية بالقول: «قريبًا فى تونس.. إذاعة داعش وتليفزيون جبهة النصرة وقناة جند الخلافة».

ويمكن القول إن استراتيچية النهضة للتمكين الإعلامى كانت واضحة من البداية، وظهر ذلك جليًا منذ دعوتها لأنصارها للاعتصام أمام مبنى التليفزيون التونسى فى 2 مارس 2012 لأكثر من شهر للمطالبة بتطهير الإعلام، ودعت لبيع القنوات العامة للقطاع الخاص، وسعت فى الوقت نفسه لإنشاء مؤسّسات وكيانات إعلامية موازية تدين لها بالولاء وتتبع خطها السياسى، بالإضافة إلى انتهاج استراتيچية الاندماج والتفاعل من خلال الحضور المكثف لسياسييها ورموزها فى جميع القنوات الإذاعية والتليفزيون وعقد صفقات خاصة مع مُلاك تلك القنوات مقابل هذا الظهور، والعمل على تعيين من يدين لها بالولاء فى مناصب إعلامية مثلما حدث مؤخرًا فى وكالة تونس إفريقيا للأنباء الرسمية وإذاعة الشمس.

وفى النهاية مع ما اتخذه الرئيس التونسى «قيس سعيّد» من قرارات مصيرية لإنقاذ تونس وتصحيح المسار- ليلة الخامس والعشرين من يوليو- يبقى السؤال : كيف يمكن بناء أچندة إعلامية وطنية تنحاز للوطن ويكون همها بناء تونس جديدة؟