الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الكنيسة تمنعهن من حضور مراسم رسامة أبنائهن تقديرًا لمشاعرهن أمهات الرهبان يطلقن زغاريد الألم

عندما يُرزَق الآباء بالأبناء تظل لحظة رؤيتهم فى زفافهم مسيطرة عليهم ويحلمون بتلك اللحظة التى يرون فيها أبناءهم أو بناتهم بملابس العرس وبهجة الفرحة بتأسيس أسرة جديدة، ولَكنْ هل فكرت يومًا ماذا لو كانت تلك اللحظة هى حضورهم لصلاة الجناز عليهم، وبدلًا من أن تكون البدلة أو فستان الفرح  سر البهجة يكون إعلان وفاتهم عن العالم هو سبب الفرحة، مشاعر متضاربة تختلج صدور الآباء والأمهات فى تلك اللحظة حينما يرضخون لرغبة أبنائهم فى العزلة والتعبد لله؛ حيث يكون الصراع الفطرى بين بهجة العرس وبين بهجة الأبناء فى تحقيق مرادهم.



لحظة من أصعب اللحظات التى تمر على أى أم، ولكنها فى النهاية لا تملك إلا أن تطلق زغرودة نابعة من القلب لتحقيق رغبة أولادها.

ولكن هل فكرت يومًا كيف تعيش أم تركها وليدها ليتعبد فى الدير ويعيش فى محراب الله ويترك خلفه أنين قلوب تتعذب بين الإحساس البشرى المشروع والفطرى بأنها تريد أن ترى أحفادها وبين فكرة طاعة الله وأنه ترك كل هذا لأجل خلاص نفسه.

هكذا وجدنا مشاعر أمهات ورأينا آلامهن بين سعادتهن فيما وصل إليه أبناؤهن وبين حزنهن على عدم تواصلهن معهم.

منهم من أُصيبت بأمراض كبيرة مثل السرطان، وهناك من فقدت نور عينيها من بكائها المتواصل على ابنها الذى كانت كل ما تريده هو رؤيته مع أولاده.

 حكاية راهب

تروى لنا والدة القس بشارة وتقول: «جهزنا له أنا ووالده شقته ليتزوج بها، وكان والده دائمًا يحثه على الزواج، فكان يقول له: «إن شاء الله».

وفى يوم ألحّ عليه والده أن يبحث عن عروس حتى يرى أولاده قبل أن يموت فقال له: «لن أتزوج، ولكنى هترهبن».

وهنا تحدث معه أبوه لعله يثنيه، ولكنه أعلن عن عزمه لدخول الدير إلا أنه وبعد عام تحديدًا تُوفىّ والده».

وتقول: «قلت وقتها إنه سيصرف نظر عن الموضوع فكيف يتركنى وحيدة هكذا، ولكنه فاجأنى بقراره الذى رفضته بحجة أنه كيف يتركنى بعد وفاة الأب، فأكد لى أنه حتى لو تزوج فلن يأتى ليرانى».

وتتذكر قائلة: «بعدها ذهب الدير ومنذ رحيله لم أكف عن البكاء حتى ذهب نظرى، وفى أول زيارة له عاتبنى عما فعلته بعينى إلا أنى كنت أتمنى أن يعود لى».

وتضيف قائلة: «إلا أنه لم يرجع لى أبدًا، ولكنى كنت دائمة البكاء عليه وهنا قرر ألا يرانى إلا إذا توقفت عن البكاء وهو شىء لم أستطع فعله»، كنت أتساءل دومًا: «كيف أنام وهو بعيد عنى وأنا لا أعرف كيف حاله، وكنت دائمًا أطلب من الله عندما يشتد الألم بى أن أطمئن عليه وأراه مرتديًا الزى الأسود ( الرهبانى).

وتؤكد أنه كان يتصل بها قبل أن يتحول لراهب ويسألها عن طبخ وخبز الخبز.. فكانت تقول له ما يجب أن يقوم به حتى لا يضحك عليه أحد.

