
هاني عبد الله
التربص بالرئيس! لماذا تخشى «واشنطن» الأقوياء؟!
بين سجع «الحروف» يُمكننا أن نتلمس الطريق (!).. فالكلمة خير «صديق».. إذ إن الكلمة [المغروسة فى جسد الوطن] لا تعرف قيدًا، أو تؤمن بالتضييق (!).. تهتز طربًا .. تتراقص فرحًا.. ترسم أملاً [على مر العصور].. تنتزع «الآهات» من فوق أجساد «حفارى القبور».. إذ يُزعج «النورُ»، يقينًا، جُند «مُسيلمة»، وهم سائرون.
لكن.. ماذا يُريد الأنبياء الكاذبون؟!
هم يكتبون.. كأنهم لا يكتبون (!)
.. يتصايحون.. يتمايلون.. يتراقصون، على أطلال من الماضى القريب (!)
بالأمس.. ذبحوا «الشرق» فوق عتبات «غربية»، واليوم يبكون الوطن (!).. يتظاهرون بأنهم منا، وهم مستشرقون(!).. مَن هؤلاء السادةُ المستشرقون (؟!).. ولأى شعب.. أى أرض.. أى دين.. أى رب ينتمون (؟!).. ما مسهم حرٌ، ولا قرٌ، ولا قلق، ولا حزنٌ.. ولا من يحزنون (!)
يقول السادة المستشرقون: «إننا مرضى بالديكتاتورية».. فقط.. لأننا نعمل، ونؤمن بالعمل من أجل رفعة الوطن(!).. ويقولون لنا أيضًا: «إنّ [أهل الغرب] قَدْ جَمَعُوا لَكُم، فاخْشوْهُم».. فازددنا - رُغمًا عنهم - إِيمانًا، بأننا على الطريق الصحيح.
تحتاج الأوطان - يقينًا - لمن يبنونها، لا من يتربصون بـ«بُناتها».. وبين وقائع التاريخ، وأحداث السياسة (شاء من شاء، وأبى من أبى) لا شيء أكثر من عمليات التربص بمستقبل الأمم.
ولمن لا يعرف.. فمنذ العام 2015، وحتى نهاية العام الماضى (2017م)، كان ثمة حلقات نقاشية [مُغلقة] داخل أروقة المراكز البحثية الغربية (الأمريكية على وجه الخصوص)؛ لرسم مُستقبل الحكم فى منطقة «الشرق الأوسط»، خاصة بعد «سقوط الإسلاميين»، الذين وصلوا إلى السلطة فى أعقاب ما اصطلح على تسميته بـ«ثورات الربيع العربى».
وكان من بين ما انتهت إليه رؤية تلك الحلقات النقاشية؛ أنه بعد مرور عدة سنوات [على بدء الانتفاضات العربية]؛ فإنّ الوضع فى الشرق الأوسط لا يزال ملتهبًا.. إذ لم تسقط «الدول العربية» كقطع الدومينو أمام الإسلاميين.. ففى مصر، تم التحرك ضد حكم «جماعة الإخوان» من قبل القوات المسلحة المصرية.. وفى تونس؛ تنازل الائتلاف الذى يقوده الإسلاميون (لم يكن يحظى بالشعبية إلى حد كبير) عن السلطة لصالح «حكومة ائتلافية» (مدنية).. وفى أماكن أخرى بالمنطقة، يتحدّى أيضًا [الفاعلون غير الإسلاميين] (سواء أكانوا أفرادًا أم منظمات غير حكومية أم أحزابًا سياسية) مفهوم الحكومة المتأثرة بالدين.. وما زال الحكام «الحاليون» (القاهرة نموذجًا)، يمسكون بزمام الأمور.
ومن ثمَّ.. تم إعادة طرح البحث فى شرائح النُخب العربية عن حلفاء جدد يمكنهم الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة، بشكل أكبر مما هو عليه الوضع الآن.
وبحسب الرؤية ذاتها؛ ليس كل من لا ينتمى إلى «الإسلاميين» ليبراليًا بالضرورة.. إذ من بين هؤلاء [الفاعلين غير الإسلاميين] من يمثلون (النخبة التقليدية، والقوميين المتحمسين، واليساريين).. وهى قطاعات لا يُمكن لها أن تفرز حلفاء جيدين للولايات المتحدة (سبق أن أكدت على المضمون نفسه، دراسة صادرة عن مركز «راند» بالعام 2003م).. وما يوحّد هذه المجموعة هو تشديدها البليغ على التعددية، والتسامح الدينى، والحريات الشخصية.. ومعارضتها للبرامج السياسية [الإسلامية]، التى أنتجت سياسات «متعصبة» قائمة على التفرد بالحكم، و«احتكارية الفهم الدينى».
وأوصت الرؤية، بأنه استنادًا إلى الخطاب الرائج فى «واشنطن»، قد يُستنتج أن السياق العربى [الحالي] يُمثل تنافسًا، قائمًا حصرًا بين الأصولية الدينية، والاستبداد (بمظهريه العسكرى أو الملكى).. لكن الواقع أكثر تعقيدًا.. فبين هذين النقيضين هناك قوى عربية، تدعو إلى تشكيل حكومات [تمثل أطيافًا أوسع من المجتمع].. وهذه القوى أساسية؛ لتحديد [الطابع المستقبلى للشرق الأوسط].. ورغم مكامن العجز المتعددة لدى هذه القطاعات؛ فإن مصلحة الولايات المتحدة الدائمة تتمثل بانتصارهم (!).
