الإثنين 26 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
لصوص الدين

لصوص الدين


بين بطون المصنفات [التراثية]، يبحث – غالبًا – القائلون بـ «الحاكمية»، و«جاهلية المجتمع» (الإخوان/ القاعدة/ تنظيم الدولة «داعش») عن عديدٍ من المقتطفات، أو الأحداث [الماضوية]؛ لإسقاطها على الواقع المعاصر (!).. ورغم ما تحمله تلك الطريقة من «تحامل» لا يتماشى وتعقيدات نظام الدولة الحديثة (أو حتى «فقه الواقع» من الناحية الشرعية)؛ إلا أنّ تلك الطريقة تؤتى أُكلها – فى المقام الأول - عندما تخاطب «المشاعر الدينية» [المتأججة] عند متلقى الخطاب الجهادى.. إذ يقع –فى الأغلب– مُتلقى هذا الخطاب [من دون تدبر] فريسة لسلسلة من عمليات التوجيه «التدريجية».

وهى سلسلة، تبدأ (فى حلقتها الأولى) عبر استغلال السلوك «المتدين» للفرد المُستهدَف [أو التزامه الطقوسي]، لجذبه نحو أحضان التنظيم (أى تنظيم) بشكل متتابع مرحليًا (أى عبر مستويات تنظيمية تصاعدية).. إذ يتم تبطين هذا الأمر -فى العادة- بدعاوى «الأخوة»، و«الدعوة لله».. وكلما ازداد الاندماج بين الفرد المستهدف والتنظيم؛ ازدادت -فى المقابل- التغذية العكسية لـ [الفجوة الشعورية] بينه وبين المجتمع الذى يعيش فيه؛ إذ يُصبح التنظيم [فى نهاية المطاف]، هو مجتمعه الحقيقى (الذى يُمثل – وحده - دعوة الإسلام الحق).

وعبر تغذية «مشاعر الانعزال» (الروح الانعزالية) عند مُتلقى الخطاب الجهادى يصبح الحكم بـ«جاهلية المجتمع» الخارجى (أى: المجتمع خارج التنظيم) أكثر اقترابًا من قناعاته الشخصية.. وبالتالى.. يُصبح العنصر المُستهدف أكثر تهيؤًا للاقتناع بمجموعة من [القطعيات الاعتقادية] المستندة إلى خبرات وأحداث زمنية منصرمة (أى الوقوع فى أسر تقديس الماضي).. وسحب هذا الماضى على الواقع المُعاصر (الموصوف تنظيميًا بـ«الجاهلي»)، من دون النظر إلى الاختلافات [المحورية] بين النموذج المستمد من الماضى [التراثي]، والنماذج المعاصرة (!)

وهذا التدرج [بداية من الروح الانعزالية، ووصولاً إلى تكفير المجتمع] يُمثل مظهرًا مشتركًا فى جميع روافد «تيار الإسلام السياسي»، تقريبًا.. إذ تسهم - غالبًا – تغذية «روح الانعزالية» فى إقناع أفراد التنظيم –بشكل متتابع- بأن «المجتمع الخارجي» بات فى جاهلية حديثة، لا تُمثل صحيح الإسلام.. وهى [نقطة ارتكاز]، لم يشذ عنها -قديمًا أو حديثًا- أغلب الجماعات والتنظيمات، التى رفعت شعار [الفرقة الناجية].
 

فعندما ظهرت «جماعة الإخوان» فى عشرينيات القرن الماضى،  كان أن أعادت الجماعة تأصيل «نقطة الارتكاز» تلك، بأكثر من طريقة (رسائل «حسن البنا» نموذجًا).. وانطلاقًا من «الرسائل» [وما أنتجه «سيد قطب» فى مرحلة تالية]؛ كان أن أضافت الجماعة عديدًا من الخطوات التنفيذية «الجديدة»؛ لتحقيق ما سعى إليه -ابتداءً- المرشد المؤسس.. إذ يمكننا تلخيص تلك «الخطوات» (اعتمادًا على وثائق التنظيم، ومناهجه التربوية)، فى الآتى:

