الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر - حليم - السعدنى  الفنان.. والسياسى "الحلقة 21"

ناصر - حليم - السعدنى الفنان.. والسياسى "الحلقة 21"

هناك مقولة شهيرة تفيد بأن السياسى والفنان فوهتان لبندقية واحدة.. وما أعظم العندليب الأسمر الذى اجتمعت عنده الفوهتان.. نَعم؛ فقد كان فنانًا وسياسيًا أيضًا.. امتدت علاقاته لتشمل جميع الأطياف فى بَرّ مصر وحافَظ على علاقات طيبة ومتوازنة مع الجميع حتى مع أعداء «ناصر» التاريخيين فى حزب الوفد. 



وقد كان «حليم» ناصريًا حتى النخاع ولا حاجة لتأكيد هذا الأمر؛ فقد آمن- شأن أغلب أبناء جيله الذهبى- بالحلم الأعظم الذى جاء به جمال عبدالناصر وهو حلم الوحدة.. من المحيط إلى الخليج.. صحيح أن الحلم تلاشى وتحوّل إلى كابوس مرعب، ولكن ظل «حليم» وفيًا للرجل ولفكره ولحلمه؛ بل وربما يكون عبدالحليم حافظ هو سفير ناصر الأخطر وقوته الناعمة الأشد فتكًا.. تمامًا كما كان «السعدنى» هو سفير عبدالناصر فى دولة البسطاء والفقراء والمُهمّشين، والغلابة والذين هم على باب الله، وقد وقعت بين يدى أوراق خاصة للعندليب الأسمر بعد رحيله بسنوات طويلة عن طريق رجل جميل لمعت فى رأسه فكرة جهنمية وهى جَمْعُ كل ما يُنشر عن كل فنان وعَمَلُ أرشيف خاص به.. هذا الرجل استدعاه العندليب بعد أن وجد لديه قدرة استثنائية على التنظيم ودأب على العمل طوال الليل والنهار، ومنحه جميع أوراقه الخاصة، هذا الرجل بالطبع يعرفه بشكل شخصى جميع فنانى الزمن الأجمل فى بَرّ مصر.. كنت أراه عند العم العزيز الغالى عمدة الدراما العربية العم صلاح السعدنى، وتوثقت صلته بعم فؤاد الذى لم يعد أحد ولا حتى هو نفسه يذكر اسمه كاملاً؛ فقد اكتسب لقبًا فريدًا أطلقه عليه مشاهير الوسط الفنى، فقد كان صاحب التسمية هو أرق وأعذب البشر فى عالم الفن وأطيبهم قلبًا النجم الأعظم فريد شوقى. الذى أطلق عليه لقب «فؤاد أرشيف»، مع عم فؤاد جلست طويلاً أفتش فى دوسيهات العندليب الأسمر ومنحنى الرجل كثيرًا من هذه الأوراق التى لا تقدر بثمن، وجدت تلغرافات وكروتًا شخصية أرسلت مع باقات ورد فى مناسبات عديدة أهمها أعياد ثورة 23 يوليو وعيد مولده وافتتاح أفلامه أو أغانيه بمناسبة الربيع.. ولكن كانت هناك أيضًا ثروة تخص مرض العندليب الأسمر.. فأجد كارتًا خاصًا بالرجل الثانى فى الثورة المصرية والذى يشكل موته لغزًا حتى يومنا هذا.. كتب المشير عبدالحكيم عامر على ظهر الكارت الشخصى الخاص به «مع أطيب تمنياتى بالشفاء العاجل».. وقد اكتشف أن العندليب تسَلم هذا البوكيه من الورود ومعه هذا الكارت بعد أن عاد مباشرة من لندن وكان قد أجرى عمليته الجراحية الأولى.. وكان هذا الأمر قبل نكسة 1967 بالتأكيد والتى اختفى بعدها «عامر» وكان ينبغى به بالفعل أن يختفى.. والشىء الغريب أن السيد فؤاد سراج الدين زعيم الوفد التاريخى الأخير كان حاضرًا ويقظًا ومُهتمًا بحالة المطرب الذى كان مَلكًا متوجًا على عرش الفنون جميعها فى عالمنا العربى، ولم يمنع «سراج الدين» كون «حليم» هو صوت ناصر لدى عشاق الفنون فى أمّة العرب، أن يكون حاضرًا ومتواجدًا فى التأكيد على أن «حليم» يشغل نفس مساحة الحب والتقدير والمَحبة فى قلب فؤاد سراج الدين الذى أزاحته هو وحزبه ثورة جمال عبدالناصر.. ولكن تبقى أطول برقية فى أرشيف العندليب الأسمر. تلك التى حرص على أن يرسلها إلى القيادة المصرية وهو يرقد على سرير المرض والتى تحمل تاريخ 11 مارس من العام 1969 والخاصة بمناسبة غالية على المصريين خاصة والعالم العربى أيضًا إنها استشهاد أحد قادة مصر العظام الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة.. يقول العندليب.. من فوق فراش المرض: «أتقدم بخالص العزاء لفقيد الوطن والعروبة الفريق أول عبدالمنعم رياض الذى ضرب أروع مثال فى التضحية والوفاء.. لشهيد مصر والعروبة الكبير الرحمة والمغفرة ولأمتنا العربية الصبر والسلوان». 