ولفهم أعمق، لما يُمكن أن يكون عليه شكل «سياسات الارتباط الأمريكية» بمنطقة الشرق الأوسط، مُستقبلاً.. يُمكننا ملاحظة الآتى:
(1) فى أعقاب انهيار مشروع الارتباط وقوى الإسلام السياسى [التقليدية] - وهو المشروع الذى حظى بدعم «دوائر أمريكية رسمية» فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر - بفعل تأييد «القوات المسلحة المصرية» للانتفاضة الجماهيرية ضد حُكم جماعة الإخوان فى 30 يونيو من العام 2013م؛ شرعت «الدوائر الأمريكية» ذاتها فى البحث عن شريحة مجتمعية أخرى، تكون أكثر اتساقًا مع السياسات الأمريكية بالمنطقة مستقبلاً.
(2) أفرزت الاحتجاجات العربية على حكم تيار الإسلام السياسى بالمنطقة (فضلاً عن بعض نتائج الانتخابات النيابية) نوعًا من عدم الثقة فى كفاءة «الشريك الأمريكى» [المُستبعد من السلطة].. ومن ثمَّ.. تراجعت فكرة الاعتماد على هذا الشريك (بشكلٍ رئيس) فى مقابل البحث عن بديل [يُمكنه السماح لهذا التيار بلعب دور مُستقبلى، فى سياق مفاهيم التعددية السياسية].
(3) شكّل عدم تجانس القوى الفاعلة [غير الإسلامية] (الليبراليين/ القوميين/ اليساريين) معضلة أمام «الدوائر الأمريكية» فى الارتباط بـ«القوى المدنية غير الإسلامية» من حيث الأصل.. إذ من بين هذا التيار من يتسم بنزعات «قومية متحمسة»، تُعادى «الهيمنة الأمريكية»، وتؤمن [بقومية الدولة]، ومركزيتها.. ولا يستثنى من تلك الحالة سوى بعض الأطياف الليبرالية (القريبة من التوجهات الغربية).. وهو ما يُشكل - فى حد ذاته - خطرًا مُستقبليًا على سياسات الارتباط الأمريكية بالمنطقة.
(4) مثّل الضعف الجماهيرى للتيار (القريب من التوجهات الغربية)، ثغرة جديدة أمام «واضعى السياسات الأمريكية».. وهو ما استوجب (وفقًا للتوصيات) التحرك فى اتجاهين متوازيين؛ الأول: دعم التيار القريب من الولايات المتحدة سياسيًا، والثانى: العمل على إضعاف «مركزية الدول الوطنية»، والحيلولة دون تزايد نفوذ «الخطاب القومى».
(5) تستدعى النقطة الأخيرة (أى: العمل على إضعاف «مركزية الدولة الوطنية»، والحيلولة دون تزايد نفوذ «الخطاب القومى»).. أن تظل الأنظمة «المدعومة من قبل قواتها النظامية» [أو تلك التى تتمتع بالطابع القومي] رهينة لوصف «الأوتوقراطية» (الديكتاتورية) من قبل «الآلة الإعلامية» الغربية، حتى لو لم يكن هذا صحيحًا (مراجعة تصريحات «جون ماكين» الأخيرة تجاه مصر، ربما تكون النموذج الأقرب لهذا الأمر).. إلى جانب استهداف «شرعية إنجاز» الأنظمة القائمة، عبر التشكيك فى مصداقية أو جدوى ما تقوم بتنفيذه من «مشروعات قومية» على المستوى الجماهيرى.
يُفرق المهتمون بـ«النظم السياسية» بين نوعين من «الشرعية»: شرعية الصندوق (الانتخاب)، وشرعية الأداء (الإنجاز).. ويعرف - يقينًا - المتتبعون لسياسات «تغيير الأنظمة» آليات «استنزاف الشرعية» (attrition of legitimacy)، كأحد التكتيكات الرئيسية [وربما «الفاعلة»، أيضًا] فى زعزعة الأنظمة السياسية «المستهدفة».. وهى تكتيكات كانت حاضرة بقوة داخل المنطقة العربية، عبر سنوات خلت.. إذ يستهدف ذلك التكتيك - فى المقام الأول - اللعب على الرافدين الأساسيين «المغذيين» لشرعية أى نظام حاكم (أى: «شرعية الصندوق»، و«شرعية الإنجاز»).
ورغم أنه يبدو من قبيل «التسرع» الارتكان - بشكل خاطئ - إلى أن «شرعية الصندوق» (الانتخاب)، بمعزل عن عمليات التدخل «النوعية» لهذا التكتيك، حتى لو باتت أمرًا واقعًا، أو حازت على «أغلبية ساحقة» فى بعض الأحيان (!).. إذ بدخول النظام (أى نظام) لمرحلة استنزاف منجزاته، أو ما يقدمه من خدمات جماهيرية «متنوعة» (أى: مرحلة استنزاف «شرعية أداء» النظام)؛ يصبح ذلك النظام - تدريجيًّا - محلاًّ لاستنزاف شرعيته الانتخابية (شرعية الصندوق)، الحائزة على ثقة الجماهير (!).. وعبر عديدٍ من الشواهد «المختلفة» ما انفكت «الولايات المتحدة الأمريكية» (والقوى الغربية، بشكل عام) عن أن توجه سهام هذا التكتيك لأى نظام ترى أنه لا يحقق مصالحها الاستراتيجية.
ويقينًا.. قطعت «القاهرة» على مستوى (الإنجاز)، ومستوى «الدعم الشعبى»، ومستوى «استقلال القرار السياسى» (بما يجعلها نموذجًا رائدًا فى الشرق الأوسط)، ما يُقلق «قوى الهيمنة الغربية» حدَّ التوتر، وما يُزعجها حدَّ الفزع.. وما يُفزعها حدَّ التربص.. إلا أنّ الرهان على «الوعى الجمعى» للشعب المصرى، لم يعد محلاً لأى شك.