وتقول إنها إلى الآن تضع له مصروفه فى جيب جلابيته ويأخذه بهدوء، مشيرة إلى أنها ظلت تطلب من الله بعد أن ارتدى الجلباب الأسود أن تراه قسيسًا قبل أن تقابل ربها.

وتؤكد أنه قبل رسامته تحدث إليها تليفونيًا وطلب منها أن تختار له اسمًا حتى يسهل عليها نطقه فاختارت له «بشارة».

وتؤكد أنها حين رأته بالجلباب الأسود اطمأنت جدًا كما لو أنى زوجته، خاصة أنه مكث كثيرًا كطالب رهبنة متمنية أن تراه أسقفًا يومًا ما.

 الزيارة كانت كلها بكاء

وتتذكر هناء شقيقة إحدى الراهبات: «فوجئنا جميعًا بقرار أختى بالرهبنة، حتى أنا التى كنت دائمًا معها ونتشارك فى نفس الحجرة، لم أكن أعرف بما تعتزم عليه».

وتروى لنا مشاعر والدتها فى هذه اللحظة: «كانت فى غضب شديد، ولكنها لم ترفع صوتها يومًا، فهذه كانت عادتها، أن تحمل ما يضايقها فى قلبها، ولذلك كانت النتيجة إصابتها بمرض السرطان اللعين».

وتتذكّر هناء قائلة: «ذهبت أختى للدير مع أمين الخدمة وتركت الجميع خلفها، والدى فى ذلك اليوم لم يستطع أن يعود للمنزل، ولم يعد هناك أحد يأكل؛ بل كان بكاء والدى يطغى على الكل، خاصة أنها ذهبت للدير فى الوقت نفسه الذى هاجر فيه أخى هجرة دائمة».

وأضافت: «إن ما كان يعزّى والدى هو رؤيتها فى مواعيد الزيارة والتى كانت كلها بكاءً كل منهما، إلا أن الأزمة تفاقمت بعد ارتباط أختى الأخرى بشخص كان يستعد للهجرة، وبذلك تكون أمى فقدت ثلاثة أبناء دفعة واحدة ولم يتبق معها أحد سواى».

وتحكى قائلة: «كانت النتيجة الطبيعية أنه وُضعت لى مجموعة قيود فُرضت بشكل لا إرادى وتلقائى، فقد أصبحت محاطة بها ووضعت قائمة ممنوعات على رأسها عدم الارتباط نهائيًا بشخص مهاجر، وبالتالى تم رفض كل شخص تقدم إلىّ كان ينوى الهجرة حتى دون أن أعرف بهم».

وتؤكد لنا أن كل هذا الحزن تحول لأفراح حينما رأت أمى ابنتها بالزى الأسود ارتاحت بشكل كبير، ولكن فكرة بُعدها عنها ظلت ملازمة لها وقتًا طويلًا.

وتفصح لنا عن مشاعرها الخاصة: «فى البداية شعرت بالغضب كيف أن أختى لم تفصح لى عن اشتياق قلبها ورغبتها فى الرهبنة حتى نمهد الطريق قليلًا لوالدى وأمى»؟!

أحيانًا كنت أتساءل: لماذا يعاملوننى أنا بكل هذا العصبية بينما أنا التى فرض عليها كل هذه القيود بسبب قرار ليس لى، إلا أنه فى النهاية الله عوضنى كثيرًا خاصة أننى كنت دائمة أجد أن أبى وأمى يحملان من الوجع ما لا طاقة لأحد به، إلا أنهما فى النهاية لم يقفا فى طريق أى أحد منا على الرغم من صعوبة الاختيارات عليهما»!

أما حنان فتقول: «عندما قرر أخى أن يتجه للدير لم يخبر أحدًا بذلك غيرى، ولكنه طلب منى ألا أقول لأحد، وبالفعل ظللت صامتة لمدة أسبوعين وهى المدة التى مكث فيها فى الدير قبل إعلان القرار النهائى».

