الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
دماء على جدران باريس!

دماء على جدران باريس!


تتعالى الصيحات.. تتصدر دعوات «العدالة الاجتماعية» المشهد.. يرتفع سقف مطالب المُحتجين (بشكل جنوني).. لا يهدأ الشارع.. وقبل أن يزداد العنف، يتحول الشارع إلى مسرح (!)
ربما كان، أيضًا، تحول «الشارع إلى مسرح»، هو - في حد ذاته - أحد المُحفزات [الرئيسية]، التي شجعت عديدًا من مُتابعي مظاهرات باريس، وما تلاها من عواصم أوروبية إلى الانحياز [مُبكرًا] إلى أنَّ ما يشهده الشارع الأوروبي، في الوقت الحالي (على أيدي السترات الصفراء)، موجة جديدة من موجات «الثورات الملونة»، التي شهدتها أوروبا منذ ما يقرب من عقدين (!)
ففي الواقع.. إن تكتيك «مسرح الشارع» (street theater) ابتدعته – من حيث الأصل - حركة أوتبور الصربية (التي تحولت إلى المركز التطبيقي لحركات اللاعنف والاستراتيجيات «كانفاس»، فيما بعد)، أثناء المظاهرات التي أطاحت بالرئيس الصربي «سلوبودان ميلوشيفيتش».. وهو تكتيك يُبنى على «السخرية» من تصرفات الحكومة؛ لجعلها تبدو كما لو أنها «سخيفة المضمون».. وهي تحركات حظيت ــ في حينه ــ بدعم واهتمام «وسائل إعلام المعارضة» كافة، إذ كانت «عملية السخرية» تلك هدفًا دائمًا لتكتيكات الحركة.
وكانت الحيلة «الأشهر» التي لجأ إليها أعضاء الحركة، وقتئذ، هي وضع صورة «ميلوشيفيتش» فوق برميل نفط داخل أحد الشوارع المزدحمة، ومطالبة المارة بوضع «عملة معدنية»؛ لكي يحظوا بشرف ضرب «ميلوشيفيتش» بمضرب.. وهو ما سبَّب أزمة حقيقية للحكومة الصربية، في حينه.. إذ  لو تركت الأمر من دون تدخُّل؛ فسوف تبدو وكأنها ضعيفة.. لكنها عندما قررت التدخل، والدفع بـ«قوات الشرطة» إلى حيث يتواجد أعضاء الحركة؛ لاذ جميعهم بالفرار(!)
وفي اليوم التالي؛ عرضت «وسائل إعلام المعارضة» صورًا لقوات الشرطة، وهي تلقي القبض على البرميل، وتضعه داخل إحدى الشاحنات(!).. ومن ثمَّ؛ أصبحت تلك «المُزحة» حديث الشارع الصربي، فيما بعد، إذ بدأ في الانتباه للحركة، وأعضائها (!).. وهو ما شجّع «أوتبور» ــ بدلاً من تجنب القبض على أعضائها ــ على مواصلة استفزاز الحكومة الصربية، واستخدام «عمليات الاعتقال» التالية لتلك الاستفزازات، في الترويج للحركة بشكل أكبر.

كان مما رصده «المراقبون» حول احتجاجات باريس (وتقاطعها مع أسلوب «حركة أوتبور»)، يدور حول عدة نقاط، منها:
(أ)- استفادت الحركة (أي السترات الصفراء)،  قبل أكتوبر من العام 2018م، من عمليات [التشبيك الإلكتروني]، التي دربت عليها الحركة الصربية عديدًا من «الحركات الاحتجاجية» حول العالم، فيما بعد.. إذ بدأت الحركة على عكس الاحتجاجات [التي تم تنسيقها من قٍبل النقابات العمالية] بفرنسا، في السابق في تطوير أنشطتها – منذ البداية - عبر شبكة المعلومات الدولية، ووسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك/ تويتر/ يوتيوب).. إذ مثَّلت «العريضة» التي تم نشرها على موقع (change.com) الأمريكي، قبل شهور، نقطة الانطلاق [الأكثر سخونة] في تطور الأحداث.
