الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملهمات عبقريات عظمة على عظمة يا ست.. فى الذكرى الـ110 لميلادها: «سهير القلماوى» رائدة الأدب العربى

إن حقوق المرأة وحريتها التى تتمتع بها الآن، ليست نتاج يوم أو عمل واحد، بل عقود من النضال المستمر، من أجل كسر القيود المجتمعية القديمة التى فرضت عليها، بألا يعلو أفق تطلعاتها أكثر من حوائط منزلها. ومع ذلك، أعلنت بعضهن عن رفضهن التام بسجن عقولهن، وسعين لكسر هذه القيود، ليثبتن  أن للمرأة حرية وحقًا فى التعلم، والعمل، والنضال، وألا تكون (المعرفة، والمقدرة) حكرًا على معشر الرجال فقط.



فى مصر، نساء تم تخليد أسمائهن، وأعمالهن..وفى هذه السلسلة ترصد (نون القوة) حياة وكفاح هؤلاء الملهمات، العبقريات، لتعرف فتيات ونساء اليوم وغدٍ، أنه لا يوجد مكان لكلمة (مستحيل). 

 

تحتفى «مصر» بالدورة الـ(52) من «معرض القاهرة الدولى للكتاب» الجارية الآن، وهى مناسبة تُذَكرنا بمُشرفة الدورة الأولى للمعرض، والمساهمة فى إنشائه عام 1969 «سهير القلماوى»، التى تحل- أيضًا- فى 20 يوليو الجارى ذكرى ميلادها الـ(110). «سهير القلماوى»، علامة أدبية وسياسية بارزة، أسهمت فى تشكيل الكتابة والثقافة العربية، من خلال كتابتها، ومشاركتها فى الحركات النسوية، والحياة السياسية. وقد حازت على عدة ألقاب ريادية لشغفها بأن تصبح الرائدة الأولى؛ فهى أول مصرية تحصل على درجتَىْ الماچستير والدكتوراه، وأول أستاذة محاضرة فى الجامعة، وأول رئيس قسم فيها. 

 نشأة مثقفة

وُلدت «سهير القلماوى» عام 1911 فى «القاهرة»، التى عاشت فيها طيلة حياتها. كما نشأت وسط عائلة تميزت بحب تعليم الفتيات، وتثقيفهن على أكمل وجه، فقد استطاعت الصغيرة أن تستفيد من مكتبة أبيها المفعمة بالكتب فى مجالات شتى. ناهيك عن معاصرتها- خلال طفولتها- ثورة 1919، التى كان لها تأثير واضح فى نشأتها الوطنية، إذ اشتد عود الفتاة، وسط تأثير الرائدات المصريات خلال الفترة، ومنهن الناشطة النسوية العظيمة «هدى شعراوى»، والشخصية القومية البارزة «صفية زغلول»، وغيرهن ممن أثر نشاطاتهن النسوية والوطنية فى بلورة بعض مبادئها.

واستمرت الأيام، وظلت الفتاة عاكفة على تنمية عقلها، تنتقل بين كتاب وآخر، إلى أن تخرجت فى الكلية الأمريكية للفتيات فى عام 1928، وكرست نفسها لدراسة الطب، لتصبح مثل والدها الطبيب الجراح. 

وبعد أن حاولت الفتاة الالتحاق بكلية الطب لتحقيق أحلامها، رفضت الجامعة قبولها، بحجة أن الكلية لا تقبل تعليم البنات، وهى حجة كانت طبيعية خلال تلك الفترة، التى عانت فيها المرأة من قيود مجتمعية شديدة.

ومع ذلك، لم تيأس «سهير»، إذ شجعها والدها على التخصص فى الأدب العربى عوضًا عن مجال الطب، بعدما ذهب إلى عميد كلية الآداب- حينها- الدكتور «طه حسين»، الأخير الذى أقنعه، بأن تتقدم ابنته بأوراقها إلى كلية الآداب، قسم اللغة العربية. ورُغم رفض الجامعة  للمرة الثانية قبول الفتاة؛ فإن عميد الأدب العربى استطاع إقناع رئيسها «أحمد لطفى السيد» بضرورة تعليم الفتيات.

