مديحة عزت
فاطمة اليوسف تتحدث عن نفسها : أنـا لـن أمـوت أبـداً
إلى سيدة الصحافة أستاذة أساتذة الصحافة والصحفيين فاطمة اليوسف بمناسبة عيد روزاليوسف «المجلة» التى كانت تعتبره عيداً لميلادها.. هذه الأبيات التى كتبها الدكتور سعيد عبده لميلاد المجلة.
دنيــــا الصحــافــة يـــاروزا إنــت بـاريــزهــــا وأنت الصبية الحليوة من عواجيزها
غـنـى القـلـم يـوم ميـلادك والـورق زغـرط يــا مـدرســة كـلـنــا كـنـا تـلامـيـذهــا
وإلى روزاليوسف الفنانة والصحفية يقول عمنا بيرم التونسى :
وروزا تـمـثـيـلـهـــا الـفـنـــــــى يـمـــــــــــــــلا عـيـنــــــــــــى ضـــــــــــــى
وعـظـمـــى يـتـفـكــك مـنــــى لما تكتب واقرأ فى الجرنال
والكـلـمـة مـن روزالـيـوسـف تـنـضــــــرب فـــــى الأمــثـــــــــــال
رحم الله الجميع ومن الذكرى تزاحمت الذكريات مع أستاذتنا العزيزة الست روزاليوسف كما كانت تحب أن نناديها لتعيد لذاكرتها أيام الفن وقبل أن أدخل فى الذكريات مع عظيمة الصحافة التى لم أحب بعد أمى أما غيرها.
كانت أغلى عندى من جدتى لأمى وجدتى لأبى.. كانت ترتاح لى وأرتاح معها.. كنت ألتقط ما تريد أن تقول قبل أن تنطق وكانت تقرأ ما فى نفسى مجرد أن نلتقى.
كان فرق السن بيننا كبيرا ولكن كان التفاهم والتقاء الأرواح قريبا جدا.. صادقتها كما لم أصادق أحدا قبلها ولابعدها.. كانت تنادينى بيا تلميذتى النجيبة علمتنى الكثير واختصتنى بأدق أسرارها وذكرياتها، كانت ترتاح وتسعد كثيرا فى إعادة الماضى.. كانت رحمها الله تقول لى: من لا ماضى له ليس له مستقبل.. ماضى الإنسان تاريخه الذى يستفيد منه المستقبل.. كانت تطلب منى الاحتفاظ بكل ورقة مكتوبة حتى لو كانت كارت معايدة.. كانت تقول: كل كلمة لها وقت نرجع لها عند اللزوم حتى من باب الترحم على كاتبها.. ونرجع لصاحبة السيرة سيدة المسرح والصحافة فى أهم زمن من تاريخ مصر الحديثة ونبدأ من طفولة صاحبة السيرة وقد تكون خافية على الكثيرين من أبناء هذه الأيام.. وقبل أن أسرد أذكر لكم أننى عرفت هذه الأسرار وهذا التاريخ يوم أخذتنى السيدة فاطمة اليوسف معها إلى بيتها القديم فى حلمية الزيتون وكانت قررت أن تسلم البيت لصاحبه وتأخذ منقولاتها وأوراقها الخاصة وكانت فى صندوق كبير وتبرعت بالمنقولات لمن كانوا يخدمونها واحتفظت بما كانت تحبه وجاءت إلى دار روزاليوسف.. وأخذنا صندوق الورق وبدأت تطلب منى قراءة كل ورقة بعد ورقة ثم طلبت منى الاحتفاظ بكل هذه الأوراق حتى أسلمها لابنها إحسان عبدالقدوس فى الوقت المناسب ولما سألتها: يعنى إمتى ياست الوقت المناسب؟ قالت وهى تضحك: بعد عمر طويل يا عبيطة ولما وجدت التأثر على وجهى وأنا أقول لها بعد الشر قالت: كلنا هنموت لكن هناك فرق فيه ناس تموت وتنتهى وناس زيى تموت وتعيش بسيرتها وتاريخها.. عزيزى القارئ هل وعيت الحكمة من الست.. وكان من بين الأوراق شهادة ميلادها وتاريخه 1888 ثم بدأت تحكى لى: فى هذا العام ولدت طفلة جميلة فى مدينة طرابلس بلبنان من أبوين مسلمين أطلق عليها اسم فاطمة، ولكنها لم تعرف اسمها الحقيقى إلا حين كبرت فقد كانت تسمع الجميع ينادونها «روز» وتحكى: لما كبرت أحسست أن والدى يعاملانى بقسوة لا تصدر عن أم وأب.. ثيابى خرق وطعامى فضلات، لم أسمع منهم كلمة حلوة أو ابتسامة وبدأت أسأل مربيتى كثيرا من الأسئلة كانت تبكى فقط حتى كان يوم جاء صديق العائلة وطلب منهم أخذى معه لأنه قرر الهجرة إلى البرازيل فوافقوا فورا ويومها بكيت وسألت خديجة مربيتى: كيف يتنازل أبواى عنى لهذا الصديق يا داده.. بكت وقالت لها: يا فاطمة هذان ليسا أمك وأباك.. وأكملت المربية خديجة: يا فاطمة لقد ماتت أمك السيدة جميلة عقب ولادتك وسافر أبوك محمد محيى الدين اليوسف إلى أسطنبول لتجارته الواسعة بين لبنان وتركيا وكان رجلا كريم الأخلاق وكان من أصل عثمانى وكثير السفر ولم يكن فى وسعه أخذنا أنا وأنت معه فتركنا عند الجيران بشرط أن أكون معك ويدفع شهرية ولما كان الجيران أقباطاً كان اسمك فاطمة نشازاً لذلك أطلقوا عليك اسم روز.. أما اسمك الأصلى فاطمة محمد محيى الدين اليوسف وليس روزاليوسف كما كانوا ينادونك والأصل فاطمة اليوسف.. من هذه المقدمة المختصرة من الكثير الذى اختصتنى به حتى يتأكد أصل سيدة المسرح والصحافة فاطمة الاسم واسم الشهرة روزا.. طبعا كانت بدايتها فى مصر عندما اصطحبها صديق العائلة فى رحلة هجرته إلى البرازيل وعندما توقفت الباخرة فى الإسكندرية.. تسللت الطفلة الصغيرة فاطمة اليوسف ابنة السبع سنوات لتبدأ حياة وأمجاد سيدة صنعت من نفسها سيدة على كل مجال تعمل فيه.. عملت بالمسرح بدأت كومبارس نطقت بثلاث كلمات «ومنى هذا الخاتم» فى مسرحية نابليون.. وأنهت عملها بالمسرح بلقب سارة برنار الشرق.. بل سيدة المسرح العربى روزاليوسف.
ثم بدأت الصحافة يوم كانت تجلس فى محل حلوانى «كساب» مكان سينما ديانا الآن وكان معها الأساتذة محمود عزمى وزكى طليمات وسعيد عبده وإبراهيم خليل وأحمد حسن.. ملحوظة كل هؤلاء عملوا معها حتى وفاتهم وتقول رحمها الله: ألقى علينا بائع الصحف مجلة «الحلوى» التى كان يصدرها حافظ نجيب وكان يسب الفنانين ثم سألت نفسها من يدافع عن هؤلاء.. لابد من وجود من يدافع عنهم بمجلة جديدة سأصدرها أنا.. وعندما بدأ الأصدقاء اختيار اسم للمجلة قالت: مجلتى روزاليوسف.. وقالت لهم: ترقبوا معى كما تترقب الأم مولودها القادم «روزا اليوسف المجلة».
