الجمعة 23 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
سايس.. عاصمة الصاويين

سايس.. عاصمة الصاويين

سايس أو صالحجر مدينة ذات تاريخ عريق، تقع فى مركز بسيون بمحافظة الغربية عند فرع رشيد، وتقترب من ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعود تاريخها إلى العصر الحجرى الحديث، وتطوَّرت خلال عصر الأسرات الفرعونية.



 

كانت تُسمى فى عهد الفراعنة «صاو»، وحرَّفها الإغريق إلى «سايس»، وسُميّت فى العصر الحديث صالحجر، وصلت سايس إلى أهميتها فى المجال السياسى فى الفترات المتأخرة من تاريخ مصر القديمة، حين أصبحت عاصمة مملكة كبيرة أسَّسها كبار حكام الليبو، وانبثقت منها الأسرتان: الرابعة والعشرون والسادسة والعشرون اللتان خاضتا صراعًا من أجل توحيد مصر.

 

إلهة سايس

 

وكانت الإلهة نيت ربة المدينة، تضع على رأسها تاج مصر السفلى الأحمر وتمسك بالقوس الذى كان من رموزها، وخلال الدولة الوسطى كانت لها معبودة تسمى «نبت صاو» بمعنى «سيدة سايس»، تمثل أحيانًا فى صورة الربة نيت والتى كان لها معبد كبير فى المدينة، أما فى عصر الدولة الحديثة، فكانت الإلهة موت ربة من ضمن ربات سايس، وفى العصور المتأخرة، صارت الربة حتحور سيدة سايس، واستطاعت الإلهة نيت-أم الإله رع- أن تحتل مكانة الإله آمون كإلهة أولى خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية (664 - 526 ق.م).

 

وصف المؤرخ الإغريقى هيرودوت سايس، بأنها كانت مركز التجارة بين اليونان ومصر، وكان التبادل التجارى بين سايس واليونان ودول البحر المتوسط يتم عن طريق «أبوقير»، وتقع المنطقة الأثرية شمال القرية، وتمثل بقايا العاصمة الصاوية، وفى العصر الحديث، بدأت أعمال الحفائر فى صالحجر عام 1850 ثم فى عام 1901. وتم اكتشاف عدة تماثيل نُقِلت إلى المتحف المصرى بالقاهرة، منها تمثال لـ«واح أيب رع»، وتمثال آخر لـ«سماتاوى تف نخت»، وتم نقل بعض التماثيل الصاوية إلى المتحف اليوناني-الرومانى في الإسكندرية، وقام بأعمال حفر بالمنطقة الأثرية عدد من البعثات الألمانية والإنجليزية والسويدية.

 

آثار باقية

 

منذ عام 1997، ترأّست عالمة الآثار والأستاذة بجامعة درهم البريطانية الدكتورة بينى ويلسون البعثة الأثرية بمنطقة تل ربوة الأحجار فى سايس القديمة، وتوصلت لعدد كبير من النتائج؛ منها العثور على مجموعة مجموعة من النقوش، ووجدت البعثة ما يشبه المربع مساحته 700 متر فى 780 مترًا، وكان يحيط به جدار مرتفع يصل إلى عشرين مترًا. يمكن أن يكون قلعة أو حصنًا فى هذه المدينة، ووجدت البعثة حفرة تعتبر موقعًا لتجميع مياه الصرف.

 

عثرت البعثة على ركام من الحجر الصوان والخزف والعظام، ما مكَّنها من الحصول على العديد من المعلومات، ومن بين الركام، وجدت كتلة سوداء، وهى كتلة من عظام الأسماك تعود إلى 4 آلاف سنة ق.م.؛ ما يؤكد على أن أهل المكان احترفوا مهنة الصيد، واستخدموا فى تربية الأسماك أحواضًا من الطين، كانت مخصصة لصيد القراميط.

 

ومن بين الآثار التى حصلت عليها البعثة رمح كان يُستخدم فى صيد الأسماك، وعاش بالمنطقة الجنود والزراع الذين كانوا يقومون على خدمة الجيش، ويبدو أن أغلب سكان الموقع كانوا ينتمون للطبقة الفقيرة، وهو ما أظهرته طرق ووسائل الدفن، ورغم كونها منطقة انتشرت بها العشوائيات؛ فإنها تميَّزت بالتنوُّع الطبقي؛ فمن واقع التنقيب عبر طبقات الأرض الأولى، ومن بين الاكتشافات التى عُثر عليها فى مدينة سايس، معبد الربة نيت فى الجنوب، والذى أشارت عدة مصادر إلى وجوده، لكن البعثة لم تتوصل إلى مكانه بالتحديد؛ إذ ربما يكون تحت طبقات من الأرض، وعثرت البعثة على مجموعة من تماثيل الأوشابتى، وهو ما قد يكون دليلاً على وجود مقبرة ملكية فى الموقع.