وهكذا، أصبحت «سهير القلماوى» أول طالبة مصرية تلتحق بكلية الآداب فى «جامعة فؤاد الأول»، التى صارت «جامعة القاهرة» فيما بعد، بين 14 رجلاً، لتدرس الأدب العربى. كما كانت ضمن الفتيات الخمسة الأولى اللاتى دخلن سرًا إلى «جامعة القاهرة».

ومع ذلك، لم يكن التحاق «القلماوى» بالجامعة سهلاً، وفقًا لما كشفه الكاتب والروائى «يوسف القعيد»، الذى أكد أن الدكتور «طه حسين» أمر بتعيين حراسة خاصة لها، خلال ذهابها وعودتها من الجامعة، موضحًا أن قراره كان نابعًا من حرصه على إنجاح تجربة التحاق أول فتاة بالجامعة المصرية، وعدم تعرضها لأى مضايقات، حتى لا يتحول مصير تلك التجربة إلى الفشل، وأن يعزف أولياء الأمور عن إلحاق بناتهم بالمرحلة الجامعية.

وبالفعل، كانت «القلماوى»- ولا تزال حتى وقتنا هذا- مَصدر حَسد لكثيرين، إذ تعلمت تحت إشراف مباشر من «طه حسين»، الذى كان رئيس قسم اللغة العربية، ورئيس التحرير بمجلة جامعة القاهرة، الذى كلف «سهير» بشغل منصب مساعدة رئيس تحرير المجلة عام 1932. كما كانت «القلماوى» أيضًا مذيعة لخدمة البث الإذاعى المصرى، خلال فترة دراستها.

 

«طه حسين»..أب ثانٍ

بدأت «القلماوى» مسيرة إصدار مؤلفاتها، بمجلد قصص قصيرة نشر عام 1935، حملت اسم (أحاديث جدتى)، رصدت فيها حكايات الجدة لحفيداتها، وما تحويه هذه الحكايات من قيم أخلاقية وتربوية، ركزت فيها على اختلاف الأجيال، لتصبح أول امرأة فى «مصر» تنشر مجلدًا قصصيًا، دفعت «طه حسين» للإشادة بها، قائلاً: «تحدثت إلى النفس المصرية، وإلى القلب المصرى، بلغة النفس المصرية، والقلب المصرى». 

ومن جانبها، ذكرت «القلماوى» كواليس كتابة هذا العمل، قائلة: «لما توفى والدى، نصحنى أستاذى «طه حسين» أن أدفن أحزانى فى الكتابة، وقال: «لماذا لا تؤلفين قصصًا أخرى، وتنشرينها كتابًا».. وكان كتاب (أحاديث جدتى)، يعبر عن عمق الفجوة بين جيلى ومن سبقه من أجيال؛  طبعت الكتاب على حسابى الخاص فى لجنة التأليف والترجمة والنشر، وطبعت أربعة آلاف  نسخة، وقال أستاذى: «أنت مجنونة.. أنا «طه حسين» أطبع ثلاثة آلاف!!»، قلت: «وأنا فى غاية الغرور، أنت مقروء لأنك أديب ممتاز، وأنا أديبة ممتازة زائد أنى امرأة، وهذا فى حد ذاته طرافة تجذب القارئ».

وبعد حصولها على الماچستير فى موضوع (أدب الخوارج) عام 1937، وكان موضوعًا بكرًَا فى هذه المرحلة، دَلّ على شخصيتها المتمردة، أرسلتها الجامعة- بمساعدة من «طه حسين»- إلى «فرنسا» لنَيل درجة الدكتوراه، لتصبح أيضًا أول مصرية تنال درجة الدكتوراه. وكان اختيارها دراسة (ألف ليلة وليلة) علامة فارقة، إذ أضحت رائدة الدراسات الشعبية، وصار بعد ذلك مقررًا معتمدًا فى قسم اللغة العربية.

وقد وضعت «القلماوى» برسالة الدكتوراه الخاصة بها الأساس لمهمتها النسوية، إذ كانت تهدف لإعداد امرأة جديدة ذكية، ومثقفة، وحكيمة، مسئولة بشكل كامل عن حياتها وأسرتها، امرأة لا تستخدم فطنتها وفضائلها لتتساوَى بالرجل، ولكن أيضًا تسعى جاهدة لإعادة تثقيف الرجل لتحظى بالمساواة. وحازت على جائزة مجمع اللغة العربية، لموضوع رسالتها.

وبالعودة لشخصية «طه حسين» الساحرة، فيبدو أنها جذبت «سهير القلماوى» إليه، فتعلقت به، واتخذته أبًا ثانيًا، وأستاذًا، ومُشرفًا، ورائدًا، ومثلًا أعلى فى الحياة. فكانت طوال فترة إقامتها فى «باريس» تراسله، وتشكو غربتها، ووحدتها، ومعاناتها، فيما كان يشجعها على التحمل، وينصحها باستمرار الكتابة فى مجلات، مثل: «الرسالة، والثقافة»، و«أبوللو» التى كتبت لأول مرة فيها، وهى لا تزال فى السنة الثالثة بكلية الآداب. فقد رأى عميد الأدب العربى فيها نموذجًا للمرأة الجديدة، التى كان المثقفون المصريون يحلمون بها.

ونتيجة لاهتمام دكتور «طه حسين» بتشكيل عقل وثقافة تلك الشابة الطموح، كان من الطبيعى أن يترك أثرًا كبيرًَا فى وجدانها، وهو ما أكدته فى كتابها (ذكرى طه حسين)، الذى صدر فى الذكرى الأولى لرحيله فى أكتوبر 1974. وقد روت فيه بعض ذكرياتها معه، مودعة إياه بأصدق المَشاعر والكلمات، فكتبت: «إنك أبى لا فى العلم وحده؛ وإنما فى كل خطوة من حياتى، فما زال عقد زواجى يحمل إمضاءك، وأحَبَّك زوجى دكتور «يحيى الخشاب»، ورعيته تلميذًا لك قبل أن أعرفه؛ وما زلت أذكر معاملاتك بشأنى مع والدتى، وكنت تسميها الدولة العثمانية لشدتها وتمسكها برأيها وفرض إرادتها على حياتى. أنت الذى أقنعتها أن أعين فى كلية الآداب معيدة.. وأنت الذى أقنعتها بأن أسافر فى بعثة إلى «فرنسا»..كنت معى دائمًا فى كل خطوة من خطوات حياتى، كنت لى أبًا حنونًا، وجدارًا ضخمًا أستند إليه كلما احتجت إلى سند، أو عون، أو عزاء».

 الأولى

يبدو أن «القلماوى» لم تكتفِ بأن تصبح من أوائل الفتيات اللاتى دخلن مرحلة التعليم الجامعى، وأول من حصلت على الماچستير والدكتوراه من النساء المصريات؛ بل كان شغف (المرأة الأولى) يسيطر على طموحها، إذ كانت المصرية الأولى التى تتولى منصب أستاذ الأدب العربى الحديث بكلية الآداب عام 1956، ثم منصب رئيس قسم اللغة العربية لمدة تسع سنوات منذ عام 1958، حتى عام 1967. وحازت خلال تلك الفترة على جائزة الدولة التقديرية فى أدب الشباب، وكانت أول امرأة تحصل عليها فى عام 1955، وجائزة الدولة التشجيعية لعام 1955، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب، التى تشاركتها مع دكتور «شوقى ضيف» عام 1963.

وقد تتلمذ على يديها الكثير من الأسماء الرنانة، ومنهم: الدكتور «أحمد مرسى، عبدالمنعم تليمة، سامية أسعد، أمينة الرشيد، ألفت الروبى»، والعديد من رواد الأدب فى كل من دول: «تونس، والجزائر، والسودان».

ومن ثم تولت الإشراف على «دار الكتاب العربى»، ثم الإشراف على مؤسَّسة التأليف والنشر منذ عام 1967، حتى 1971، وأثناء توليها هذا المنصب الأخير، كانت «القاهرة» تحتفل -آنذاك- بعيدها الألفى فى عام 1969،  فقرر وزير الثقافة - حينها - «ثروت عكاشة» الاحتفال بالعيد ثقافيًا، فعهد إلى «سهير القلماوى» بالإشراف على إقامة أول معرض للكتاب، والذى يشمل على الأخص جناحًا خاصًا بالأطفال. 

