الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
إِيبو العظيم

إِيبو العظيم

ذهب إلى القصر الملكى. انتظر فى الخارج حتى سُمح له بالدخول إلى قاعة العرش الملكى الكبرى. دخل إلى القاعة الفسيحة. أخذ ينتظر والرجاء يملؤه هذه المَرّة. أخذ بينه وبين نفسه يستجدى النصر والغيث وقطرات المطر والفرَج. بمجرد دخوله إلى قاعة العرش الفخمة والرائعة الأثاث، ألقى التحية على جلالة المَلك الذى كان يجلس على العرش فى المنتصف، وكانت زوجته تجلس بجوار المَلك على العرش إلى يساره، وكان ابنهما ولى العهد يجلس على يسار أمّه. بينما كان يجلس الوزير «سوبك» إلى يمين المَلك، وإلى يمينه كان يجلس رئيس البلاط الملكى «عِبو».



 

كان قائد الجيش «نَخت» ونائبه القائد «مِسحتى» يجلسان على يسار الملكة وولى العهد. وكان الساقى الملكى «دِبحنى» يقف خلف الملك مباشرة وفى يده الكأس وقنينة الخمر. وكان يقدم الشراب للملك بين الحين والآخر. وسط حاشيته، أخذ الملك يتطلع بخليط من مشاعر القلق والدهشة والتعجب وحُب الاستطلاع والإهمال أيضًا والضيق والتبرُّم إلى الحكيم:

-تقدم يا حكيم إيبوور. ما الخَطب؟

-إن الأمور لا تُسر عدوّا ولا حبيبًا يا جلالة الملك.

- خير! هات ما عندك أيها الحكيم.

- أعطنى الأمان.

- لك الأمان. 

- كما تعلم يا مولاى الملك أن استقرار الكون قائم على الإله الخالق الأعظم فى عالمه الخفى، وعلى الملك المقدس ممثله ونائبه ووريثه وخليفته على الأرض. والإله، دون شك، رحيم ومحب لمخلوقاته. ولا بُد أن يكون الحاكم عادلًا ومنفذًا لإرادة الإله على الأرض. ودون الحب والأخلاق والتراحم والعدل، فقل على الدنيا وبلادنا السلام يا مولاى الملك.

ثم أكمل مخاطبًا الملك:

- يا سيد الكل، اسمح لى أن أنقل إليك ما يحدث فى البلاد من أحزان. 

صاح متعجبًا:

- ماذا تقول؟!

- يا سيد الجميع، الشعب يعانى، وفوّضَنى بصفتى من رجال بلاطك، أن أنقل إليك ما يعانيه من فوضى عارمة تنذر بهلاك البلاد والعباد.

احتج الجميع:

- ومَن فوّضك من الشعب؟!

- جاء لى كثير من الناس وطلبوا منّى أن أصل بصوتهم لجلالة المَلك.

-أصحيح ما تقوله؟!

- يا سيد الخَلق، هلك الحرث والنسل. ولم يجرؤ أحد على إخطار جلالتكم بذلك.

والقلق ينهشه:

- أوضح أكثر يا أيها الحكيم.

- يا سيد الكون، لقد ساد الشر، وعمّت الفوضى، وأصبح العالم خارج السيطرة. 

فى دهشة:

- ماذا تعنى؟!

- داس الناس على القوانين. وصار الرجُل يذبح أخاه. وأصبح الرجُل يُذبَح بجوار أخيه، فيتركه وينجو بنفسه. وصار المرءُ ينظر للجميع نظرة العداء والخوف والريبة. وصار الزائر الغريب يُسرَق ويُذبَح. وأخذ الأحمق يقول: ولو عرفت أين الإله؛ فإنى أقدم له قربانًا. لقد مات السرور. واختفت السعادة. وساد الحزن. ولم يعد هناك حَمْل ولا ولادة. وأصبح الأحمق يعتقد أنه الأكثر حكمة. وصارت بلادى خانقة. وصار البشر يموتون كالحيوانات. وأصبح يكبلهم القهر فى كل مكان وفى كل وقت. وأصبحنا يترصدنا الخوف ليل نهار. واختفت السعادة. وكثر الحزن. وصارت أرضنا أرض العجائز والفقر والقهر والاختناق بامتياز. وأنت يا جلالة المَلك تقيم بعيدًا عنا، جميعًا، تقيم، وحيدًا. وصارت الحياة مضطربة. وسيطر المطر والوحل والشوارع الكئيبة المعتمة على بلادنا. وصارت الكلاب تنبح فى كل مكان. وأخذت ذئاب الصحارى تعوى من الجوع. هل كنت تتخيل وتفكر أن يحدث ذلك أبدًا يا مولاى؟! صار الكل حزينًا. ليست هذه بلادنا التى نعرفها. إنها بلاد أخرى غير التى كنا نعرفها. صارت غير مستقرة. أصبحت الأرزاق شحيحة. وصارت الهموم كثيرة. وعمّ الغلاء. وجف النهر. وزاد القحط.