(ب)- على طريقة تكتيك «مسرح الشارع»، الذي ابتدعته الحركة الصربية، بدأت الاحتجاجات بمشاهد [متكررة] في أغلب «الثورات الملونة»، مثل: تصدي أحد المتظاهرين لـ«خراطيم المياه» أثناء تفريق المحتجين.. أو ابتداع مشاهد «ساخرة من السلطة»، مثل مشهد المواطن شبه العاري وعزفه على البيانو، في مواجهة قوات الشرطة.
(ج)- تصاعدت المطالب تدريجيًا للمحتجين (على طريقة ثورات وسط وشرق أوروبا).. وبعد أن كانت تتبنى مطلبًا يبدو عادلاً (تخفيض أسعار الوقود) توسعت المطالب نحو «العدالة الاجتماعية»، و«حقوق الطبقة المتوسطة»، و«توزيع الأجور»، و«الخدمات العامة» بالمناطق شبه الحضرية.. ودعا البعض لإقصاء ماكرون عن السلطة.. فضلاً عن عديد من المطالب السياسية الأخرى.. كما وصفت الحركة، (الثلاثاء الماضي) تصريحات «ماكرون» الأخيرة، عن خطوات «الإصلاح الاقتصادي» بأنها غير مقنعة.. وذلك في إطار عملية تصعيد المطالب ذاتها.
(د)- امتدت الحركة من «فرنسا» (قبل شهر تقريبًا) لتشمل دول: (ألمانيا/ بلجيكا/ بلغاريا/ هولندا/ صربيا).. وأغلب تلك الدول، شهد منذ (نوفمبر الماضي) احتجاجات على أسعار الوقود، أيضًا(!).. ومن المرجح - كذلك - ظهور «حركات شبيهة» في إيطاليا، وإسبانيا.. أي إلى جانب الميلاد الأوروبي لحركة «السترات الصفراء»، شمل الامتداد دولة جديدة من دول من البلقان (بلغاريا)، فضلاً عن دولة المنشأ لحركات التغيير (صربيا).

وكان لكل تلك التقاطعات، أثره المُحفز في توجيه أصابع الاتهام لـ«واشنطن» بالمسئولية عما يجري في أوروبا الآن؛ نظرًا للارتباط الشديد بين «حركة أوتبور» وأجهزة الاستخبارات الأمريكية، ووزارة الخارجية.. إذ وفقًا لما كشفه، في حينه، «بول مكارثي» (Paul B. McCarthy) أحد قيادات الصندوق الوطني للديمقراطية (NED)، فإن «الأموال الأمريكية» بدأت تتدفق على «أوتبور» ــ بشكلٍ متتابع ــ منذ أغسطس من العام 1999م (فضلاً عن نحو 3 ملايين من الدولارات، تم إنفاقها على الحركة، منذ أيلول/ سبتمبر من العام 1998م)، إذ كانت «أوتبور» هي المتلقي الأكبر لأموال «المساعدات الأمريكية» من بين فصائل «المعارضة الصربية»، التي شاركت في الإطاحة بـ«ميلوشيفيتش».
وأوضح «مكارثي» أن «التمويلات» كانت تُضخ عبر «حسابات خارجية» للحركة.. بشكل متزامن، مع اللقاءات التي كان يعقدها «بنفسه» مع قيادات الحركة بـ«بودجوريتسا» (Podgorica)، عاصمة «الجبل الأسود» (Montenegro)، وفي كلٍّ من: «بودابيست» (Budapest)، و«سيجيد» (Szeged) بـ«المجر».. بينما أوضح مدير المساعدات «دونالد بريسلي» (Donald L. Pressley)، أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ضخّت وحدها، لدعم الاحتجاجات ضد «ميلوشيفيتش»، نحو 25 مليونًا من الدولارات.. وكان إجمالي ما تم إنفاقه داخل «صربيا»؛ للإطاحة بـ«ميلوشيفيتش» (بحسب تقديرات أمريكية رسمية) نحو 41 مليونًا من الدولارات.
