«دفتر يومية» عمال بناء الهرم الأكبر
يعتبر العثور على برديات وادى الجرف بمثابة اكتشاف القرن الحادى والعشرين فى الآثار المصرية بامتياز، وتكمن أهمية البرديات التى تم العثور عليها هناك فى تأكيدها أن مشروع بناء الهرم الأكبر كان مشروعًا قوميًا، وأن الهرم بناه المصريون القدماء، كما تنفى هذه البرديات أى ادعاءات كانت تتعلق ببناء الأهرام المصرية. ومن خلال هذه البرديات تم التأكد من مدة حكم الملك خوفو والذى امتد لنحو 26 عامًا.
إن أجزاء البردى المكتشفة تعد الأقدم فى تاريخ الكتابة المصرية «الهيراطيقية» إلى الآن، حيث إنها أقدم من برديات الجبلين التى تعود إلى نهاية الأسرة الرابعة وبرديات أبوصير التى تعود لنهاية الأسرة الخامسة، ويصل عددها إلى حوالى 40 من برديات خوفو، وموجود فى مخازن المتحف المصرى بالتحرير حوالى 6 أجزاء منها.
إن هذه البرديات تصور الروتين اليومى للعمال الذين نقلوا مواد البناء من الميناء فى البحر الأحمر إلى الجيزة، كما أنها تعد وثيقة مهمة من عهد الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر وتوضح قوة الإدارة فى عهد الملك، وارتباطها بالسلطة المركزية فى الجيزة.
لكن قبل استعراض ما حوته البرديات هل نتعرف أولا على قصة هذا الاكتشاف؟
بدأت البعثة الفرنسية بقيادة بيير تاليه العمل فى وادى الجرف منذ العام 2011 وكشفت خلال هذه الفترة عن آثار الميناء الذى يعتبر، إلى الآن، أقدم ميناء ليس فقط فى تاريخ مصر، وإنما فى تاريخ الملاحة البحرية العالمية، إضافة إلى موقع ميناء مرسى «جواسيس» جنوب سفاجا وميناء العين السخنة جنوب السويس، وهى تمثل مجموعة الموانئ الفرعونية، وهى تعد الأقدم فى تاريخ الإنسانية إلى الآن.
وتم بناء ميناء وادى الجرف على شاكلة الميناءين الآخرين ولكن على مساحة أكبر، ومن خلال الأختام الطينية والبرديات والنقوش الصخرية التى تم اكتشافها فى هذه المنطقة فمن الممكن تأريخ هذا الموقع بعصر الدولة القديمة.
وفى العام 2013 عثرت البعثة على مجموعة رائعة من البرديات عند مدخل مغارتين، وكانت هذه البرديات مدفونة بين الكتل الحجرية التى تم استخدامها لإغلاق المغارة بعد الانتهاء من العمل، ويذكر بيير تالييه أن هذه البرديات تؤكد أن هذا الموقع كان مستخدمًا خلال عهد الملك خوفو، وأن فريق العمل الذى كان يعمل فى هذا الموقع هو نفسه الذى عمل فى بناء الهرم الأكبر، مما يشير إلى القدرة العالية للجهاز الإدارى فى عهد هذا الملك.
وتؤكد البرديات على استخدام الموقع فى عهد الملك خوفو وأن أطقم العمال التى كانت تعمل فى الموقع كانت هى نفسها التى كانت تعمل فى بناء الهرم وهو ما يشير للقدرة العالية للجهاز الإدارى فى عهد هذا الملك.
وفى مواجهة مدخل المغارة وبين الكتل الحجرية التى كانت تستخدم لإغلاق المغارات بعد انتهاء الأعمال، كشفت البعثة الفرنسية فى موسم الحفائر 2013 عن عدة مئات من قطع البردى بعضها يصل طوله لحوالى 80 سنتيمترا، ويبدو أنه قد تم دفن هذه الوثائق البردية بين كتل غلق مداخل المغارات التى كانت تستخدم كورش عمل ومخازن وأماكن للسكنى فى آخر مراحل استخدام الموقع وهى مؤرخة بوضوح من نهاية عهد الملك خوفو.
وهذه البرديات تعد أقدم برديات مكتوبة باللغة الهيراطيقية فى تاريخ الدولة الفرعونية، وبها بعض أجزاء بالهيروغليفية مختصرة تاريخ بعام تعداد الماشية رقم 13 من عهد الملك خوفو، والمعروف أن تعداد الماشية يتم مرة كل عامين وهو ما يعنى أن التاريخ المذكور هنا هو العام 26 من عهد «خوفو» وهو ما يعنى أن حكم هذا الملك قد امتد لهذا التاريخ وهو أمر لم يكن معروفًا من قبل.
ويمثل عدد كبير من قطع البردى التى عثرت عليها البعثة جداول ترتبط بتوزيع الحصص اليومية للأطعمة والتى كانت تستجلب من مناطق عديدة فى دلتا نهر النيل. وهى تظهر دون شك سيطرة الجهاز الإدارى على شؤون البلاد بمختلف أنحائها وضواحيها بصورة مركزية ووفق تنظيم دقيق وواضح وشديد الوطأة، حيث يتناول النص عملية توزيع حصص الأطعمة والمناطق المجلوبة منها وهى منظمة فى شكل جدول يظهر فيه اسم السلعة والمكان القادمة منه وكمياتها.
ومن أبرز البرديات المكتشفة فى موقع ميناء وادى الجرف مجموعة قطع تكتسب نصوصها أهمية كبيرة حيث إنها تقرير يومى بأنشطة أكبر كبار الموظفين المسئولين من العاصمة منف وهو مسئول عن أحد عن فرق العمل الفنية فى الموقع، وهو المفتش «مرر» والذى كان يقود فريق عمل مكونًا من 200 رجل.