متعجبًا ومندهشًا:

- ألهذا الحد وصلت الأمور؟!

- حاق بالبلاد الفساد، والسرقة تفشت فى كل مكان، والقتل والخراب قد عمّ، والكارثة تنتشر بظلالها الكئيبة على كل أرجاء البلاد. لم يعد أحد يعبد الآلهة. هجر الناس المَعابد. وانقطعوا عن تقديم القرابين لها. ولا بُد أن يسمع جلالة المَلك صوتنا، صوت الشعب الذى أخذ ينوح فى بؤس وحُزن وأسَى، وإلا فعليه أن يرحل. 

صاح منزعجًا:

- ماذا تقول؟!

- المعذرة كل المعذرة يا مولاى المَلك، فهذا ما يقولونه فى طول البلاد وعرضها. ويقولون أيضًا إننا نعيش حياة البؤس، إننا نأكل القاذورات، فأى عيش هذا الذى نعيشه ونحياه بحق اليقين يا مولانا المَلك؟! إن حراس الأبواب يقولون: دعنا نذهب لننهب، والغسّال يرفض أن يحمل حمله، وصيادو الطيور استعدوا للقتال، وآخرون من الدلتا حملوا الدروع، ومن كانوا يزاولون أبسط الحِرَف كصانعى الحلوى والجعة، ثاروا. وصار المرءُ ينظر لابنه كما ينظر لعدوّه، وأصبح الرجل الفاضل فى حزن وأسى لما أصاب البلاد. وغدا الأجانب فى كل مكان، وأقحموا أنفسهم فى شئون البلاد، كأهل البلاد. وكى يحيا البعض، فلا بُد أن يموت آخرون. وصارت هذه هى الحياة فى بلادنا للأسف الشديد. ليت الناس يفنون، فلا يحدث حَمْل ولا ولادة، وليت البلاد تخلو من الغوغاء حتى يُقضى على الشجار. ليتنى رفعت صوتى لك يا جلالة المَلك من قبل، وليس الآن فقط فى هذا اليوم، حتى كنت أنقذ نفسى من الألم الذى أنا فيه الآن، والذى حمّلنى إياه شعبنا النبيل الكادح البائس كى أصل بصوتهم إلى أذنىّ جلالتك، فالويل كل الويل لى؛ لأن البؤسَ عمّ فى هذا الزمان. والفوضى والفساد ينتشران فى كل مكان، كما تنتشر النارُ فى الهشيم. إننا لا نعرف ماذا يحدث فى البلاد بالضبط.

- عجيبٌ جدّا ما تقوله يا أيها الحكيم. 

ثم وجَّه كلامًا لحاشيته وكبار رجال دولته:

- لماذا أنتم صامتون؟! ولا أسمع لكم صوتًا فيما يقوله؟! ولم أسمع منكم أى كلام عن هذه الأمور من قبل؟! 

ثم سأل الوزير سوبك:

- ماذا تقول يا وزير سوبك فيما يقوله الحكيم إيبوور؟

رد عليه الوزير مُسفهًا من كلام إيبوور:

- كلام فارغ، وليس له أى أساس من الصحة يا مولاى المَلك. 