 

عاصمة الغرب

 

تعتبر سايس أول عاصمة لمصر فى الغرب، وتعتبر مثالاً مبكرًا للإسكندرية التى تعتبر من العواصم التى تقع فى غرب الدلتا؛ فغالبًا كانت عاصمة البلاد فى شرق الدلتا؛ لحرص الملوك على العلاقات مع بلاد الشرق الأدنى القديم مثل سوريا وفلسطين، واعتبرت سايس مدينة مستقلة ذاتيًا، إلا أن المشهد تغيَّر على مدار 6 آلاف سنة بتغيُّر السكان، بسبب فيضان النيل، حيث حدثت ترسبات طينية، وخلَّف الفيضان طبقة تزيد على 0.4 متر، وهى طبقة تبدو صغيرة، لكن بمرور السنين وصل تراكم الطمى إلى عدة أمتار، ما أثر على مجرى النهر والأرض من حوله.

 

بعد مرور آلاف الأعوام من تجمع الطمى، تغيرت المنطقة من الناحية الجيولوجية، فانخفضت التلال التى كانت موجودة، كما تم غمر الأودية بالكامل، بالإضافة إلى الركام المتناثر المتخلف، وزادت الرقعة المزروعة. ما يشير إلى بداية زيادة النمو الاقتصادى، ما شجع أن تكون حاضرة من حواضر مصر، وأقيمت مدينة سايس فى منطقة نائية؛ إذ لا يوجد حولها شىء، وفى حدود دائرة قطرها 15 مترًا، أي مواقع أثرية حتى كفر الشيخ.

 

وجه الإسكندرية

 

ومن بين أوجه التقارب بين مدينة الإسكندرية ومدينة سايس، التشابه فى مواد البناء والأحجار المستخدمة فى نحت التماثيل. كما أن بعض الأحجار تم جلبه للإسكندرية من سايس؛ فقد كانت المدينة همزة الوصل بين الوجه القبلى والبحرى عبر نهر النيل. وربما كان بقصر كليوباترا الغارق بعض الأحجار من سايس، وتم جلب تابوتها من سايس. كما  يوجد وجه تشابه لبعض الأبراج الشاهقة والمنارات فى الإسكندرية وسايس. وتتشابه المدينتان فى أنه فى الإسكندرية عُبدت الإلهة إيزيس، أما سايس فعُبدت الإلهة نيت، وهناك العديد من التماثيل صُنعت فى مدينة سايس، ظهرت فى الإسكندرية، فضلا على التشابه الذى يصل إلى التطابق بين أشكال التماثيل.

 

ترجح الدكتورة ولسن أن مكان حجر رشيد الحقيقى قرية صالحجر الحالية، وليس مدينة رشيد؛ إذ تم نقل الحجر عبر النيل إلى رشيد؛ حيث عُثر عليه هناك، بناءً على أن آثار صالحجر تم نقلها إلى رشيد وفوة عبر المراكب بالليل. اتخذ الملوك الصاويون من مدينة سايس القديمة عاصمة الأسرة السادسة والعشرين الصاوية فى الفترة من عام 664-526 قبل الميلاد؛ حتى صارت صالحجر تمتلك تاريخًا عظيمًا، وصار معظم المتاحف فى العالم تضم آثارًا من سايس عاصمة مصر فى عصر الأسرة السادسة والعشرين.

 

آخر الملوك العظام

 

كانت مصر فى موعد مع القدر عندما منَّ الله عليها بواحد من أفضل الملوك المحاربين والدهاة السياسيين، الملك بسماتيك الأول الذى تولى حكم مصر فى فترة عصيبة من عصرها المتأخر، وقاد مصر إلى المجد والقوة والنهضة، فكانت أشبه بابتسامة مبتسرة قبل أن يتم إسدال الستار على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية، وقبل أن تتحول إلى مملكة يحكمها الغرباء، بداية من الإسكندر الأكبر وخلفائه من الملوك البطالمة.

 

نجح الملك بسماتيك فى فرض قبضته القوية على حكم مصر بعد هروب الكوشيين أو النوبيين إلى بلادهم وبعد انتهاء الأسرة الخامسة والعشرين، وبدأت فى التشكل والظهور الأسرة السادسة والعشرون الصاوية المصرية الوطنية تحت حكم الآشوريين، حين قام الآشوريون بقيادة ملكهم الأشهر آشوربانيبال بتعيين نكاو أو نخاو الأول كحاكم على مدينة سايس وابنه بسماتيك الأول كحاكم على مدينة أثريب أو أتريب بالقرب من بنها فى القليوبية، وفرض الملوك الصاويون سيطرتهم على الدلتا شيئًا فشيئًا كحكام تابعين للآشوريين، وفى عام 664 قبل الميلاد، مات نكاو أو نخاو الأول، فقام الآشوريون بتعيين ابنه بسماتيك الأول كملك على مصر. 

 

لم يكن صعبًا على الملك العسكرى والسياسى بسماتيك الأول أن يسيطر على الدلتا التى جاء منها، خصوصًا أن أمراء الدلتا كانوا ضعافًا وحكامها لم يكونوا يشكلون أي خطورة، بعد أن مهّد له أبوه الحكم أثناء فترة تبعيته للحكم الآشورى، غير أن الصعوبة التى واجهها بسماتيك الأول كانت فى سيطرته على الصعيد المصرى البعيد عن الدلتا والعصىّ على السيطرة والاعتراف بحكمه، وتحديدًا مدينة طيبة العاصمة الدينية العريقة ومركز عبادة الرب الأكبر الإله آمون. 