أولاً: غرس «القناعة» لدى الأفراد «المُستهدفين» بأن دعوة «الجماعة»، هى [المُعادل المُعاصر] لدعوة الإسلام الأولى (دعوة الحق).. إذ يُوصى «حسن البنا» فى رسالته التى ألقاها خلال اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد، المنعقد بالقاهرة (فى 8 سبتمبر من العام 1945م)، تحت عنوان: [وصفنا]، أعضاء جماعته بأن يردوا على من يقولون لهم: إن دعوة «الجماعة» غامضة؟، بأن يصفوها [بدعوة القرآن «الحق» الشاملة الجامعة، وطريقة صوفية نقية، وجمعية خيرية نافعة، ومؤسسة اجتماعية قائمة، وحزب سياسى نظيف]، ويقولوا لهم: «لأنه ليس فى يدكم مفتاح النور الذى تبصروننا على ضوئه [نحن الإسلام أيها الناس!].. فمن فهمه على وجهه الصحيح، فقد عرفنا كما يعرف نفسه.. فافهموا الإسلام، أو قولوا عنّا بعد ذلك ما تريدون».

.. وهى ألفاظٌ واضحة فى دلالتها بأن «الجماعة هى الإسلام» [لا جماعة من المسلمين، فحسب (1)]، وأنّ من أراد أن يعرفها؛ فعليه أن يعرف الإسلام أولاً (!)
ثانيًا: يقتضى ترسيخ تلك «القناعة»؛ العمل على خلق تأصيلٍ «فقهيّ» بوجوب العمل داخل الإطار التنظيمى للجماعة (وجوب العمل الجماعي).. وهو أمرٌ يُمثل «الثابت الثاني» مما يُسمى بثوابت دعوة الإخوان [العشر] (2).. إذ تُبرر «المناهج التربوية» للجماعة تلك النقطة بأن الدين [نفسه] يدعو للجماعة: «يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ فى النار»، [إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية].. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوى بجماعته.. إذ يقول القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].. وأنّ القوى المعادية لـ«رسالة الإسلام»، لا تعمل بطريقة فردية، ومن الواجب علينا (أى على الإخوان) أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به.. ولابد أن يكون العمل الجماعى منظمًا [قائمًا على قيادة مسئولة، وقاعدة مترابطة]، ومفاهيم واضحة، تحدد العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس [الطاعة المبصرة، والشورى الملزمة!].

ثالثًا: عند نهاية النقطة السابقة؛ توغل المناهج التربوية للإخوان فى عملية توظيفية [بامتياز] للنص الدينى،  نفسه (إن لم تكن صرفًا كاملاً للنص عن معناه الحقيقي).. إذ تنطلق -مجددًا- من أنّ هذا المعنى، هو ما دعا إليه «حسن البنا»، وأنه (أى: البنا) لم يكتف بالخطب والدروس، بل رأى [بنور بصيرته!] أنه لابد [من التأسيس بعد التدريس]، كما عبّر بقلمه وعلم أتباعه [أنّ الجماعة «ضرورة شرعية»]، لابد لها من قائم يقوم عليها (أى: إمام).. وأنه لا يتم معنى الجماعة فى نفس الفرد إلا إذا شعر بالاعتزاز بانتمائه إليها/ والطمأنينة فى وجوده فيها/ وأنها حققت أو تحقق أمانيه/ وأنه عضو فيها ولبنة من لبناتها/ وأنه بها وليس بغيرها.. وهى إن لم تكن به فبغيره [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم] [محمد: 38]، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلَك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] [المائدة: 54].

.. ومن ثمَّ؛ تعكس جملة «الاقتباسات» (القرآنية، والنبوية) فى النقطتين: [ثانيًا، وثالثًا] جانبًا واضحًا من جوانب «تأميم الإسلام»، وحصره داخل جدران الهيكل التنظيمى للجماعة؛ إذ تُعيد مناهج الإخوان ضبط مؤشر «النصوص الدينية» الخاصة بوحدة الأمة الإسلامية، قاطبة [من الناحية التفسيرية] (كما يبدو من تتبع سياق التوجيه التربوي)، وسحب معانيها على خلاف الحقيقة.. فكلمة «الجماعة» فى [يد الله مع الجماعة] تم سحبها - ضمنيًّا - على التنظيم الذى أسسه البنا (لا الأمة الإسلامية كلها!)، وكلمة «الصف» [فى قوله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفًا] تتعلق بأعضاء الجماعة (لا عموم المسلمين!).. وذلك؛ لكى تقول -فى النهاية- إنّ الانضمام للجماعة واجب دينى.. وأنّ من ينتمى إليها [سيكون بها وليس بغيرها]، وأنها (أى: الجماعة) إن لم تكن به، فستكون بغيره {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (!)