تجاهل إيبوور كلام الوزير، ثم أكمل حديثه لجلالة المَلك موضحًا ضياع مهابة البلاد فى الخارج والتهديدات المستمرة والمتزايدة بالغزو والاعتداءات على أرض وحدود البلاد وقطع مياه النهر عن البلاد:

- عاد البدو الآسيويون يعتدون على حدودنا الشمالية الشرقية، بل صاروا يقتلون جنودنا البواسل الأبطال، ويريدون أن يدخلوا بلادنا، وأخذ الدخلاء الغرباء الموجودون إلى الغرب من حدودنا يهددون حدودنا الغربية، وصاروا قاب قوسين أو أدنى من احتلال غرب الدلتا، وبدأ جيراننا الجنوبيون يهددون بقطع مياه النهر عن بلادنا، وشرع أهل جُزر البحر العظيم، إلى الشمال من حدودنا، يهاجمون بلادنا من الشمال، وأخذوا يخططون لاحتلال شمال الدلتا. فهل لك أن تتصور كل هذا الخراب وكل هذه المهانة يا جلالة الملك؟!

سأل قائد الجيش نَخت منزعجًا:

- ماذا تقول؟! رد عليه يا قائد نَخت.

رد عليه القائد نَخت نافيًا كل ما قاله:

- كله كذب يا مولاى المَلك، وقد قضينا على هجمات البدو الآسيويين منذ زمن بعيد، واحتفلنا بذلك، وجلالتكم تتذكرون النصر على البدو الآسويين، وقد تكرمتكم، جلالتكم، بتكريمنا أنا والقائد مِسحتى وبمنحنا أعلى الأوسمة العسكرية فى البلاد، وأقمتم احتفالًا كبيرًا فى مناسبة ذلك النصر المبين، ولم تقم للبدو الآسيويين قائمة من بعد ذلك.

تهلل وَجْهُ المَلك بالبِشْر والسرور ونسى عظام الأمور التى ذكرها إيبوور. وفرح القائد نَخت بنجاته من هذا الموقف ومن كلام إيبوور الحقيقى الذى أنكره. غير أنه أخذ يدبر بينه وبين نفسه كيفية الانتقام من إيبوور. نظر إيبوور إلى نائب قائد الجيش القائد مِسحتى الذى بدا عليه أنه معترض على ما قاله القائد نَخت، غير أنه آثر الصمت والسلامة حتى لا يحرج قائده أمام المَلك وكبار رجال الدولة. وأيضًا لم يرد إيبوور أن يحرجه مع رأس المملكة وقياداته، فلم يوجّه له الكلام، ولأنه أيضًا لم يكن مسموحًا له أن يوجّه الكلام إلا للمَلك، والمَلك كان هو من يرد عليه ويوجه الكلام ويسأل الآخرين. أكمل إيبوور موجهًا كلامه للملك ولم يعقب على كلام القائد:

- يقول الناس، يا جلالة الملك، إن لديك الحكمة والبصيرة، ولكنك يا جلالة الملك تترك الفساد ينتشر فى البلاد، والمعارك تشتعل نيرانها، وتجعل الإنسان يضرب أخاه الإنسان. وقالوا لقد كذبت عليك حاشيتك، يا جلالة المَلك، فالبلاد تحترق كالقش الملتهب، والناس على شفا الهلاك، وهذه السنوات كلها سنوات حرب أهلية. 

حقّا لقد شحب الوجه، 

وقد تنبأ بذلك الأجداد. 

حقّا لقد امتلأت البلاد بالجماعات والعصابات، 

وأصبح المرءُ يذهب ليحرث ومعه درعه. 

حقّا لقد شحب الوجه، 

وصار حامل القوس مستعدًا، 

وأصبح الأشرار منتشرين فى كل مكان، 

ولا يوجد رجُل من رجال مقامات الأمس. 

حقّا إن من ينهبون ينتشرون فى كل مكان. 

حقّا إن النهر قد يأتى بالفيضان، 

ولكن ما من أحد يحرث. 

وصار الحمقَى يرددون: 

- لو نعرف أين الآلهة، لقدمنا لها القرابين!!! 

وقالوا أيضًا، يا مولاى، مع الأسف الشديد:

- إن تلك الآلهة هى التى تحمى المَلك، فلسنا فى حاجة للآلهة ولا الكون فى حاجة لها.  لقد يئس الناس من كثرة وعود جلالتك، عفوًا، الكاذبة لهم يا جلالة المَلك. 

صاح المَلك فى وجهه:

- وماذا يطلبون؟ وماذا تطلب؟

- يقولون لجلالتك، أقم الماعت أو العدالة على الأرض، أى أقم الحق والصدق والعدالة والنظام الكونى على الأرض بصفتك ابن الآلهة على الأرض. وتذكر إنه عند رحيل الحاكم، أى حاكم، وإسدال الستار على زمنه وفترة حُكمه، سوف يصير عهده فى ذمة التاريخ، لا فى ذمة أسرته وأصدقائه والمقربين منه الذين لن ينجحوا فى تجميل صورته وأفعاله فى أعين الشعب والأجيال القادمة. 

