الأنبا «ميخائيل» تنبأ بثورة 30 يونيو
روزاليوسف الأسبوعية
بعد رحلة طويلة مع المرض وعن حياة نسكية ورهبنة صالحة غادر عالمنا مثلث الرحمات نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط وشيخ شيوخ مطارنة وأساقفة الكرازة المرقسية والأب الروحى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ليستحق أن يقول مع معلمنا القديس بولس الرسول: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعى، حفظت الإيمان، وأخيرا قد وضع لى إكليل البر، الذى يهبه لى فى ذلك اليوم، الرب الديان العادل».. ولد نيافة الأنبا ميخائيل فى 4 يوليو 1921 فى قرية الرحمانية بنجع حمادى، ومنذ صغره كان دائم الالتصاق بالكنيسة وعلى رغم حداثته فلقد ظهرت عليه مبكراً ميول نسكية ورهبانية، وترهب فى 19 فبراير 1939 بدير الأنبا مقار وعمره أقل من عشرين عاما تقريبا باسم متياس المقارى وعلى الرغم من صغر سنه إلا أنه كان يعيش حياة رهبانية نموذجية يصعب على شيوخ كثيرين فى الدير الوصول إلى قامتها الروحية ومع ذلك كان مضيفا للغرباء محبا للفقراء خادما للصغير والكبير ولم تمض شهور على رهبنته فى الدير إلا وقد نال رتبة القسيسية فى 17 نوفمبر من نفس العام.
كان الراهب متياس المقارى شجاعا دائم الدفاع عن الحق مما جعله يصطدم بسياسات رئيس الدير الخاطئة وبلغ به الأمر أنه كان يعنف رئيس الدير ولكن بلين ووداعة ومحبة على ما يقترف من أخطاء الأمر الذى أوغر صدر رئيس الدير تجاه الراهب الشاب وجعل يخطط لطرده من الدير، وفى إحدى ليالى الشتاء القارسة البرودة اتخذ رئيس الدير قراره بطرد الراهب القس من الدير وهو ما كان.
كان البابا يوساب الثانى وهو بطريرك الكنيسة فى هذا الوقت يعانى من اضطرابات داخل الكنيسة وكان رجلا طيبا إلا أنه كان ضعيفا وترك أمور الكرازة لسكرتيره الخاص والذى كان يديرها بالكثير من الفساد وكان دائم البحث عن من يعمل معه ويتوسم فيه الصلاح وفى الليلة التى تم فيها طرد الراهب متياس المقارى من الدير رأى البابا يوساب فيما يرى النائم السيدة العذراء مريم فى رؤيا وأخبرته فيها أنه يتوجب عليه أن يسرع إلى دير أبو مقار وسيجد هناك راهبا اسمه متياس وأن عليه أن يرسمه مطرانا على أسيوط والتى كان كرسيها شاغرا.
الذهاب إلى الدير
من تقاليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أنه تتم سيامة الراهب المرشح على درجة الأسقفية، فرتبة المطران هى رتبة ينالها الأسقف بعد سنين عديدة وحسب اتساع دائرة خدمته وقد ينالها وفى الغالب لا ينالها، وكثير من أساقفة الكنيسة رحلوا عنا دون أن يتم ترقيتهم مطارنة ولكن لم يكن البابا يملك من أمره شيئا فى هذا الموضوع فهناك كان تدبير إلهى أعلن له وما عليه سوى التنفيذ، أسرع البابا فى الذهاب إلى الدير وعلى غير المعتاد فلقد فوجئ الجميع فى الدير بوجود البابا فى وسطهم دون أن تكون هناك أى مناسبة خاصة تستدعى تواجد البابا فى الدير وهو الأمر الذى أربك الرهبان ورئيس الدير، وما كان منهم إلا أن استقبلوا البابا بما يليق به من استقبال واحتفلوا بقدومه إلى الدير وسط غموض ودهشة كبيرين من سبب الزيارة ولكن من يتجاسر ويسأل البابا عن سبب مجيئه فهو الرئيس الأعلى للرهبنة فى الكنيسة ويحل متى شاء فى أى من أديرتها، ولكن لم يدع البابا دهشة الرهبان تستمر طويلا وباغتهم بالسؤال عن الراهب متياس وهنا ارتبك الجميع وظنوا أن الراهب قدم شكاية للبابا ولكن لم يمض الوقت الكافى الذى يسمح للراهب بالتوجه إلى مقر البابا كما أن شكاية الراهب لا تستدعى قدوم البابا بشخصه إلى الدير، خاصة أن البابا يوساب عرف عنه أنه يخول أمورا أكثر أهمية من هذا الأمر لسكرتيره الخاص، وأخيرا أخبروا البابا بأن الراهب سوف يغادر الدير فى هذا اليوم ولم يستفسر البابا عن سبب المغادرة ولكنه صدق على قول الرهبان معلقا نعم سوف يغادر لأنه سوف يرسم مطرانا على أسيوط.
