بنات الشوارع:الاسترجال هو الحل

رحمة سامي
حينما يصبح الشارع محكوما بشرائع الغاب، وقوانين البقاء للأقوى أو بالأحرى للأكثر شراسة ووحشية، تصبح الأنوثة إغراء صارخا لقطعان الافتراس، أولئك الذين يبحثون طوال الوقت عن طرائد يأكلون لحومهن، ويغتصبون براءتهن وإنسانيتهن، ومن ثم يرمون بهن على الأرصفة الجامدة، وربما بعدما يتركون فى وجوههن ندبة بمدية حامية، أو حرقا بسيجارة.
هذا هو الواقع.. قل فيه ما شئت من ألفاظ السباب، أضرب كفًا بكف، حَسْن حَوقِل، العن دولة مبارك والإخوان معا، هاجم نظام الثلاثين من يونيو أو أعلن تأييده، وادعُ للصبر عليه حتى يعالج مفاسد الماضي.. كل هذا لن يغير من الواقع شيئا.
الفتيات.. فتيات الشوارع من جانبهن لا يملكن رفاهية الحسبنة والحوقلة والتأييد أو المعارضة، إنهن على الهامش، وإنهن هن الفرائس التى تحدق بها الضواري، وإنهن الضحايا، وليس على الضحية إلا أن تجد وسائل للهروب من القناص، وهو ما يفعلنه على أرض الواقع، وعبر اتخاذ إجراء «غاية فى الإيلام» يتخلين عن أنوثتهن، يتشبهن بالرجال، ليس اعتراضا على جنسهن كما نرى فى الكثير من المجتمعات، وليس لاختلال هذه الهورمونات، لكن لأن هذه هى الآلية الوحيدة لأن يتجنبن الوحوش المفترسة.
قرار صعب.. فالأنوثة حين تتنازل عن أنوثتها تصبح لا شيء، لكن البديل الوحيد، هو التنازل عن الحياة.. قلنا: إنها قوانين الصراع، عليك أن تنصاع لها مهما كنت ترفضها.
فى ملجأ للمشردات بمنطقة الفسطاط، تقول أمانى البالغة من العمر 20 عاما: عرفت التشرد منذ كنت فى الثامنة، وبدأت العمل فى سن الثانية عشرة، وعندئذ شرعت أقص شعرى وأرتدى ملابس الشباب.. اشتغلت فى المقاهى وجمعت القمامة، وأصبح الناس يعتقدون بأننى ذكر، وأصبح اسمى «أحمد».
وتضيف: «الأمر صعب طبعا.. أحيانا أنظر إلى صورة فتاة على شفتيها حمرتهما، أو ترتدى فستانا، أحاول أن أتخيل شعورها لكنى لا أستطيع الوصول إليه، يبدو أن الأنوثة ماتت فى أعماقي».
وتقول: «تزوجت فى الثامنة عشرة وأنجبت طفلا ثم حدث الطلاق، فعدت إلى العمل بالشارع، وأصبحت أعود إلى الملجأ لأحضن ابنى وننام.. الطفل غير مقيد بأوراق رسمية، وأنا كذلك.. عموما نحن غير محسوبين على الدولة منذ البداية».
زميلتها فى الملجأ وتدعى «نيللي» تقول: نحن نتحرك وننتقل من مكان إلى آخر، لا نمتلك شهادات ميلاد، نحيا ونموت دون أن يشعر بنا أحد. نزلت الشارع منذ سن العاشرة وبدأت العمل ببيع مناديل بالإشارات المرورية ولكنى تعرضت لمضايقات وأغلبها من رجال كبار السن فقررت أن أصبح ولدا وأصبح جميع أصدقائى يلقبونى «بالبوب» كونى «أكبرهم» ولم يلحظ أحد أننى فتاة استمررت فى اتخاذ المظهر الذكورى حتى سن السابعة عشرة ثم بعد ذلك ظهرت ملامح أنوثتي، فقررت الذهاب إلى جمعية للفتيات لتكون مأوى للنوم ليلا، وعملت بأحد المصانع التى لم يتطلب العمل بها شهادات ميلاد ولا إثبات شخصية، ولا أحد حتى الآن يعلم أننى من الفتيات المشردات حتى لا أصبح مطمعا.
أغلب الفتيات يحاولن اتخاذ المظهر الذكورى لتفادى تعرضهن للاغتصاب والمشاركة فى الأعمال المنحرفة، فهى قاعدة من قواعد الشارع لابد أن تغتصب الفتاة وتمر على كبير الشارع من الرجال «ليتذوقها» كى تستطيع الاستمرار بالعمل.