رابعًا: لا تتوقف المناهج التربوية للجماعة، عند «التأويلات» السابقة؛ لإضفاء «مسحة شرعية» على الانضمام إليها؛ إذ من المنطقى أن يثور التساؤل حول: [لماذا الإخوان من دون غيرها؟].. وبالتالى.. تركز تلك المناهج (فى مراحل تالية) على عددٍ آخر من «التأويلات»؛ لإزاحة «المنافسين الحركيين» للتنظيم (أى: الجماعات الأخرى التى تتبنى العمل بالأسلوب نفسه).. لذلك؛ تُخصص «جماعة الإخوان» دورات تربوية [متنوعة] عن: الجماعات العاملة على الساحة؛ لتؤكد لأفرادها أنها تُمثل «الإسلام» الصحيح من دون غيرها (دروس: «لماذا جماعتنا؟!»، نموذجًا).. ثُمّ تُردف هذه الدروس، بدروس أخرى عن: «طبيعة الطريق» (أى: الطريق التى تتبعها الجماعة فى تبليغ دعوتها للجمهور).

خامسًا: يتزامن مع المراحل الأربع «السابقة» تدشين حالة شعورية استعلائية (الاستعلاء الإيماني) لدى أفراد الصف؛ بأن «دعوة الحق» (أى: الإسلام)، لم تَعُد موجودة فى الوقت الراهن، بالطريقة التى أرادها الله، ورسوله.. وهو ما يترتب عليه عديدٌ من التداعيات، مثل: «التخندق» داخل مجتمع الجماعة، بشكل أكبر؛ إذ تصبح الجماعة -فعليًّا- «وطنًا بديلاً».. ومن ثمَّ.. يتراجع شعور [الانتماء للوطن]، فى مقابل الإعلاء من [الانتماء التنظيمي].

سادسًا: يقف إلى جوار ترسيخ مفهوم «الجاهلية الحديثة»؛ تدشين دورات «تربوية» أخرى [فى سياق ما يُعرف داخليًّا بـ«دورة التصعيد»]، حول أنّ دعوة الحق (الإسلام) تتعرض إلى عديد من المؤامرات (الداخلية، والخارجية) يشارك بها مسئولو الحكومات غير المنتمية للجماعة، أو تلك التى تتبنى أفكارًا قومية، أو وطنية (دورة: المؤامرة على الإسلام، نموذجًا).. وذلك بالتوازى مع دورات: (الغاية والهدف والوسيلة/ الإخلاص/ الأخوة).. أما دورة التصعيد، نفسها؛ فهى تلك التى تسبق خضوع «فرد الصف» (أى: عضو الجماعة التنظيمي) إلى دورات أكثر تخصصًا مثل: دورة النقل (الارتقاء لمستوى تنظيمى أعلى)، أو دورة «النقباء» (التأهيل للقيادة)، أو دورة «فهم الإسلام» بالنسبة لدعاة الجماعة.
 

فيما يُمثل مفهوما: «الانعزالية»، و«الاستعلاء الإيماني» أحد أحجار الزوايا الرئيسية فى بناء «الشخصية الإخوانية»؛ فإن ترسيخ جوانب تلك الشخصية، يتطلب (من الناحية التربوية) مُداعبة «عاطفة» متلقى الخطاب التنظيمى،  من أكثر من ناحية: (سيكولوجية/ سوسيولوجية/ تاريخية/ دينية... إلخ).. إذ من  بين  ما  تذخر به «المناهج التربوية» للجماعة؛ غرس «قناعات» متعددة، حول أن «البيت» [الذى بناه الرسول (ص)، وعاشت تحت سقفه البشرية، فى الماضي]، قد جفّ عنه «المداد»، فيما بعد، حتى ظهرت دعوة الجماعة (!)