وبالنسبة لعلاقات «حليم» العربية فلا يخفى على أحد تلك الصداقة الوطيدة التى نشأت بينه وبين جلالة الملك الحسن الثانى ملك المملكة المغربية والتى لم يسبق لها مثيل، فلم يشهد تاريخ الفن قصة ارتباط وثيق بين زعيم أو رئيس أو ملك وفنان كبير مثلما كانت تلك العلاقة.. ولكن من خلال مناسبات أخرى تبين مدى علاقات «حليم» أيضًا بالأسرة الحاكمة فى الكويت.. وللكويت سيرة طيبة فى مجال الثقافة والأدب والفنون.. فهم يقدمون إسهامات رائعة فى كل هذه المجالات.

وعلى عكس جميع والنُّظم العربية الأخرى لا يفرض الساسة فى الكويت أمرًا ولا شأنًا كويتيًا ولا موقفًا خاصًا بهم ولا وجهة نظر على أى إصدار يدعمونه أو أى مؤسّسة تشملها رعايتهم أو أى مساهمة أيًا كان قيمة المساهمة.. فهم يصنعون هذا الأمر من أجل الفن أو الأدب أو الثقافة ولا شىء سواها، ولذلك ستجد فى الكويت الفنان العراقى ناظم الغزالى  يغنى لأمير الكويت ولشعب الكويت والعلاقات بين البلدين ليست على ما يرام.. هناك فصل تام بين نظام الحُكم وبين الناس، سواء عامّة الناس أو خاصتهم.. أقول وجدت علاقات طيبة تنبئ عنها برقيات عزاء من قِبَل «حليم»  للأسرة الحاكمة فى الكويت، منهم الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئيس الوزراء فى ذلك الوقت، والشيخ جابر العلى السالم الصباح وزير الإعلام والشيخ سعد العبدالله السالم الصباح. أمّا مناسبة البرقيات المرسلة من العندليب وبرقيات الشكر ردًا عليها فقد جاءت لتقديم واجب العزاء فى الشيخ عبدالله السالم الصباح.. وتبقى برقية «حليم» إلى عبدالقادر حاتم.. شاهدة على التدهور الذى حدث للفن وأهله بعد رحيل جمال عبدالناصر.. والمكانة التى فقدها العندليب أو بمعنى أصح نفوذه الأخطر.. جاء فى البرقية: «نشعر نحن أهل الفن بواجبنا فى شرح بعض الظروف التى يمر بها الفن للسيد الرئيس محمد أنور السادات، ولذلك نرجو التكرم بتحديد موعد مع السيد الرئيس، وكلنا أمل فى سيادتكم وثقة فى رعايتكم للفن وتقديركم للفنانين».