نهال، البالغة من العمر 15 عاما تقول: إن الفتيات فى الشوارع جميعهن متشابهات، كونهن «يلتقطن» الرزق على الأرصفة، ويبتن فى ملجأ يجمعهن معا، فالشارع يلدنا ويربينا ثم يأخذ حقه منا.
وتضيف: «هربت من المنزل بعد حبس زوجة أبى لى عشرة أيام بالغرفة، وانتقلت إلى الشارع لأجد الكثيرات مثلى بقصص متشابهة ولكنى كنت من المحظوظات اللواتى وجدنا جمعية تصبح بيتا ليلا وأحيانا نهارا، عملت بمحطات القطارات ولكنى قبل الذهاب والعمل قررت أن أقص شعرى وأرتدى ملابس الأولاد، فمظهر الرجال يروق لى عن المظهر النسائي، فإذا كنت أعمل بالقطارات والشوارع ليس من الضرورى بأن أصبح فتاة تتحمل النظرات والاعتداءات اللفظية والجسدية فرغم صغر سنى فإنى كثيرا ما انفتحت لى أبواب السيارات ليلا.
وتضيف نهال: لقد كان التشبه بالذكور وسيلتنا لحماية أنفسنا، ولقد اعتدنا على قص شعورنا، وكنا نرتدى السراويل والقمصان الرجالية، لأن المظهر الذكورى يتيح لنا حتى فرصة التدخين أو الجلوس فى الشارع وهى أمور يفعلها الرجال دون حرج.
وتؤكد أن أغلب الفتيات اللائى تعرضن للاغتصاب ليس لهن وسيلة لإعادة حقهن، فالمغتصبون يعلمون جيدا أننا لانملك أوراقا رسمية، ولا عائلات أو أقارب لمعاقبتهم كما أن كثيرا من الأحيان يتم حبس الفتيات لعدة أيام، قبل أن يتم اغتصابهن بشكل جماعي.
ويقول «عم سيد» - أحد حراس الجمعية: إن الفتيات يخرجن للعمل ومنهن من يمارس الحياة بشكل طبيعى وبعضهن يحمل بطاقات تعريفة لها، وترتاد المدارس لتتعلم، والقليل منهن تكفله إحدى الأسر. ويضيف: إن أعمار أغلبهن من العاشرة إلى ما بعد العشرين والقليل منهن تحت عمر العاشرة، والجمعية تحاول جاهدة توفر لهن الاحتياجات ولكن التبرعات لا تكفى ومن ثم يضررن إلى العمل بالشوارع.
ومن جانب آخر يقول الدكتور ماهر الضبع - أستاذ علم النفس بالجامعة الأمريكية: إنه يمكن تحليل الأسباب التى تدفع الفتاة المشردة إلى تفضيل المظهر الذكورى بأنها مصابة باضطرابات نفسية تشعرها وكأنها رجل فتلجأ لارتداء ملابس الذكور وقص شعرها الذى يعتبر رمزا لأنوثتها وتغيير طبقة صوتها لتكون أكثر خشونة، وهذا الاضطراب غالبا ما يكون فى سن المراهقة إلى ما بعد ذلك بعامين، أما السبب الآخر فيتمثل فى شعور الفتاة الدائم بأن الرجل محبب لدى المجتمع.. والمقصود بالمعنى هو أن الرجل أكثر حرية وتعاملا فى الشارع المصري.
كما أن «الفتاة المسترجلة» تستطيع أن تفعل ما يحلو لها من دون أن تكون عرضة أو هدفا للاعتداءات الجنسية كما يحدث للفتيات والمشردات على الأخص اللواتى يجدن العنف من الفئات المختلفة من الشعر إلى جانب أن قوانين الشارع تحتم على الفتيات التى دفعت بهن الظروف إلى النزول إلى الشارع والتعرض له والتعامل مع بعض الرجال الأكثر إجراما أن يكن عرضة للاغتصاب والعنف.
ويختتم: المؤكد أن هذا الأمر يسبب إيلاما نفسيا وأزمة هوية للفتاة التى تشعر فى أعماقها بأنها أنثي، لكنها قوانين الشارع القاسية، والمطلوب من الدولة فى الوقت الراهن أن تضع ملف المشردين ومجهولى النسب وأطفال الشوارع نصب عينيها لأن هذا الملف مفخخ للغاية وينذر بكارثة.
إن هؤلاء الفتيات إذ يتخذن المظهر الذكورى فإنهن يقلدن القنفد مثلاً والذى يواجه الحيوانات المفترسة ويقاومها بأشواكه فى حين أن لحمه رقيق للغاية.. إنهن يعانين أشد أنواع المعاناة.