اعلم أن مشكلة البلاد الأزلية هى غياب العدالة وانتشار الفساد. وأن الحروب الداخلية صارت طاحنة، وكل حاكم إقليم يعيش فى إقليمه مَلكًا منعزلًا عنك، يا جلالة المَلك. يا أيها المَلك، إنك تقيم وحيدًا ومنعزلًا فى قصرك فى عاصمتك. ويقول الناس، للأسف الشديد: 

- لقد أوشكت سُلطة هذا المَلك على الزوال، وقريبًا سوف تضيع كل ممتلكاته، وسوف يضيع كل شىء. 

وهنا اعترض المَلك بشدة:

- ماذا تقول يا أيها الحكيم؟!

- انظر إن حاكم إسنا يكتب ويقول عن نفسه: 

-إننى مَلك قوى فى حد ذاتى، بل إننى صرت أقوى من المَلك نفسه.

هذا ما يقوله يا جلالة المَلك، وكذلك قال مثل قوله حاكم إدفو. وساد البلاد الخوف. وانتشر القحط. وعم الانحلال الأخلاقى. وتم إهمال المعابد وتم تجاهل الآلهة. وقال الناس عنك: 

- لقد عزل الشرفاء وعيّن بدلًا منهم اللصوص؛ لأنهم ينافقونه ولا يطلعونه على الحقيقة. والحاكم العادل لا بُد أن يعزل رجاله الفاشلين السارقين الفاسدين ويعيّن موظفين صالحين بدلًا منهم. ولا بُد أن يحمل راية الإله وينفذ إرادته على الأرض حفاظًا على البَشر الذين هم روح الحياة وعطر البلاد. 

وهنا نظر الوزير سوبك بمقت شديد لإيبوور، ثم نظر إلى رئيس البلاط الملكى عِبو. وكذلك نظر قائد الجيش نخت إلى سوبك وعِبو. وفهموا أنهم هم الثلاثة الذين يقصدهم إيبوور دون غيرهم بكلامه الصريح الواضح. ثم استطرد:

-أخذ الشعب يتساءل بحرقة ولوعة وألم قائلًا: 

-مَن يصلح الأحوال؟ 

مَن ينقذ البلاد؟ 

مَن يعيد البلاد إلى سابق عهدها المزدهر غير جلالة المَلك، إن كان يريد هذا، ولايزال يفكر فينا، فنحن شعبه الذى ائتمنته الآلهة عليه؟ 

فلا بُد من العودة إلى التقاليد القديمة، يا مولاى المَلك. ولن يحل الأزمة إلا أنت تكون، يا مولاى المَلك، حاكمًا عادلًا تقوم بالإصلاح وتنهض بالبلاد وتعود بها لعصرها الذهبى الماضى.

ثم أكمل موضحًا الأمور:

- تذكّر الأيام السابقة، أيام الرخاء والاستقرار! 

تذكّر كيف كان يُحضر الإوز السمين، كى يُقدم هو والبط فى القرابين المقدسة للآلهة! 

تذكّر كيف كان يُمضغ النطرون ليطهر الكاهن فمه ويُجهز الخبز الأبيض! 

تذكّر كيف كانت تُقام أعمدة الأعلام! 

تذكّر كيف كانت تُنقش أحجار القربان! 

تذكّر كيف كان يُطهر الكاهن المعابد! 

تذكّر كيف كان يُبيض بيت الإله كاللبن! 

تذكّر كيف كان يُعطر المَعبد! 

تذكّر كيف كان يُخلد خبز القربان. 

تذكّر كيف كانت تُراعى القواعد! 

تذكّر كيف كانت تُنظم أيام الشهر! 

تذكّر كيف كانت تُنحَر الثيران! 

تذكّر كيف كان يُوضع الأوز على النار كى يُقدم قربانًا!

تذكّر كيف كان الاستقرار الذى غادر البلاد!