هذا قليل من ذكريات كثيرة عرفتها منها.. وعايشتها مع ذكرياتها الكثيرة أما ما رأيته منها شخصيا أنها كانت عبارة عن مجموعة من المتناقضات لا يمكن أن تجتمع فى شخص واحد فهى فى عملها عنيفة عاصفة صوتها الرفيع يرتفع ليزلزل مكاتب المحررين وعنابر المطبعة قوية إلى حد القسوة جريئة إلى حد التهور لا تخفى رأيا صريحا ولا توارى غضبا ومع ذلك كانت صاحبة قلب طيب ينشر الحب والسلام بعيدا عن العمل هادئة عطوف حنونة خيرة تساعد أولاد وعائلات كل من كانوا يعملون معها فى المسرح كانت تأخذنى كل شهر لتوزع عليهم الشهرية، وأذكر أننى رأيتها تبكى مرة عندما كنا نزور أستاذنا إحسان فى المعتقل عام 1954 وبعد الزيارة تركناه فى السجن وبكت وقالت لى كأنها تعتذر عن ضعفها: أنا أم كأى أم خارج المجلة.
وأذكر من قوة بصيرتها يوم أحداث مارس 1954 ورفع الرقابة عن الصحف قالت لإحسان: أنا لا أمنعك من الكتابة ولكن عايزة أقولك أن رفع الرقابة كمين فاعمل حسابك.. وفعلا اعتقل إحسان ثلاثة أشهر على ثلاث مقالات أهمها «الجمعية السرية التى تحكم مصر».
ويوم أمم الرئيس عبدالناصر «قناة السويس» قالت لإحسان أمامى: يكون فى علمك لو نجح جمال فى تأميم قناة السويس وتمت على خير.. يا إحسان سيؤمم جميع مرافق الدولة والجرائد والصحف والمجلات حتى الأتوبيسات لن يتركها.. وضحك إحسان وقال: ياست.. وطبعا معروف ما حدث ولكن بعد وفاتها، والغريب يوم تأميم الصحافة كان يوم تأميم الأتوبيس!!
وكانت فاطمة اليوسف سيدة الصحافة مؤمنة بعمل المرأة لذلك كانت ترحب بعمل البنات معها سواء فى التمثيل أو فى الصحافة.. وكانت تساعدهن لإتمام الدراسة. كانت فاطمة اليوسف آمنت برسالة قاسم أمين وحققت أهدافه على هذا النحو العملى لم تكتب عنه بقدر ما نفذت تعاليمه وكان إعجابها بسيرته وجهاده حتى إن حجرتها فى روزاليوسف خلت من كل الصور إلا صورة قاسم أمين.. فلما نزل بها قضاء الله دفنت إلى جواره كأى تلميذة تؤمن بزعيم وتراه قميناً بالصحبة الطويلة فى عالم الخالدين صاحبة الذكرى العزيزة والذكريات كثيرة وإنى أراها فى منامى مع الحبايب فى رحاب الله مع هذه الكوكبة من الزملاء الراحلين إحسان عبدالقدوس وإبراهيم عزت شقيقى الحبيب وعبدالرحمن الشرقاوى وصلاح حافظ وفتحى غانم وأحمد بهاءالدين وإسماعيل الحبروك وصلاح جاهين وأبوالعينين ويوسف السباعى وصلاح عبدالصبور وحسن فؤاد وكامل زهيرى وجمال كامل وعبدالسميع ومصطفى محمود ومحمود السعدنى وأخيرا حجازى وأنيس منصور والذين معهم فى رحاب الله إنى أراهم فى منامى ويقظتى مع أمى وأبى وزوجى العزيز «نبيل» وشقيقى وشقيقتى إبراهيم وهيام وسيدة السيرة فاطمة اليوسف وأستاذى إحسان عبدالقدوس أذكرهم وأتذكر قول عمر الخيام..
يا ثرى كم فيك من جوهر
يبين لو ينبش التراب
قد عصف الموت بهم فانطووا
واحتضنوا تحت التراب
نفسى خلت من أنس تلك الصحاب
لما غدوا ثاوين تحت التراب
وإليكم الحب كله وتصبحون على حب