وبالطبع لم يجد طلب العندليب أى استجابة من قِبَل الرئيس أنور السادات الذى حرص على أن المقام الرفيع الذى كان لاثنين من أهل الفن أم كلثوم وحليم.. ما ينبغى له أن يستمر فى عهده.. وكأن «السادات» نسى أن للعندليب دورًا وطنيًا لا يمكن إغفاله هو والسيدة أم كلثوم؛ خصوصًا بعد النكسة الكبرى فى 1967 عندما تقدما بطلبات للسماح بمجموعة من الصحفيين بمرافقة كل منهما فى رحلات إلى الخارج سواء فى العالم العربى أو بعض الدول الأوروبية، والأوراق التى قدمها العندليب موجودة تفيد بأنه اختار فى كل سفرياته المجموعة نفسها من أهل الصحافة ذكرهم بالاسم من أجل الحصول على تأشيرة خروج، فقد كان الخروج من مطار القاهرة فى حاجة إلى موافقة أمنية أولاً فى ذلك الزمان الذى احتفظ فيه المجتمع المصرى بهويته ووسطيته قبل موسم الهجرة إلى بلاد الآخرين والعودة بنماذج وأفكار بعيدة كل البعد عن الطبيعة السمحة لأهل مصر، وبالطبع كان هدف هذه الرحلات الأسمَى تقديم حفلات وتخصيص العائد من أجل هدف مصر الأوحد إزالة آثار العدوان، وهو نفس الدور الذى لعبه «السعدنى» مع النادى الإسماعيلى عندما استثمر فوز النادى الإسماعيلى بأول بطولة قارية لنادٍ عربى واتجه بالدراويش إلى منطقة الخليج لنفس الهدف إقامة مباريات يخصص دخلها من أجل إزالة آثار العدوان، ولكن على ما يبدو أن «السادات» لم ينسَ أبدًا كيف كانت المكانة والقيمة التى يمثلها العندليب لجمال عبدالناصر، وفى المقابل حرص زعيم دولة الفن على البقاء على العهد وفيًا للزعيم الخالد.. لذلك لم يستطع عبدالحليم حافظ أن يغنى لـ«السادات» ولا لإنجازه الأعظم فى العام 1973 عندما أصدر قراره التاريخى للقوات المسلحة المصرية بعبور مانع قناة السويس وتحرير ما استطاع من التراب الوطنى، يومها لم يستطع العندليب أن يغيب عن المشهد وهو المتواجد دومًا منذ القدم المساهم فى كل مناسبة.. وبالطبع كلنا نتذكر كلمات الأغنية.

«عاش اللى قال للرجال عَدُّوا القنال» ولم يستطع عبدالحليم حافظ أن يذكر اسم «السادات» فبنى الجملة للمجهول «اللى قاااال».

وبالطبع سأل «حليم».. نفسه وكيف له أن يغنى للسادات.. بعد أن حارب مع ناصر كل حروبه ووضع موهبته وضَيّع عمره بأكمله وصحته وهو يخوض غمار هذه الحرب الضروس التى كرّس فيها كل أهل «الخير» فى الغرب قوتهم وسُلطانهم من أجل القضاءعلى «ناصر» وساعدهم مع الأسف المال العربى القادم من أعماق الأرض.. أدرك «حليم» أن الزمن تخطاه فعمل من أجل الناس وحدهم وركز فيما سوف يقدمه للغناء العربى، ولأنه لم يعد هناك هدف قومى ولا مشروع وطنى فقد اختفت الأغنية الوطنية.

وبدأ مشروع جديد يحل محل هذا الأمر وفتحوا الأبواب للتفاهات وفتحوا الحدود معها للخروج الكبير و«حليم» يراقب ويتحسّر ويندم على الزمن الأجمل فى تاريخ كل الفنون بمختلف أطيافها.. فى نفس هذا التوقيت كان الولد الشقى «السعدنى» الكبير خارجًا لتوّه من السجن بعد أن حَكم عليه «السادات» بالسجن خمسة أعوام دون ذنب اقترفه.. ولكن العيش والملح جعل قلب «السادات» يرق فخفف الحُكم إلى عامين فقط لا غير.. كان سجن «السادات» أغرب أنواع السجون، فهو يختلف تمام الاختلاف عن سجن عبدالناصر.. فقد اعتقلوا «السعدنى».. أيام ناصر وضربوه ضرب غرائب الإبل.. ومع ذلك عشق «ناصر» وآمن بفكره وحلم معه بوطن عربى من المحيط إلى الخليج يجوب فيه «السعدنى» كما ابن بطوطة مستخدمًا سيارته الفولكس بدلاً من الحمار يذهب من طنجة إلى وهران إلى طرابلس إلى سوسة إلى القاهرة إلى القدس إلى بيروت فدمشق فبغداد دون أن يستوقفه عسكرى أو يعكشه مخبر نشيط من أصحاب النظرات النارية والوجه العابس والقلب الغليظ واليد التى تشبه خف الجمل.