.. ويُرَوّج لهذا الأمر - غالبًا - أمام «أفراد الصف» بعبارات من النوع التالى: إنه عندما غابت حرارة دماء الشهداء الصادقين؛ صُرعت «الخلافة» (!).. ثم ساد ليلٌ، وفشت العتمة.. حتى بعث الله لهذه الأمة رجلاً قد ارتوى من النيل ماءً طهورًا ومن «الإسلام» نورًا مضيئًا (يقصدون: حسن البنا)؛ لتبدأ الحياة من جديد (!).. وحادى القافلة يُردد: [يا معشر الإخوان!].

وفى الواقع.. فإن «الفقرة السابقة»، على وجه التحديد [بتشبيهاتها، وتعبيراتها المختلفة]، تُمثل «الغاية» التى تسعى نحوها الجماعة (التى خرج من رحمها أغلب تيارات العنف الديني).. ونقصد بذلك؛ غاية «احتكار الدين» وتأميمه لحساب التنظيم.. وهو ما يُمكننا ملاحظة أثره –كذلك– فى إحدى «أنشودات الجماعة» شديدة الدلالة (من النواحى: الحركيّة، والتربويّة).. وهى «أنشودة» تتحدث عن «جيل النصر الإخواني».. ومن بين أبياتها، ما نصه:
أصوات «البنّا» لن تُخرس.. ومعالم «قطب» لن تُطمس

آراء «هضيبي» تملؤنا.. وعيًّا يشفى بكم الأخرس

وجهادك «عودة» بشرنا.. بقدوم صباح يتنفس

فِكر «المودودي» نوّرنا.. ومحا التزوير وما دُلّس

«هواش» الدعوة علمنا.. أنّ الحرية لا تُحبس

و«أخو أوروبا» أخبرنا.. عن تيه الغرب وقد أفلس

و«سباعي» الشام لنا علمُ.. وحديد الثورة لن يُدرس

«قسّامُ» بلادى أتحفنا.. بجهاد قام ولن ينعس
 

وتُبين القراءة التحليلية لـ«الأبيات» السابقة عددًا من المنطلقات: (الحركية، والفكرية) للتنظيم.. ففيما تُعلى من «الابتلاء» [ومفاهيمه]، وحتمية الخروج بالدعوة إلى «حيز العالمية»؛ لإنقاذ البشرية من إفلاس الحضارة الغربية (!).. فإنها تُعلن، فى المقابل - ومن دون مواربة - أنّ كُلاًّ من: «حسن البنا» (المرشد المؤسس)، و«أبو الأعلى المودودي» (صاحب المصطلحات الأربعة)، و«سيد قطب» (صاحب المعالم)، هم [رءوس «المثلث» الفكري] للتنظيم.. إذ لا يُعرف لغيرهم من الأسماء الواردة فى الأنشودة (باستثناء أعمال محدودة) إنتاجٌ فكرى يطاول ما أنتجه الثلاثة السابقون.

وفيما أشرنا سابقًا (3)، إلى أن الأساس الذى بنى عليه «سيد قطب» تصوراته (المتقاطعة وأفكار «أبى الأعلى المودودي») عن «جاهلية المجتمع»، لم يختلف فى جوهره عما كان يريده «حسن البنا» نفسه.. فإنّ «البنّا» نفسه زعم، ابتداءً [ربانية دعوته].. رُغم أنه توصيف يتعلق، فى المقام الأول، بـ«الأديان السماوية» (!)

■ يقول البنّا: أما أنها ربانية؛ فلأن الأساس الذى تدور عليه أهدافنا جميعًا، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها. ونحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا: الله غايتنا. فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التى تربطهم بالله تبارك وتعالى، والتى نسوها فأنساهم الله أنفسهم.. (رسالة: دعوتنا فى طور جديد).

■ ويقول أيضًا: هكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم فى ثنايا هذا الظلام، وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد: (ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويٌ عزيز) [الحج: 40].. (رسالة: بين الأمس واليوم).
وبالتالى.. فإن كانت الدعوة «ربانية» (وفقًا لمزاعم البنا)؛ فلابد أن يُكتب لها «العموم» [والعالمية] (!)

■ يقول البنّا: إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينتظر دعوتكم؛ دعوة الهداية، والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام. وإن الدور عليكم فى قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون، فاستعدوا واعملوا.. (رسالة المؤتمر الخامس).

■ ويقول أيضًا: أما أنها عالمية فلأنها موجهة إلى الناس كافة لأن الناس فى حكمها إخوة: أصلهم واحد، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبما يقدم أحدهم للمجموع.. (رسالة: دعوتنا فى طور جديد).

.. فإن جمعت الدعوة (فى طورها الجديد!) بين «الربانية»، و«العالمية» (على غرار رسالة الإسلام الأولى!)؛ فلاشك أنها دعوة تُنشئ أمرًا جديدًا، غير ما عهده الناس (!).. وتحتكر لنفسها مساحة [دينية] شديدة الخصوصية (!)

■ يقول البنَّا: اسمحوا لى أيها السادة أن أستخدم هذا التعبير (إسلام الإخوان المسلمين)، ولست أعنى به أن للإخوان المسلمين إسلامًا جديدًا غير الإسلام الذى جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وإنما أعنى أن كثيرًا من المسلمين فى كثير من العصور خلعوا على الإسلام نعوتًا وأوصافًا وحدودًا ورسومًا من عند أنفسهم، واستخدموا مرونته وسعته استخدامًا ضارًا، مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية، فاختلفوا فى معنى الإسلام اختلافًا عظيمًا، وانطبعت للإسلام فى نفوس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذى مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير تمثيل. وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه... ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلامًا صحيحًا.. (رسالة المؤتمر الخامس).

.. فإن نسى الناسُ الصلة التى تربطهم بالله تبارك وتعالى؛ فأنساهم الله أنفسهم (!).. ثم أظهر لهم - من بعد ذلك - «دعوة ربانية» جديدة.. [عالمية التوجه!].. مُهيّأة من السماء لإعلاء كلمة الله وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد (!).. فإن كل من لم يلتزم بـ«إسلام الإخوان» (بحسب التعبير الذى استخدمه مؤسس الجماعة نفسه!) [فى طوره الجديد!]، يُعد خارجًا عن «حاكمية الله» وشريعته.. متمسكًا بـ«جاهليته» فى مواجهة «ربانية» الدعوة الجديدة (!)

يقول «محمد قطب» (شقيق سيد قطب) إنّ مفهوم «حاكمية الله» اتضح فى فكر «حسن البنا» فى أيامه الأخيرة، دون أن تسمح له الفرصة بترسيخ هذا المعنى فى قلوب أتباعه.. إذ كتب «البنَّا» فى أيامه الأخيرة مقالاً تحت عنوان: [معركة المصحف: أين حكم الله؟]، قال فيه: الإسلام دين ودولة ما فى ذلك شك، ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أنّ الإسلام [شريعة ربانية] جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة. أى إلى الحاكم الذى يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم، وإذا قصّر الحاكم فى حماية هذه الأحكام لم يعد حاكمًا إسلاميًّا. وإذا أهملت الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية. وإذا رضيت الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه، لم تعد هى الأخرى إسلامية (4).
 
وفى الواقع.. فإنّ حجم التقاطع الذى نبّه إليه «محمد قطب» حول إرهاصات «الحاكمية» عند البنا، وما انتهى إليه شقيقه «سيد»، فيما بعد، مثيرٌ [بالقدر نفسه] الذى لا يزال يثيره اقتراب «سيد» من الجماعة نفسها.. إذ دفع هذا «الانضمام» غير المتوقع (بعد مقتل «البنا»، وتولى «حسن الهُضيبي» مسئولية التنظيم) الخيال «الخصب» لبعض مؤرخى الجماعة؛ لأن يبرر الأمر وفقًا لمنحى أقرب إلى «التحولات الدرامية» (!).. إذ ذهب عددٌ منهم إلى ذكر رواية سينمائية [بامتياز]، قال فيها: إنّ «سيد» عندما كان فى «الولايات المتحدة» بالعام 1948م [فى بعثة لدراسة التربية وأصول المناهج]، وتم اغتيال «حسن البنا»؛ لاحظ الابتهاج الأمريكى بمقتله؛ إذ دُقّت - بحسب الرواية الإخوانية - أجراس الكنائس (!)..(راجع، على سبيل المثال، كتاب: مرشدك الأمين).