أخذ المَلك يتأمل كلماته باهتمام بالغ. ثم استمر:    - إن الحاكم العادل الذى يحلم به الجميع هو من يطفئ لهيب الحريق الذى يأكل البلاد منذ فترة، إنه الراعى لكل الناس، والذى لا يحمل فى قلبه شرّا أبدًا، وحينما تكون رعيته متفرقة، وحينما تكون قطعانه قليلة العدد؛ فإنه يقضى يومه فى جمع شتاتها المتناقض الظمآن للعدل والحق، ويجمع شتاتها الكبير إلى بعضه البعض. 

فأين هو اليوم؟

مؤكد أنه قادم فى الطريق، لا محالة، فقد طال الظلم، وغاب العدل، واختفى صوت الحق من البلاد، وعمّت الفوضى، وخرج كل شىء مقيت من نفوس العباد إلى ربوع البلاد وانتشر بقوة. 

هو قادم، لا محالة، وليس بغائب عمّا يحدث فى بلادنا، هو يعرف كل ما يدور فى البلاد، هو من هذه البلاد، هو ابن لهذه البلاد، هو نبت من هذه البلاد، هو يعرف ما يريده العباد، هو قادم بكل قوة لنصرة الحق وإقامة العدل ورفع الظلم. 

يا جلالة الملك، سوف يأتى من بَعدك مَلك من الجنوب، يطرد كل الأشرار من دائرة الحُكم، ويعيد توحيد البلاد تحت رايته، فتعود البلاد إلى سابق عهدها من الوحدة والمجد والقوة والرخاء والاستقرار.

مالت المَلكة على أذنىَّ المَلك، وقالت له بعض الكلمات، فقال المَلك ساخرًا منه:

- ليس هناك مَلك غيرى، ولن يأتى أحد بعدى إلا ابنى المَلك «جمنى».

فرح ولى العهد حين سمع هذه البُشرَى من أبيه المَلك. وأكمل المَلك كلامه بكل العند والصلف والتكبر والغرور والرفض والتجاهل التام لكل ما قاله إيبوور:

- الشر ناتجٌ من الشعب، وليس من أى أحد آخر، وليس حتى من الأعداء الخارجيين. وشعبنا هو عدو نفسه. ولن يقضى على الفوضى، إلا الشعب، وليس الإله أو المَلك. ولن يحدث تغيير للأفضل دون رغبة الشعب بأن يقضى الشعب على الشر بنفسه. والإله لن يتدخل لإنقاذ الشعب مادام الشعب لا يتدخل هو أولًا لإنقاذ نفسه. الشعب هو من جعل نفسه بنفسه يعانى. ولم يتخلّ الجميع عن الشعب؛ لأن الشعب هو صانع الشر، الشر ينبع من الشعب، ولا أحد غير الشعب، والشعب هو مَصدر كل الشرور والآثام. الشعب يعانى من كل الشر الذى ارتكبه الشعب نفسه. 

أخذت الدهشة مأخذها على وجه إيبوور، بينما كان البشر والسرور يفترشان مساحات واسعة من أوجه الموجودين باستثناء القائد مِسحتى الذى كان يتابع الأمر فى صمت وحكمة وتقرب وتعقل واستطلاع ووجوم. أكمل المَلك:

- وبصفتى ابن الآلهة؛ فإننى أقول على لسانها، لقد خلقنا كل إنسان فى أحسن حالة مثله مثل أى إنسان. ولم نطلب من البشر أن يفعلوا الشر. وقلوبهم الحاقدة هى التى سوّلت لهم فعل الشر، فدمروا ما أمرنا به. وصنعنا العالم بإتقان ليس له مثيل. وما جعلنا الشعب يتمرد، ويصنع الشر، ولما فعل الشعب الشر، قررنا التراجع عن الشعب حتى يترك الشعب الشر ويعود إلى صوابه. ولقد تركنا الشعب، وكذلك الكون، كى يعيش فى فوضاه وصراعه وشروره التى خَلقها هو بنفسه ولنفسه، فعلى الشعب حلها هو بنفسه كما فعلها هو بنفسه. 

