الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر- حليم-السعدنى.. حليم.. يأكل كوارع إنجليزية

ناصر- حليم-السعدنى.. حليم.. يأكل كوارع إنجليزية

فى الحقيقة أنا لم أجد فى صنف البشر من هو أقدر على رسم البسمة على الشفاه وإدخال البهجة فى القلوب مثل الولد الشقى السعدنى الكبير رحمه الله.. فقد كان العندليب ذات مساء فى لندن وكانت هناك مجموعة من الدارسين المصريين وتصادف أيضا وجود الفنان محسن سرحان، وبالطبع لم يكن العندليب يبحث عن الفسح أو المرح أو مشاهدة المسرح أو السينما فى بلاد الإنجليز، وكذلك كان السعدنى وشقيقتى الكبرى هالة فجميعهم يستمتع بالذهاب إلى الأطباء ويبحث فى شوارع هارلى ستريت عن أمل فى العلاج ورجاء فى الشفاء..



 

 حليم يسابق الزمن من أجل حل لمرض البلهارسيا الذى بدأ يدفع ثمنه الكبد.. وكان السعدنى يقول للعندليب: إن المعدة هى بيت المزاج والانشكاح وعليه أن ينسى الكبد وأن يهتم بالمعدة وأن يأكل ما تمليه عليه «نفسه»، وليس ما يكتبه له الطبيب، ويروى السعدنى كيف كان الطبيب العبقرى أنور المفتى يصف له نظامًا غذائيًا شديد الصعوبة، وبالإضافة إلى ذلك قائمة من الدواء تمرر حياة أى إنسان، وفوق ذلك قائمة أخرى بالممنوعات من أطايب الطعام والشراب التى هى من نعم المولى عز وجل، على بنى البشر وقد كان أنيس منصور والسعدنى يعانى كل منهما من القولون الذى تحول بفضل مهنة المتاعب إلى قولون عصبى مجنون أضفى على مزاجهما نوعًا من الغيظ والضجر، فهو يعكر صفو أنيس والسعدنى ويسبب لهما آلامًا لا يحتملها بشر بعد تناول وجبات الطعام التى اعتاد عليها أهل الجيزة وإن كان السعدنى أكثر ظلما لقولونه وجهازه الهضمى بما يحشره من طعام، فهو يأكل الشطيطة وهى أكلة شعبية لا يعرفها إلا أولاد البلد الأصليون وموقعهم الجيزة الجوانية، حيث الحاج سيد مخيمر أحد أكبر تجار الغلال فى بر مصر بأكمله والحاج سرور أبوهاشم المعلم الجيزاوى الشهير، والشطيطة هى كرشة الدبيحة سواء ضانى أو بتلو يتم غسلها جيدًا، ثم عجنها فى الشطة، ويا عينى لو كانت من النوع السودانى الذى يقتل جميع جراثيم البطن ويترك خلفه حريقًا لا تستطيع كل أجهزة المطافئ فى العالم أن تخمده داخل المعدة والأمعاء ويظل آكل الشطيطة يصرخ ويتلوى بعد الأكل ونهاره أغبر بعون الله عندما تناديه الطبيعة لعملية الخلاص من بواقى المأكولات.. فى تلك اللحظة يصبح الموت أهون ألف مرة من عملية التعذيب الأزلى هذه، وبالطبع كانت هناك أصناف الطواجن التى تفنن أهل الجيزة فى صناعتها وهى تحتوى على اللحم مادة أساسية، ثم يضاف إليها الكثير من البصل والثوم والبهارات بكل أنواعها، ثم يلقى فى الطاجن بما يمكن جمعه من محصول الفلفل الأخضر الحراق والفلفل الأحمر الناشف والشطة الحمراء والفلفل الأسود ثم تدخل الفرن البلدى وتترك لمدة ساعتين بعيدا عن النار وعندما تخرج من الفرن فإن رائحتها تفوح على بعد عدة كيلومترات وتتحول إلى شىء أشبه بأسلحة الدمار الشامل لو طال العمر بالسعدنى رحمه الله لربما قبضوا عليه بالتهمة نفسها التى وجهوها لصدام حسين ومعمر القذافى وهى امتلاك أسلحة دمار تهدد الجنس البشرى، وأضف إلى هذا ذلك الاختراع الذى اكتشفه السعدنى والذى اعتبره كنزا خص الله به أهل الجيزة وحدها، إنه عبدالنبى الطرشجى الذى حباه الله بأسرار المهنة دون غيره من أصحاب الكار فأنتج نوعًا من الطرشى لا يمكن أن تتذوق له مثيلا بين كل الطرشجية فى أنحاء المحروسة، لم يكتف السعدنى بأكل الطرشى، ولكنه أدمن أيضا شرب مية الطرشى وهى أسوأ ألف مرة من مية النار فهى عبارة عن منقوع شطة على خل على أشياء أخرى لا يعلمها سوى علام الغيوب تساعد فى أن يستوى الطرشى فى وقت قياسى، وكانت كل هذه الأشياء كفيلة بأن يستمتع السعدنى بالطعام فقط وهو يتذوقه على أن يعيش مرارة المأساة بعد ذلك أثناء عملية الهضم وما بعدها، ولذلك اجتمع السعدنى وأنيس منصور على حب أنور المفتى والتعلق به، والذهاب خلفه فى كل مكان والبحث عنه كلما صرخ القولون بالصوت الحيانى.. وكانت وكما قلت تعليمات أنور المفتى صارمة.. لدرجة أن السعدنى اصطحب أنيس منصور ذات يوم وقال له: إن الحياة لم تعد تصلح لهما وهما أيضا لم يعد أى منهما يصلح للحياة، فقد اقتربت النهاية، بل إنهما فى سبيل السعى لإنهاء هذه الحياة بمحض إرادتيهما وتعجب المفتى من كلام السعدنى ونظر إلى أنيس منصور ليتأكد من صدق كلمات السعدنى فوجده يعيش أعماق الأسى والحزن يتطاير من عينيه.. وقام من خلف مكتبه وأحضر كرسيًا صغيرًا وجلس وسط السعدنى وأنيس منصور، وقال: انتوا المفروض مرضى من نوع خاص، أنتم كتاب وصحفيون وأدباء وعندكم خيال واسع، انتوا بتسعدوا أهل مصر والعرب بكتاباتكم وأعمالكم.. ولو الإحساس ده سيطر عليكم مش ح تسعدوا نفسكم فكيف لكم أن تسعدوا الآخرين.. وهنا قال أنيس منصور: الممنوعات زادت والأدوية كمان والمزاج انقلب والأحوال مش ولابد، فقال الطبيب العظيم: انتوا من إمتى بتسمعوا الكلام وليه المرة دى واخدينها جد.. وبعدين هو فى فنان عمره سمع كلام حد انتوا لازم تتمردوا على كلام الدكاترة.. زى ما بتتمردوا على الحكومة والأوضاع فى بلدنا اشمعنى كلامى أنا اللى اعتبرتوه مقدس.. وهنا نظر السعدنى إلى أنيس منصور وقال: أما إننا طلعنا «خشاناا» صحيح.. وهى جمع «خشنى» يعنى زى أنت فاكرنى كروديا.. بس بالتعبير السعدني.