وهو وصف بات لصيقًا تمامًا بكل قادة أوتبور.. لذلك.. تبدو الحركة حريصة – دائمًا - على نفي صلتها بأي تحرك تقوم به الحركات التي يتم تدريبها على يديها (قبل نجاحه)، خشية إفساد الأمر باتهامات العمالة لحساب الأجندة الأمريكية، داخل المناطق المستهدفة.
وفي خضم تبادل الاتهامات بين واشنطن، وبريطانيا (من جانب)، و«موسكو» (من جانب آخر) حول مسئولية كل منهم عما يجري في أوروبا الآن.. كانت الأحداث على الأرض، تزداد سخونة(!)
ففيما لا يزال الإعلام الغربي (إلى اللحظة) يسعى نحو أن يرسخ بقوة؛ أنَّ الأحداث أقرب إلى تحركات «حركة احتلوا» (Occupy) اليسارية، وأنها احتجاجات «عفوية» بلا قيادة.. كان الدفاع الروسي ينصب حول أنّ «واشنطن» هي المسئولة، في سياق إجراءات عقابية تجاه كل من: فرنسا، وألمانيا.

ربما يكتسب الرأي القائل بأنَّ ما تشهده أوروبا - حاليًا - من مظاهرات (انطلاقًا من فرنسا) هو إجراء عقابي، تقوده «واشنطن» جراء الدعوة (الفرنسية/ الألمانية) لتأسيس «جيش أوروبي»، وجاهته من تفاصيل بيزنس «صناعة السلاح» في العالم.. لكن.. لا شك أن للأمر أبعادًا أخرى.. إذ ربما تتسع القائمة (إلى جانب الحفاظ على مكتسبات تجارة السلاح الدولية) لتضم، أيضًا: «الصراع على الطاقة» (الغاز الطبيعي، على وجه التحديد) بامتداد القارة العجوز.. أو إضعاف «الاتحاد الأوروبي» لصالح [كتل دولية أخرى].. أو صراع النفوذ بين «موسكو» و«واشنطن» (وما يلتصق به من أنشطة استخبارية).. أو حتى توظيف «الاحتجاجات الفرنسية» في صناعة [ثورات ملونة جديدة]، وتصديرها إلى عديدٍ من الدول الأخرى(!).. من دون إسقاطٍ - بالطبع – لمحفزات الانفجار «الداخلي» بالبلدان التي شهدت الموجة الاحتجاجية الجديدة.
كل هذا «جائز» في سياق طرح الاحتمالات، ومحاولة جمع أكبر قدر من المعلومات، حول مشهد لا تزال «أبعاده الدولية» قيد التشكيل.. لذلك.. فإنّ التفكير [بصوت مرتفع قليلاً] ربما يكون أمرًا مناسبًا، في سياق الآتي:
(أ)- بيزنس السلاح:
لم يترك الرئيس الفرنسي (ماكرون) مساحة لعديد من التفسيرات، عندما طالب بـ«جيش أوروبي» موحد.. إذ كانت دلالة الألفاظ، واضحة بأنَّه:  «يجب على أوروبا زيادة الإنفاق العسكري.. لكن.. يجب أن يذهب المال إلى الشركات الأوروبية ، لا الأمريكية».. أي أن [القضية الأساسية] هنا، تدور حول اقتصاديات استيراد وتصدير الأسلحة في أوروبا وحول العالم.. وهي اقتصاديات تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات سنويًا.
