الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر - حليم - السعدنى إعلان حالة الطوارئ فى شقة السعدنى! "الحلقة 22"

ناصر - حليم - السعدنى إعلان حالة الطوارئ فى شقة السعدنى! "الحلقة 22"

ذهب حليم وناصر والسعدنى والحلم على حاله لم يتحقق منه أى شيء على الإطلاق بل إن مساحة الحلم تضيف يوما بعد يوم، ويبقى أن نعود إلى واقعة رائعة تثبت كيف كان حليم إنسانًا رائعًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فى العام 1971 بالتحديد يوم 13 مايو.. بدأت الأمور تتكهرب فى منزلنا بالجيزة المطل على نيلها الخالد وأدركنا أخواتى هالة وأمل وهبة رحمها الله وحنان... وشخصى الضعيف.. أن هناك كارثة حدثت.



 

ولكننا لم نعلم أبعادها ولا تفاصيلها.. الولد الشقى السعدنى الكبير يغلق باب منزلنا بإحكام.. ويصدر أمرًا بأن نطفئ الأنوار ولا نرد على الهاتف وطرقًا لا مثيل له على الباب وكأن التتار على وشك غزو بيتنا المتواضع وقتل أسرتنا المسالمة ومخبرين ينتشرون فى الطرقات.. ويخرج الولد الشقى متأخرا جدا يتجه إلى الجراج القريب من منزلنا ليقود سيارته.. فيخرج إليه عم إبراهيم مسرعًا وهو السايس العجوز ويستوقف السعدنى قائلاً: امشى من هنا يا أستاذ وبسرعة.. فى مخبرين نايمين فى الجراج وواحد فتح العربية وقاعد فيها امشى.. امشى ويمتثل السعدنى للأمر ويشير إلى تاكسى ويختفى وسط الظلام الذى حل ليس بالمكان فقط، ولكنه تعدى ليشع ظلمه وسوادًا فى أعيننا جميعًا، ويختفى السعدنى 16 شهرًا كاملة لا نعلم عنه أى شيء حتى موعد المحكمة وصدور الأحكام، بعدها انتقل إلى سجن القناطر الخيرية.. وهناك تعرفنا وتشرفنا بضباط السجن وكانوا أشبه بملائكة للرحمة والإنسانية وعنوانا للرجولة ومنبعا لا يجف للشهامة العم محسن السرساوى وكان نقيبًا صغيرًا فى السن.. واللواء محمد صبحى المأمور واللواء نظمى الجولى المأمور الثانى للسجن وكان أحدهما مسلمًا والآخر مسيحيًا ولكننا عشقنا الاثنين معا ولم يكن هناك أى علامة يمكن أن تفرق بها بينهما بل كانت أسباب المحبة لا تحصى وأسباب البهجة والسعادة بوجود هذا الثنائى بالنسبة لنا لا حدود لها فقد سمحا لنا بالزيارة حتى الزيارة عبر السلك.. أصدرا أوامر بمنعها نهائيًا، فقد حدث أن مر المأمور يعاين أحوال الزيارة والمساجين فاستمع إلى أم تستحلف ابنها لكى يمرر إصبعه الصغير من خرم السلك حتى تطبع عليه بوسة يومها بكى المأمور والأم والمسجون معًا.. وأمر بفتح الزيارة للأم لاحتضان ابنها.. ذلك لأن الرحمة دومًا فوق القانون.. وهكذا لم يكتب لنا أن نرى السعدنى من خلف السلك أبدًا.. حتى جاء يوم تبدلت فيه الأحوال وجاء ضابط اسمه البندارى.... لم نكره أحدًا فى كل حياتنا مثلما كرهنا هذا الرجل فى إحدى الزيارات ونحن نستعد للقاء الولد الشقى جاءوا بالسعدنى فى الكلابشات مع الشاويش وفك الرجل الكلبش وقبل أن نتجه للسلام.. صدر صوت خرج من حنجرة البندارى وكأنها صرخة قائد عسكرى يأمر جحافله بالتقدم لدحر العدو.. واكتشفت أن البندارى يوبخ الشاويش لأنه جاء بالسعدنى فى غرفته فى حين أن الزيارة سلكاوى.. وهنا قال الشاويش أن الزيارة السلكاوى اتلغت علشان الأطفال.. فقال: إحنا فى سجن مش فى وزارة التضامن.. اتفضل رجعه الزنزانة أو يكمل الزيارة من السلك واخترنا إنهاء الزيارة بالطبع.. 

 ولم يمض أسبوع على هذه الواقعة التى لم تبارح أذهاننا يومًا على الإطلاق إلا وتلقينا اتصالاً هاتفيًا من أحد أقارب الضباط يطلب منا أن نتجه فى اليوم الثانى لزيارة السعدنى للأهمية القصوى على أن نأخذ معنا عامودين للمأكولات التى يعشقها ومعهما طرشى عم عبدالنبى الجيزاوى.