ونص البردية يظهر فيه الشهر فى شكل سطر كبير باعتباره عنوانًا وتحته فى أسطر رأسية يفصل بينها خطوط تمثل خانات تبدأ برقم اليوم وتحته فى سطرين رأسيين، تقرير بالنشاط الذى أداه فريق المفتش مرر فى هذا اليوم، هذه اليوميات لا تشير لأنشطة تمت بموقع الميناء كما هو متوقع، ويبدو أن تقريره الخاص بالميناء قد جاء بالجزء المفقود من البردية. ولكن كثيرا من هذا الميناء يشير لأنشطة وأعمال مرتبطة بالأعمال الإنشائية فى الهرم الأكبر وعمليات قطع أحجار الحجر الجيرى الجيد من محاجر طرة والمعصرة والتى كانت تستخدم فى كسوة الهرم.
وتشير اليوميات أيضًا لتفصيلات ووصف لعملية نقل الكتل الحجرية من موقع المحاجر، «راستاو الجنوبية» و«راستاو الشمالية» لمكان إقامة الهرم عبر نهر النيل والقنوات والترع المرتبطة به، وتشير نصوص البردية إلى أن هذه الكتل كانت تستغرق عملية تسليمها أربعة أيام لمنطقة «آخت خوفو» وهو اسم هرم الملك خوفو.
وتشير تقارير المفتش «مرر» كذلك لمرور معظم الإجراءات التنفيذية بمركز إدارى هو «را-شي-خوفو» والذى يبدو أنه كان مركزا لوجيستيًا تتوقف عنده فرق العمل قبل تسليم ما يحملونه فى منطقة هضبة الهرم بيوم واحد. وتشير النصوص إلى أن هذا المركز اللوجيستى كان تحت إشراف أحد كبار موظفى الدولة وهو المدعو «عنخ- حاف» وهو أخ غير شقيق للملك «خوفو»، وكان المشرف على كل الأعمال الملكية وله مصطبة بالجيزة (G7510).
وتؤكد هذه اليوميات رؤية «رايزنر» حول مكانة هذا الموظف فى الدولة فهى تشير إلى أنه ربما كان يقوم بأعمال الوزير والمهندس المسئول عن المشروع القومى لإقامة الهرم فى مراحله الأخيرة وبالتأكيد كان الهرم فى مراحل إنشاءاته الأخيرة مع اقتراب نهاية حكم الملك «خوفو»، ويبدو أن ما يفسر وجود مثل هذه التقارير المهمة فى موقع ميناء وادى الجرف أن نفس فرق العمل التى كانت تعمل فى البرامج الإنشائية للمقابر الملكية كانوا مسئولين معنيين بمشروعات الدولة الأخرى ومنها ما كان يتم فى وادى الجرف، فربما كانت هذه الفرق الموجودة فى الموقع معنية بإحضار النحاس من مناجم النحاس بجنوب سيناء وهو النحاس المستخدم فى تصنيع أدوات تستخدم فى الأعمال الإنشائية بالهرم.
وتولى بعدها المفتش «مرر» وفريقه عملية غلق موقع الميناء ومغاراته بكتل حجرية ضخمة وكان هذا فى العام الـ27 من حكم خوفو، وهو تاريخ يرتبط بتوقف أعمال استخراج النحاس والفيروز من مناجم جنوب سيناء وربما يرتبط بتاريخ انتهاء الأعمال فى إنشاء الهرم.
أهم تلك البرديات بردية تخص أحد كبار الموظفين ويدعى «مرر»، وكان يشارك فى بناء الهرم الأكبر وأمدت بمعلومات عن ثلاثة أشهر من حياته الوظيفية، مما جعل العلماء يعرفون الكثير من الأمور عن حياة الموظفين فى عصر الأسرة الرابعة ومنها قيام فريق العمل بنقل كتل الحجر الجيرى من محاجر طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر نهر النيل وقنواته.
إن أغلب البرديات المكتشفة توضح توزيع الحصص اليومية للأطعمة التى كانت تستجلب من مناطق عديدة فى دلتا نهر النيل. ومن بين أهم هذه البرديات واحدة يظهر فيها بوضوح وبخط مختصر تعداد الماشية رقم 13 فى عهد الملك خوفو والذى كان يتم مرة كل عامين، بما يعنى أن حكم هذا الملك امتد لنحو 26 عامًا.
وفى عام 2016 كشفت بعثة أثرية تابعة للإدارة العامة للآثار الغارقة بوزارة الآثار عن وجود 21 مرساوات «مخطاف» وذراعين من الأحجار منتظمة الشكل عمرها 4600 سنة بأقدم ميناء بحرى فى التاريخ يرجع إلى عهد الملك خوفو على سواحل البحر الأحمر بمنطقة الزعفرانة.
وكشفت البعثة أيضًا عن العديد من الأوانى الفخارية التى ترجع إلى عام 2600 قبل الميلاد بمنطقة وادى الجرف على ساحل البحر الأحمر بالكيلو 180 جنوب السويس بطريق السويس الزعفرانة.
ويظهر أن المرساوات عليها مكان وضع الحبال التى كانت تستخدم فى ربط السفن حتى ترسو داخل الميناء، التى يحدها رصيف داخل مياه البحر الأحمر بطول 180 مترًا، وتأخد شكل حوض للميناء لمواجهة الرياح الشمالية فى البحر الأحمر، وتم تحديد أماكنها تحت الماء، وسيتم استكمال العمل بالمكان الموسم المقبل لمعرفة طريقة البناء فى الميناء، وإذا كانت هناك أشياء أخرى تحت الرمال أم لا وبواقى الميناء واتجاهاتها.
*مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية