
أسامة سلامة
كولومبوس وتشرشل وديليسبس
بينما يحطم الأوروبيون والأمريكان تماثيل رموز العبودية، يطالب البعض هنا بعودة تمثال ديليسبس على شاطئ قناة السويس، مفارقة مدهشة وكاشفة لنمط تفكير أخشى أن يتنامى فى مجتمعنا، لا يقدر قيم الكفاح والتضحية والاستشهاد فى سبيل الحرية واستقلال الأوطان، مقابل تبنى ما يعتقد أنه قد يحقق مكاسب مادية مثل زيادة عدد السياح، ووضع بورسعيد على الخريطة السياحية، ومساهمة جمعيات فرنسية فى تطوير بعض مناطق المدينة الباسلة، وهى أرباح صغيرة لو تحققت بالفعل ولم تكن وهما، وتعبر عن منظور ضيق ورؤية قاصرة، لقد انزعج مواطنون فى الغرب من وجود تماثيل فى الميادين لشخصيات كانت لها أدوار فى الاستعمار وترسيخ العنصرية فأعلنوا رفضهم لوجودها، وعلى سبيل المثال تم تحطيم تمثال كريستوفر كولومبوس فى أكثر من ولاية أمريكية رغم أنه ينسب إليه اكتشاف العالم الجديد ويحتفى به باعتباره رحالة ومكتشف عظيم، ولكن من حطموا تمثاله يرون أنه فتح الباب أمام الاستعمار واضطهاد السكان الأصليين لأمريكا واستعباد السود الذين تم جلبهم من إفريقيا على أيدى تجار الرقيق، لقد بدأت الثورة فى أمريكا على هذه الرموز بعد مقتل جورج فلويد صاحب البشرة السمراء على يد الشرطة منذ أسابيع فى جريمة عنصرية بشعة، وتم على إثرها تحطيم تماثيل تجار العبيد وجنرالات الحرب الأهلية المؤيدين للعنصرية والعبودية، وامتد الأمر إلى العديد من الدول التى تضامنت شعوبها مع الدعوة التى أطلقت تحت شعار «من حق السود أن يعيشوا»، وطال الغضب تماثيل من ساهموا فى إذلال الشعوب الفقيرة، ففى بريطانيا تمت الإطاحة بتماثيل تجار الرقيق مثل إدوارد كولستون.
كما أزيل تمثال تاجر العبيد روبرت ميليغان، ولكن المدهش أن الثورة امتدت إلى شخصيات كان لها إسهامات بارزة فى تاريخ دولها، وقدمت خدمات جليلة لوطنها، مثلا تم تلطيخ تمثال رئيس الوزراء الشهير وينستون تشرشل بالدهان فى ساحة البرلمان وسط العاصمة لندن وكتب عليه كلمة عنصرى، رغم كل ما قام به من أجل بلده، فهو أحد أبطالها خلال الحرب العالمية الثانية، بل يمكن اعتباره صاحب الدور الأبرز فى إنقاذ بريطانيا وانتصارها فى هذه الحرب، ورغم ذلك ينظر إليه الكثيرون بأنه أحد المحرضين على الاستعمار واضطهاد الشعوب المحتلة عندما كان وزير المستعمرات البريطانية فى فترة من حياته، وفى بلجيكا قام محتجون بدهان تماثيل الملك ليوبولد الثانى باللون الأحمر، باعتباره مسئولا عن الإبادة الجماعية لسكان الكونغو فى عهد الاستعمار البلجيكى للدولة الإفريقية، وفى فرنسا طالبت التجمعات المناهضة للعنصرية السلطات الفرنسية بإزالة تماثيل الشخصيات التى ساهمت فى القمع والعبودية خلال الفترة الاستعمارية.
وحطموا تمثال فيكتور شولشير بالرغم من دوره فى إلغائه العبودية لأنه كان مساهما فى الاستعمار، كما تم استهداف تمثال جون باتيست كولبير أحد وزراء لويس الرابع عشر لأنه صاحب «القانون الأسود» الذى شرع العبودية فى المستعمرات الإفريقية، ولم يسلم تمثال الجنرال فيدهرب من الجدل، ورغم أنه أحد القادة الذين قاوموا بروسيا خلال حربها مع فرنسا ولكنه ساهم فى تكريس العبودية والاستعمار فى السنغال، كل هؤلاء قدموا لبلادهم الكثير ولكن لم يشفع لهم تاريخهم أمام عنصريتهم البغيضة، أما فى مصر فبعضنا لا يرى جريمة ديلسبس التى راح ضحيتها 120 ألف مواطن، ماتوا أثناء حفرهم القناة بالسخرة وفى ظروف لا إنسانية، ديلسبس الذى حكم عليه فى بلاده بالسجن بتهمة النصب، يرى البعض عندنا أننا سنكون أكثر تحضرا عندما نعيد تمثاله الذى أنزله المصريون من قاعدته فى بور سعيد عقب تأميم القناة وحرب 1956، هؤلاء لم يشاهدوا كيف يعاقب الأحرار فى الغرب من اضطهدوا السود وأهالى البلاد التى استعمروها، وهم يريدون بقصد أو بحسن نية أن يعاقبوا ويقتلوا الفلاحين الذين حفروا القناة مرة أخرى.