والملاحظ أنّ تلك الرواية خلت من «الحبكة» إلى حدٍّ بعيد [فى مقابل «تضخيم الذات»].. إذ كانت الجماعة حتى ذلك الوقت لا تعدو كونها «جماعة مصرية محلية» ذات نشاطات محدودة «إقليميًا».. فكيف أتى الغرب، إذًا (خاصة أمريكا!) بكل هذا التوجس «المبكر» والريبة من البنَّا [ودعوته!]، حتى دفعهم ذلك التوجس؛ لقرع أجراس الكنائس فرحًا بمقتله (؟!).. لكن.. أيًّا كانت الأسباب الحقيقية وراء انضمام «سيد قطب» للإخوان؛ فإنه عندما أصبح بين صفوف التنظيم (مسئولاً عن نشر الدعوة)، كان أن أصبح هو صاحب [البصمة الأكثر تطرفًا]، التى استنسختها تنظيمات [العنف والإرهاب] كافة.

كما كان للدعوات التى زخرت بها كتابات قطب (فى غيبة أصحاب العمائم «المعتدلين» عن المشهد، تقريبًا) أثرها فى إعادة طرح النقاش حول «قضية الاجتهاد».. إذ راجت – مرة أخرى – دعوات «غلق باب الاجتهاد»، فى وجه طارقيه.. وهى دعوة وجدت –للأسف- من يتبناها من أصحاب العمائم أيضًا (!).. إذ خلص «سيد قطب» فى كتابيه: (معالم فى الطريق، والإسلام ومشكلات العصر) إلى أنَّ تطوير الفقه مناورة خبيثة من الجاهلية (!).. وقال: يجب على دعاة الإسلام أن يرفضوا السخرية الهازلة فيما يُسمى «تطوير الفقه الإسلامي» فى مجتمع لا يُعلن خضوعه لشريعة الله (!)
 

ويبقى فى النهاية: إن كان الموقف كذلك، وأصبحت الصورة (بتلك الكيفية) واضحة لا خلط فيها.. فهل بات - الآن – أصحاب العمائم فى خدمة «أفكار الحاكمية»، وجاهلية المجتمع».. أم ماذا (؟!)

الإجابة.. متروكة –مرحليًّا- لأصحاب العمائم (!)

(1)- فى أعقاب الانتقادات التى وجهت للجماعة حول هذا الأمر؛ لجأ عدد من قادتها إلى إعادة تأويل تلك النقطة من الرسائل، وطرح الجماعة على أنها «جماعة من المسلمين» [لا جماعة المسلمين] (راجع على سبيل المثال: جمعة أمين، «منهاج حسن البنا: بين الثوابت والمتغيرات»).. ومع ذلك.. ظّلت المناهج التربوية [الداخلية] للتنظيم، تغذى أن الجماعة هى الإسلام، وأن الانضمام إليها أولى من الانضمام لغيرها (وهو ما سنعرض له فى نقطة تالية).

(2)- يُلخص القادة التربويون للجماعة ثوابت الدعوة [العشر]، فى الآتى: (اسم الجماعة/ العمل الجماعي/ التربية/ الأسرة محضن التربية/ رسالة التعاليم والأركان العشرة [خاصة الأصول العشرين] ورسالة العقائد/ شمول الدعوة وعموميتها/ الشورى الداخلية/ احترام اللوائح من أخلاق البيعة/ الاختيارات الفقهية للجماعة لا خيرة للأفراد فيها/ الله هو الغاية).. وتلك «الثوابت» -حتى لا يختلط الأمر على القارئ- غير «أركان البيعة» الموجودة فى [رسالة التعاليم].. إذ إن أركان البيعة: (الفهم/ الإخلاص/ العلم/ الجهاد/ التضحية/ الطاعة/ الثبات/ التجرد/ الأخوة/ الثقة)، وهى – جميعها - الثابت «الخامس» من ثوابت الدعوة.

(3)- راجع على سبيل المثال مقال الأسبوع الماضى: [الفقيه الذى عذَّبنا!].

(4)- محمد قطب، «واقعنا المعاصر»، (القاهرة: دار الشروق، 1997م – ص: 355).