النشاط النسوى والسياسى

كانت قضية المرأة المصرية والعربية، والدفاع عن حقوقها، والحفاظ حريتها، إحدى القضايا المحورية فى حياة «سهير القلماوى»، والتى ظهرت بوضوح ليس فقط عبر عملها الأدبى، ولكن أيضًا عبر مشاركتها فى مؤتمرات المرأة العربية؛ حيث نادت بالمساواة فى الحقوق بين الرجل والمرأة.

كما تولت من المناصب الخادمة لهذه القضية، ومنها: رئاسة رابطة خريجات جامعة المرأة العربية عام 1959؛ ثم أول رئيسة للاتحاد النسوى المصرى ورئيسة المؤتمر الدولى للمرأة عام 1960. وقد شكلت «القلماوى» لجنة  للإشراف على جامعة الفتيات الفلسطينيات للحديث عن القضية الفلسطينية فى عام 1962.

وعلى الصعيد السياسى، كانت كل مراحل حياتها، التى عاصرت أربعة عهود (أواخر العهد الملكى، والفترة الناصرية، وفترة تولى «السادات»، ثم فترة حُكم «مبارك») حافلة، أدت فيها أدوارًا مشهودة.

فبالإضافة إلى ما سبق، يمكن الإشارة إلى الأدوار السياسية المباشرة التى لعبتها؛ حيث كانت عضوًا بمجلس الأمة عام 1959، وعضوًا بالاتحاد الاشتراكى عام 1963.

ودخلت البرلمان كعضوة لأول مرة فى عام 1958، ومرة أخرى عام 1979، حتى عام 1984. وشاركت فى عضوية مجلس اتحاد الكُتّاب، واختيرت عضوًا بالمجالس المصرية المتخصصة. كما مثلت «مصر» فى العديد من المؤتمرات العالمية.

 أعمال على قيد الحياة

تحظى «القلماوى» بسجل حافل من الأعمال، إذ صدر لها أكثر من ثمانين مؤلفًا. وكان من أشهرها: (فى النقد الأدبى) الذى نشر عام 1955، و(المحاكاة فى الأدب) عام 1955، ثم (الشياطين تلهو) عام 1964، و(غربت الشمس) عام 1965، و(العالم بين دفتى كتاب) عام 1985، وغيرها.

كما صورت أيضًا فى تراجمها لبعض الأعمال، مثل: القصص الصينية لـ«بيرل باك» التى نشرت عام 1950، و(ترويض النمرة) للكاتب الإنجليزى الكبير «ويليام شكسبير» عام 1964، النضالات النسوية، وضرورة إعادة تثقيف الرجل.

وعلاوة على ما سبق، كان لها السبق الأول فى إنشاء مكتبة فى صالة مسرح الأزبكية لبيع الكتب بنصف ثمنها، كما كانت الأولى فى تقديم دراسة عن الأدب المصرى المعاصر إلى التعليم الجامعى، وقد أعطت الفرصة لأكثر من 60 أديبًا لتقديم مؤلفاتهم، عندما قامت بإصدار سلاسل أدبية، سُميت (مؤلفات جديدة)، ومن ناحية أخرى وضعت أسُسًا للطرُق الأكاديمية فى تحليل الأدب والفن.

وبعد عقود من العطاء اللا محدود، رحلت «سهير القلماوى» عن عالمنا فى 4 مايو عام 1997.

أبدعت دكتورة «سهير القلماوى» فى أن تصبح علامة بارزة فى مكانة المرأة أدبيًا فى العصر الحديث، فكانت كاتبة قصة اجتماعية بديعة، بجانب كونها ناقدة، ومؤرخة للأدب، ومترجمة عن الصينية والإنجليزية، وأستاذة جامعية، ومدافعة عن حقوق المرأة المصرية والعربية. فكانت مثالاً لمرأة حاربت بقلمها الجهل والتشدد.. كانت ببساطة مثالاً لامرأة مصرية طموح وقوية.