اعترض إيبوور على كلام المَلك:

- يا مولاى المَلك لا تقل شيئًا على لسان الآلهة لم تقله. ونيابة عن الشعب؛ فإننى أحَمّل جلالتك المسئولية كاملة؛ لأن الشعب يعانى دون أى ذنب اقترفه. يا ليت جلالتك تشعر ببعض الذى يعانيه ويشعر به الشعب. ولعل جلالتك تفعل شيئًا وتُصلح الأحوال وتقيم العدل والقانون والنظام فى البلاد والكون. أنت لست الآلهة، أنت جلالة المَلك فقط يا مولاى، والكون خلقته الآلهة وهى المتحكمة فيه، أنت تفعل فقط ما تطلبه منك الآلهة، فلا تدعى أنك أنت الآلهة، ولا تجبر أحدًا على طاعتك دون موافقة ورغبة الآلهة، وطهِّر نفسك وقلبك وروحك يا مولاى من كل شر من الشرور ومن كل إثم من الآثام قبل لقاء الآلهة فى الآخرة، وما أنت يا مولاى، وأنا، وأنتم جميعًا، وغيرنا، إلا ظلال أضواء مرّت على الحائط ذات مَرّة، ولم ولن يبقى لها أو لجلالتك أو لنا جميعًا أىُّ أثر، إن لم تُقم العدل يا مولاى المَلك.

صاح جميع الموجودين فى القاعة محتجين بصراخ هِستيرى بعد أن ألجمتهم حكمة وقوة منطق وكلام إيبوور غير أنهم كانوا يكابرون ويرفضون الاعتراف بما يقوله. كان القائد مِسحتى معجبًا بكلامه، دون أن يفصح عن ذلك، وظل يراقب ما يقوله وما يحدث فى صمت. قالوا جميعًا فى صوت واحد مرتفع، ما عدا القائد مِسحتى:

- ماذا تقول؟!

قال إيبوور بكل شجاعة:

- إننى أقول الحقيقة ولا شىء غير الحقيقة، وليس لى هدف إلا الصالح العام ومصلحة البلاد والعباد.

قال رئيس البلاطى الملكى عِبو معترضًا ومجاملًا للمًلك:

- هذا الرجل ممسوس، يا مولاى المَلك، تسكنه الشياطين والجن والمردة، إنه فقد عقله، إنه مخبول، يا جلالة المَلك المعظم الذى لم تأتِ البلاد بمَلك عظيم مثله من قبل، وأنا متأكد أنها لن تأتى بمَلك فى مثل عظمة جلالتك فى المستقبل، إن جلالتك مَلك واحد لا يتكرر كثيرًا، وليس كمثلك مَلك قط أبدًا.

قال له المًلك:

- شكرًا يا عِبو المخلص، رد عليه يا عِبو.

قال إيبوور لنفسه ساخرًا: 

- ألم تجد غير صاحب الوجه القبيح الكريه عِبو، بئس من اخترت أيها المَلك.

أخذ عِبو الحاقد على إيبوور والكاره له يهاجمه بشدة وعنف. قال له المَلك:

- دعه يكمل. استمر يا إيبوور، وماذا تريد أو تقول ثانيةً؟

-أهذا رأى مولاى جلالة المَلك؟

- نعم يا أيها الحكيم. وقد تحملت كلامك إلى النهاية بكل سعة صدر. ووصلت رسالتك التى ليست صحيحة أو صادقة على الإطلاق.

- انتبه، يا جلالة المَلك، القاعة التى تحكم منها البلاد هى قاعة كبيرة ومهمة، ويا ليت جلالتك تدرك قيمتها وقيمة وجود جلالتك فيها!

نظر له المَلك مندهشًا ولم ينطق ببنت شفة. 

- جلالة المَلك، لو سمحت لى أن أسألك سؤالًا واحدًا قبل أن أغادر (ساخرًا) مجلسكم الموقر. متأففًا:

- تفضل.

- ما القيم الأخلاقية التى تؤمن بها وتطبقها فى حياتك وتحكم بها رعيتك يا جلالة المَلك؟

صمت جلالة المَلك ولم يجد ما يرد به عليه. فقال إيبوور:

- من الآن فصاعدًا يا مولاى المَلك، لسنا أصدقاء ولا أعداء. وكل منا سوف يسير فى حال سبيله. وقد قلت ما عندى وحذرت جلالتك قبل أن ينفجر الطوفان الذى لن يبقى ولا يذر، وأحس أن بوادره قد أوشكت على الحدوث.

صاحت فيه المَلكة صارخة:

- كُف عن هذا الهراء، يا أيها الحكيم، ولا تشوه صورة بلادنا، ولا تتعاون مع المخربين من أعداء البلاد الخارجيين الذين يريدون نشر الفوضى فى بلادى العزيرة الكريمة المستقرة.

هاج الوزير سوبك:

- الحكيم يا مولاى شاخ وخرف، ويشيع اليأس وينشر الفوضى فى نفوس الناس من خلال أشعاره التى تجسد رأيه غير الصادق وأوهامه المريضة فيما يعتقد كذبًا أنه يحدث فى بلادنا العظيمة، كما ذكر وسرد وأفاض من تلك الأكاذيب أمام جلالتكم.

ثم وجّه الوزير حديثه لإيبوور معترضًا على ما قاله:

-ما هذا الهراء الذى تقوله يا حكيم؟! كف عن السير فى المدينة وفى البلاد ونشر هذه الأكاذيب التى تشيع روح الفوضى واليأس فى نفوس الشعب. كُف عن ذلك العبث، فرجالى يراقبونك ويرصدون كل همساتك وجولاتك ويسجلون كل كلماتك لليوم الموعود، يوم الحساب الذى سوف يأتى قريبًا لا محالة. إن بلدنا جميلة، أجمل بلاد الدنيا، والعالم جميل، غير أن نفسَك القبيحة، ونفوسَ أمثالك من الحاقدين الكارهين لنجاح واستقرار بلادنا الجميلة، لا ترى إلا القبيح والقبح فى بلادنا العظيمة. 

قال عِبو الكاره لإيبوور:

- صدقت يا سيدى الوزير سوبك. لا تُصدّق كلامه يا مولاى المَلك العظيم، إن من عادات إيبوور الحقيرة المبالغة وتشويه الأمجاد فى بلادنا الحبيبة الجميلة. إن إيبوور كذاب يا مولاى المَلك. إن الشعب يسبح بحمد جلالتك فى كل مكان آناء الليل وأطراف النهار. ويعلم الشعب فضلك العظيم عليه وعلى البلاد وأعمالك الجميلة له وللبلاد. 

قال جلالة المَلك:

- حقّا؟!

قال الجميع فى صوت واحد:

- نعم يا مولانا جلالة المَلك المعظم.

سعد المَلك بما سمع منهم. وطلب كأسًا من ساقيه دبحنى، فصب له كأسًا تجرّعها المَلك حتى الثمالة حتى راح فى سُبات عميق. هَمَّ إيبوور بمغادرة القاعة والقصر بينما كان يردد: - إن العدالة خالدة للأبد مع مَن يحبها ويحرص على فعلها، ولا يحيد عنها، وتنزل المقبرة مع صاحبها الذى أقامها على الأرض، فإذا توارى فى مقبرته، ووُضع فى التراب، فلن تُمحى ذكراه من على الأرض، ولسوف يذكره الذاكرون بما فعله من الخير دائمًا وأبدًا. 

إن هؤلاء الأشرار أموات يرثون أمواتًا، وإن دابر هؤلاء لمقطوع عمَّا قريب، أليس الصبح بقريب؟! لقد صار الأمرُ بيد صاحب الأمر بعد أن صارت الأرض خرابًا. إننى حذرتهم من طوفان الثورة والتمرد القادم بقوة وبسرعة، الذى بدأت تلوح بوادره فى الأفق، إنْ لم يفق المَلك قبل فوات الأوان، وأظن أنه لايزال ينام فى سُبات عميق، فلا أمَل بالمرّة، وصار الأمر كله للآلهة من قبل ومن بعد. وقد يبحث المَلك عنَى، فلن يجدنى. وللأسف لم يُصدّق ما قلته له. وسوف يختبر ذلك بنفسه بعد أن يكون قد نفد الوقت. ومن المؤكد أنه سوف يتهمنى بأننى كنت السبب وراء الثورة التى سوف تأتى على الحرث والنسل. فقد نصحت لهم، وما هم بقابلين لنصحى، بل ركبهم العند والصلف والتكبر والغرور والتعالى والتجاهل. وأخذوا يسفهون ما أقول لهم. 

إن الناس تتطلع إلى يد رحيمة تضمد جراحهم وتسكب عليهم فيضًا من الأمن والاطمئنان والأمان. وأشعر أنهم لسوف يجدون هذه اليد عمَّا قريب، وقريب جدّا. ولسوف يشرق فجر جديد عمَّا قريب، وسوف يمحو ظلمة الحاضر المقيت، وسوف يحيل بلادنا الجميلة إلى نهار وضَّاح النور والضياء وبازغ الدفء وباذخ الاستقرار والرخاء.