السيطرة على الجنوب

 

أثبت الملك بسماتيك الأول أنه سياسى محنك ورجل دولة من طراز رفيع؛ ففى عام 656 قبل الميلاد، قام بإرسال ابنته الأميرة نيوت إقرت أو نيوتكريس إلى الجنوب، إلى طيبة عاصمة مصر الدينية، كى يتم تعيينها كزوجة مستقبلية للإله آمون رب طيبة الأعظم، فى معبد الإله آمون، وكى يضمن السيطرة الدينية ومن ثم السياسية على طيبة وعلى الجنوب وعلى معبد الإله آمون وكهنته المسيطرين.

 

كان بسماتيك الأول من الذكاء بمكان حين استخدم نبلاء الجنوب، ولم يعادِ أحدًا منهم، وكان من بين أهمهم، والذى استخدمه كى يدعم حكمه وحكم ابنته فى الجنوب بعد قيامه بخطوة تعيينها بمعبد الإله آمون، مونتو إم حات، عمدة طيبة القوى النبيل والكاهن الرابع للإله آمون، وكان بسماتيك رجل دولة مميزًا حين لم يخلع زوجتيّ الإله آمون الحاليتين من الأسرة السابقة، أى الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية والتى هرب ملوكها إلى الجنوب، وهما شبن أوبت الثانية وآمون إرديس الثانية؛ حتى لا يدخل فى محظور دينى يفقد به ما أراد تحقيقه من تعيين ابنته كزوجة مستقبلية للإله بعد موتهما.

 

بعد أن سيطر بسماتيك الأول على الدلتا أولاً، ثم على الصعيد ثانيًا اتجه ببصره إلى خارج الحدود، بعد أن أمنّ دولته فى الداخل، وحاول استعادة أمجاد ملوك مصر السابقين فى الشرق الأدنى القديم، غير أنه وجد أن الأمر يحتاج إلى تكوين جيش قوى، فتوصَّل إلى فكرة بديعة من خلال تكوين جيش من الجنود المرتزقة من بلاد البحر الأبيض المتوسط، فجمع عددًا كبيرًا منهم من الإغريق والكاريين وغيرهما. 

 

حكَم بسماتيك الأول مصر 54 عامًا، أعاد مصر فيها إلى عصر الاستقرار والقيم الدينية الراسخة فى عقيدة المصريين القدماء، وعلى الرغم من التأثُّر الكبير بالتأثيرات الوافدة من الخارج فى الفن والتجارة، والتى لم تحدث من قبل، قام ذلك الملك ورجال عهده ومن تلاهم بالنظر إلى آثار الماضى فى عصور الدول القديمة وقام بتقليد فنون ونصوص الفترات السابقة ووضع لمستهم الفنية فى محاولة منهم للالتصاق بمجد الماضى فى مواجهة ضعف الحاضر.

 

فى عام 653 قبل الميلاد، استغل بسماتيك الأول انشغال ملوك آشور بأمورهم الداخلية، وانسلخ من سيطرتهم، وهم أيضًا لم يهتموا بانفصاله عنهم؛ نظرًا لشدة الصراع الداخلى على العرش لديهم، وتهديد قوة بابل الصاعدة من الجنوب لهم، فكان لبسماتيك ما أراد، وأخذ لنفسه خطًا مغايرًا فى السياسة الخارجية، وجعل من مصر قوة ضاربة ومهمة ومؤثرة فى منطقة الشرق الأدنى القديم. 

 

غياب آشور عن المسرح السياسى للأحداث فى الشرق الأدنى القديم، ترك فراغًا سياسيًا كبيرًا فى المنطقة؛ فظهرت قوى أخرى مثل البابليين تحت قيادة ملكهم الشهير نابوبولاصر، وظهر كذلك الميديون، وظهر الساسانيون. وفى الفترة من 629 إلى 627 قبل الميلاد، قام نابوبولاصر بالتحرك جنوبًا إلى جنوب فلسطين حتى دحره المصريون فى أشدود على الساحل الفلسطينى.

 

تيقن بسماتيك من الخطر الحقيقى لمصر لانهيار الآشوريين؛ لذا ساعدهم ضد البابليين فى عام 616 قبل الميلاد، غير أنه لم تكن لديه قوات كافية كى يقضى على البابليين من دون مساندة منه لحلفائه الآشوريين السابقين، غير أن قوى دولية أخرى مكونة من الفرس والساسانيين قامت بمهامجة آشور فى عام 612 قبل الميلاد وقامت بالقضاء على الخط المالك فى البيت الآشورى.

 

بسماتيك الأول ملك مصرى محارب وسياسى من طراز رفيع حقق لمصر مجدها وجعل لمصر مكانها فى عالميّ الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط وحقق عصر النهضة الصاوية فى فترة متقلبة من تاريخ مصر القديمة، فكان نعم الفرعون الموحد لمصر العظيمة والمجدِّد لثقافتها والمعيد لمجدها الخالد.