فبحسب «معهد ستوكهولم الدولي لدراسات السلام» (SIPRI)؛ فإنَّ «أكبر خمسة مورّدين للسلاح في أوروبا الغربية (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا) تشكل – معًا – نحو 23% من حجم لوجستيات التسليح العالمية، ابتداءً من العام 2013م، وحتى العام المنصرم (2017م)، بينما شكلت صادرات الأسلحة المشتركة من الدول الأعضاء في «الاتحاد الأوروبي» نحو 27% خلال الفترة نفسها.. كما زادت صادرات فرنسا والمملكة المتحدة البريطانية بنسبة 27 ٪ و 34 ٪ على التوالي.. إلى جانب إبرام عديدٍ من [الاتفاقيات] بين الدول الأوروبية، بحيث تتصدر كلٌ من: فرنسا وألمانيا الصادرات.
في حين تستورد المملكة المتحدة البريطانية (وهي ثامن أكبر مستورد في العالم) نحو 80 % من الولايات المتحدة.. وإيطاليا (المستورد 22 الأكبر في العالم) تستورد نحو 55٪ من الولايات المتحدة [ونحو 28 % من ألمانيا].. واليونان تستورد نحو 68 % من ألمانيا [و17 ٪ من الولايات المتحدة]، و 10 ٪ من فرنسا.
وبشكلٍ عام.. فإنَّ «الولايات المتحدة» لا تزال هي المُهيمن على تلك الصناعة.. خصوصًا في القطاع الخاص؛ إذ تستحوذ أربع شركات (مقرها الولايات المتحدة) على أكثر من 60 % من جميع مبيعات الأسلحة المدرجة من قبل معهد ستوكهولم.. بينما الشركات الأوروبية (30 شركة) تُشكل أقل بقليل من 30 %.. وهي نسبة – أيضًا – يتصدرها كلٌ من فرنسا وألمانيا.. تليها بريطانيا.
.. وهو ما يعني أنَّ «الاقتراب» من تلك الحصص التسليحية (بغض النظر عن واقعية تنفيذ الطرح الفرنسي، من حيث الأصل)، ربما يزعزع عديدًا من الأمور المستقرة لدى «واشنطن»، مستقبلاً.. ويهدد مصالح «لوبي السلاح» شديد التأثير على السياسات الحالية لـ«ترامب».. ومع ذلك.. فكما يخدم الأمر «واشنطن» فإنه يخدم – كذلك – عديدًا من القوى الدولية الأخرى(!)
(ب)- الصراع على الطاقة:
من الناحية الفعلية.. تسيطر «روسيا» على صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى كل من: «وسط» و«شرق أوروبا».. ومع ذلك.. فإنَّ «الولايات المتحدة الأمريكية» (في سياق مواجهات النفوذ والمصالح مع موسكو)، تسعى – منذ فترة  - لحلحلة هذا الوضع، وفتح أسواق جديدة لشركاتها العاملة بمجال الغاز الطبيعي المُسال (LNG).. فضلاً عن فرض سيطرتها على أسواق «الغاز الطبيعي» (التقليدية والناشئة) بامتداد أوروبا، والبحر المتوسط، وآسيا
ووفقًا لدراسة تم تقديمها لصانع القرار الأمريكي بالعام 2015م؛ فإنّ على «واشنطن» استخدام تكنولوجيا توصيل الغاز المسال، عن طريق البحر؛ لإنشاء محاور جديدة للغاز [حول العالم].. ومنها أوروبا؛ إذ مع «احتمالية» أن يصبح الغاز الطبيعي المسال هو النمط المهيمن لنقل الوقود (بحسب الدراسة) أصبح لدى الولايات المتحدة الآن القدرة على أن تصبح واحدة من أكبر الدول المصدرة للغاز الطبيعي في العالم أيضًا.. وهي حالة ربما تستدعي في سياق تنفيذها، إلى ترسيخ «مفهوم التبعية الأوروبية» لواشنطن، بشكل أكبر، وإجهاض  أي محاولات للابتعاد عن البيت الأبيض(!)
.. أما إلى أي مدى يُمكن أن تصدق خلاله تلك التوقعات.. فهذا ما ستكشفه – يقينًا – الأيام المقبلة.