واتجهنا إلى سجن القناطر حيث كان الطريق عبارة عن لوحة فنية أبدع صنعها الخالق عز وجل لم يتبق منها اليوم أى شيء على الإطلاق بعد أن امتدت ايادى الخيرين أيام مبارك إلى كل ما هو أخضر فدمروه وزرعوا مكانه غابات الأسمنت المؤذية للصحة المشوهة للبيئة الرذيلة على القلب.. المهم أننا وجدنا أمامنا نفس الرجل حسن البندارى ساعتها خرجت شهقة من الجميع، وكأن لسان حالنا يقول تانى حيزلونا. وجدنا ابتسامة عريضة ترتسم على وجه الضابط وهو يسلم علينا فردا فردا ويعتذر عما بدر منه فى المرة السابقة ويأمر بإحضار «الأستاذ» محمود ويأتى السعدنى دون عسكرى وبلا كلابشات وتبادل السلام مع البندارى وكأنهما أصدقاء اتولدوا وعاشوا معًا فى حضانة واحدة.. تعجبت وقلت يا سبحان مغير الأحوال.. لا يمكن أن يحدث هذا التغيير إلا.. إذا.

واكتشفت أن السبب وراء هذا الأمر هو عندليب العرب الأسمر ومطرب الأمة الأعظم عبدالحليم حافظ.

ذات مساء حضر البندارى إلى سجن القناطر ودخل إلى مكتبه بعد أن انتهى من التفتيش على السجن والعنابر ومراجعة الوارد والصادر.. ثم أمر الشاويش الخاص بأن يذهب لكي يحضر له السعدني.. وكان السعدني ساعتها يمارس هوايته المفضلة في القراءة وعندما شاهد العسكري الخاص بالبنداري قال في سره: إحنا اصطبحنا بوش مين النهارده. وسأل الشاويش: خير!! وقال الشاويش: الباشا عاوزكم.. وامتثل السعدني للأمر.. وهو يضرب أخماسا في أسداس.. ويا ترى ويا هل ترى.

 وعندما دخل السعدني على البنداري.. قابله وإذا بالضابط العبوس ترتسم على قسمات وجهه علامات البشر وينظر للسعدني وكأنهما الشتيتين اللذين التقيا بعد أن ظنا كل الظن أن لا تلاقيا.. واندهش السعدني من هذا الترحاب الذي ليس له أي مبرر خصوصًا بعد العملة المهببة للضابط الكبير يوم الزيارة السلكاوي.. وهنا دعا الرجل السعدني للجلوس وقام ومنحه سيجارة كليوباترا من النوع السوبر المفتخر وأشعل له سيجارته وهو يقول: عاوزك تسامحني على الموقف البايخ اللي عملته.. أنا آسف والله.. إنت عارف إنك مسجون سياسي وأن التعليمات واضحة ومحددة وأي مخالفة حتكون عواقبها سيئة جدًا بالنسبة لي.. لكن يا سيدي الفاضل.. أنا من يومين أخدت أوامر ما أقدرش أكسرها من حد أهم عندي من أي مسئول.. وطلب مني أني أوصل لك أمانة.. وسحب من خلف المكتب شنطة بها علبة سجاير «كنت» وهي بمثابة العملة المتداولة كأنها الدولار داخل السجن - وأيضًا علبة شيكولاتة - وقال دي هدية من عبدالحليم حافظ وهنا كادت دموع الولد الشقي تخدعه.. فها هو الصديق الطيب المخلص الوفي يتذكره في محنة السجن في حين أن أعز أصدقاء العمر، وإن شئت الدقة بعضهم، تنكروا للسعدني وعابوا عليه ما اقترفه في من «جرم» في حق الرئيس السادات وجاهروا بهذا الرأي في وسائل الإعلام.. ولعل نفس موقف حليم تكرر والسعدني يشاهد برنامج في التليفزيون المصري أيام عزه، حيث لا فضائيات ولا إبراشي ولا أديب ولا موسى ولا غيره حيث كان سعيد صالح هو الضيف.. سألته المذيعة عن مشواره في عالم الفن وتكلم سعيد صالح عن معاناته وكيف وصل إلى القمة.. وأهم من عمل معهم من المؤلفين والمنتجين والمخرجين والممثلين ثم سألته عن أحب النقاد إلى قلبه.. قال علي الفور: محمود السعدني.. هو الكاتب الوحيد اللي أنا حريص على كل كلمة بيكتبها.. وكان سعيد بالتأكيد يعلم أن السعدني خلف أسوار السجن وبالطبع المذيعة التي دخلت في حيص وبيص لأنها تعلم هي الأخرى أن الكلام عن السعدني ممنوع ولكنها الأصالة عندما تتجلى في إناء بشري طيب.. يمثله مرة عبدالحليم حافظ وأخرى سعيد صالح.. انشكح السعدني بشدة وهو يحدق في الضابط الذي تحول إلى إنسان بمعنى الكلمة.. وقال له سلم لي على عبدالحليم وأشكره وقوله السعدني مش حينسى لك الموقف ده أبدا وهنا أيضا ينبغي أن أذكر بالخير أحد عمالقة القلم في الصحافة المصريه أستاذنا الكبير مصطفى أمين الذي أرسل ذات يوم خرطوشة سجاير «كنت» أيضا ومعها صندوق تفاح أمريكاني والشىء الغريب أن مصطفى أمين كان مسجونا هو الآخر.. والحق أقول إن الزيارة في عهد هذا الضابط تحولت إلى شيء يشبه المتعة الحقيقية فقد أصبحنا نجلس إلى الولد الشقي في السجن أكثر مما كنا نجلس إليه أيام الحرية فهو دائم الخروج والسهر.. إذا كان في قاهرة المعز.. وهو كل شهرين لا بد من أن يسافر إلى خارج الحدود.