وتضيف: أنه على الرغم من أننا كلنا كنا نعلم برغبته فى ذلك، فإن أبى طلب منه ألا يفكر فى شىء إلا بعد أن ينهى كليته وجيشه، وبالفعل تخرج فى كليه الطب وأنهى جيشه وأخذ قراره».

وقالت إنه حين أعلن القرار فى المنزل كان هناك بكاء مستمر من أمى إلا أن أبى كان متقبلًا الأمر وراضيًا به، إلا أن والدتى حاولت معه أكثر من مرة خاصة أنه كان أحن أبنائها عليها إلا أنه أصر على قراره».

وتروى حنان: «كانت كل مكالمة ومقابلة معه تكون مصاحبة ببكاء مستمر حتى فى يوم ما هددها أنها إذا لم تكف عن البكاء لن يتحدث إليها مرة أخرى أو يقابلها»، إلا أن أمها لم تتقبل الفكرة إلا بعد مرور سنوات كثيرة حتى استطاعت أن تتعامل معه كراهب وكاهن».

 رفضت العريس وقررت الرهبنة

ومن جانب آخر، تحكى لنا «نانسى» كيف تركت أختها المنزل وذهبت لخلوة فى الدير إلا أنها عادت لتعلن قرارها أنها أصبحت طالبة رهبنة.

تقول: «كنا نعرف جميعًا رغبة أختى فى الرهبنة إلا أن والدى وأمى كانا يأخذان الكلام على أنه دعابة، فكنت أؤكد أنا لهما أنه جد وليس هزارًا، ويجب أن يحترما قرارها وينظرا إليه بعين الاعتبار».

وتضيف نانسى أن هناك أشياء ومواقف فى حياة أختى كانت تؤكد لى أنها فعلا ستأخذ هذه الخطوة يومًا ما، مثل طريقة كلامها وصلاتها وبعض المواقف الخاصة بها فى أمور بعينها» كل هذا جعلنى أتيقن من رغبتها فى ذلك.

وتتذكر أنه عندما شعر أبى بأن الموضوع أصبح قاب قوسين اتفق مع أب اعترافها وقاما باختيار عريس لها وجعلاه يتقدم إليها رسميًا فى المنزل، إلا أنها رفضت بشدة مؤكدة أنها تعتزم الرهبنة وأنها أعلنت ذلك كثيرًا.

وأمام رغبتها خضع والدى، ولكن أمى ظلت تنهرها وتطلب منها أن تصرف نظر عن الموضوع كله.. وتقول لها إنها من الممكن أن تعيش معها وتتعبد إلى الله أيضًا، إلا أن أختى لم تصغ لها واتخذت قرارها.

وفعلًا ذهبت إلى الدير، وفى البداية أخذت تقضى نصف الأسبوع معنا والنصف الآخر فى الدير إلى أن طلبت منها رئيسة الدير أن تأتى بأشيائها لتستقر بشكل نهائى فى الدير.

جاءت أختى وأخبرتنا فما كان من أمى إلا أن انهارت وظلت تبكى وتحاول معها مرات ومرات ولم تفلح.

وظلت أمى هكذا طوال الفترة التى قضتها أختى كطالبة رهبنة، والتى استمرت لأكثر من ٥ سنوات كاملة، إلا أنه وفور علمها بارتداء أختى الزى الأسود انطلقت الزغاريد من فمها كمن تكون فى فرح ابنتها، وحينها قالت لى أنها اطمأنت عليها وأنها ستظل داخل أسوار الدير بشكل نهائى؛ حيث كانت أمى تخشى أن تعود إليها وقد رفضت خاصة بعد وفاة رئيسة الدير التى قبلتها فى الرهبنة.

وفى النهاية نجد أن الأهل يرضخون لرغبة أبنائهم رغم الآلام الرهيبة التى تسكن قلوبهم، ولكنهم يؤثرون الصمت، لكنها تظل معرفة أن فلذات أكبادهم سيكفنون بستر الهيكل وتصلى عليهم صلوات الجنازة تمزق قلوبهم حتى ولو الكنيسة تمنعهم من حضور هذه المراسم احترامًا وتقديرًا لمشاعر الأبوة.