استسلم حليم لأكلات السعدنى فهو ومن معه» محسن سرحان «وعدد كبير من الدارسين والدراسات المصريين فى بلاد الضباب.. وكان السعدنى يشترى اللحم من جزار بالقرب من منطقة بادنجتون واكتشف أنه يلقى بالكوارع فى سلة الزبالة.. فسأله أن يحتفظ بها المرة القادمة، واستجاب الرجل لطلب السعدنى، فقام بجمع الكوارع من الزبالة ومنحها له.. فقال له السعدنى: هذه المرة لا.. ولكن فى المرة القادمة لا تلقى بها فى الزبالة، ولكن اجمعها فى كيس نظيف.. وهنا انحنى الرجل احترامًا للسعدنى وقال له: أنت إنسان عظيم بمعنى الكلمة.. فاندهش السعدنى وقال للجزار ضاحكًا: وكيف علمت بهذا الأمر.. فأجابه الجزار: أنت رفضت أن تطعم كلابك من الزبالة، وهذا أمر لا يحرص عليه إلا إنسان عظيم، وهز السعدنى رأسه وقد أسعده ما وصل إليه الجزار من استنتاج.. ولكن الرجل فاجأ السعدنى بسؤال.. وجده عويصًا وقال: أى نوع من الكلاب تربى يا سيدى؟ وهنا وكما فى كل المواقف المحرجة يجد السعدنى مخرجًا فوريا.. فقال فى ثقة تامة: إنه نوع «الأرمنت»، وهنا ترك الجزار عمله وأحضر كرسيًا للسعدنى وكرسيًا آخر لنفسه ودخل فى حوار طويل حول نوع هذا الأرمنت الذى لم تذكره أى موسوعة من الكلاب ويا عينى على الجزار الذى وقع ضحية لخيال السعدنى الخصيب الذى سافر بالجزار إلى المحروسة وإلى الجيزة بالتحديد، حيث ينتشر الكلاب الأرمنت فى كل حواريها وتصادق الناس وتصاحبهم وتأكل معهم وتلعب مع أطفالهم وتمارس نباحها على كل غريب يدخل الحارة، ويحكى للجزار كيف أن الكلب الذى كانت تربيه والدته أنقذها ذات مرة من براثن ذئب مفترس، هجم عليها وهى فى رحلة صيد فى برارى الجيزة.. واستسلم الجزار لسحر حديث السعدنى الذى حكى له حكاية الأفريقى الذى كان ضمن الفرقة الأفريقية التى تتبع الجيش البريطانى الذى حارب فى الحرب العالمية الثانية والذى أصبح صديقًا لأهل الجيزة ولكلاب الأرمنت فى الجيزة وكيف أنه تخلف عن العودة إلى بلاده بعد أن رفضوا أن يصحب معه صديقه الحميم الكلب الأرمنت، وكان من نتائج هذه الحكاوى السعدنية أن الجزار كان يمنح السعدنى كما من الكوارع يكفى سكان الجيزة وكلابها وما جاورهم أيضا، وعلى وعد أن يأتى السعدنى ذات يوم بكلابه الأرمنت التى هربها من مطار هيثرو بفضل فكاكته ونصاحته من أعين رجال الجمارك.. وهكذا كتب لمحسن سرحان والعندليب الأسمر أن يتناولوا هذه الوجبة العزيزة الغالية على أهل مصر من الكوارع وهم يعيشون فى بلاد الإنجليز الذين لم يعرفوا بعد أن للكوارع والسقط والعليقة أى استخدام بشرى كطعام حتى يومنا هذا!