وكما يقول المثل «وتقدرون وتضحك الأقدار» هكذا كان حال الراهب متياس المقارى، فبعد أن كان راهبا مطرودا من دير أبو مقار ها هو تتم سيامته مطرانا على أسيوط ويقع الدير ضمن قسمته ليكون هو الرئيس فيما بعد لهذا الدير ليصبح «الحجر الذى رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية» تمت رسامة الأنبا ميخائيل على كرسى أسيوط فى25 أغسطس عام 1946 ولم يتجاوز عمره بعد الـ 25 عاما بيد البابا يوساب الثانى بالمقر الباباوى وعادوا به إلى أسيوط حيث مقر كرسيه فهل ضحكت الأقدار أخيرا للأنبا ميخائيل ليعيش حياة هادئة؟ بالطبع لا فدائما ما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.
فى أى مجتمعات بشرية دائما هناك من هم أصحاب النفوذ، وليس بالضرورة أن يكون السعى للنفوذ بغرض تحقيق المصالح وحصد المكاسب ولكن قد يكون من قبل حب الظهور ونوعا من الوجاهة الاجتماعية وهذا هو ما اصطدم به الأنبا ميخائيل فى بداية عهده، فأسيوط والصعيد عموما مجتمعات قبلية وفى وسط المجتمعات الكنسية دائما ما تكون هناك بعض العائلات التى تتصدر المشهد الكنسى بل هى واجهة هذا المشهد فما بالنا بهذه القبلية فى عصر كان يحكمه البشوات والبهوات فهؤلاء كانوا رافضين لتواجد الأنبا ميخائيل كمطران لمدينتهم نظرا لحداثة سنه وحاولوا اختلاق المشاكل له ولكن بصبر واحتمال شديدين استطاع الأنبا ميخائيل التغلب على كل العقبات التى قابلته، والتف شعبه حوله، عرف عنه النسك والصلاة والجدية والصرامة والنظام والتقشف والرعاية والتواضع وكان هو الرجل الصامت، المسالم، القوى، الراسخ، الشجاع، الصارم، الناسك، الذى بلغ شموخه شموخ جبل السيدة العذراء بأسيوط.
عاصر نيافة الأنبا ميخائيل سبعة بطاركة جلسوا على الكرسى المرقسى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية وهم: البابا كيرلس الخامس البطريرك 112 والبابا يوأنس التاسع عشر البطريرك 113 والبابا مكاريوس الثالث البطريرك 114 والبابا يوساب الثانى البطريرك 115 والبابا كيرلس السادس البطريرك 116 والبابا شنودة الثالث البطريرك 117 والبابا تواضروس الثانى البطريرك 118 وعاصر أيضا أحد عشر ملكا ورئيسا لمصر هم الملك فؤاد وابنه الملك فاروق وابنه أحمد فؤاد، ثم محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسنى مبارك وطنطاوى ومرسى وعدلى منصور والرئيس عبدالفتاح السيسى.
واجه الأنبا ميخائيل بشجاعة الإرهاب فى أسيوط من السبعينيات وحتى التسعينيات وقد حاول الرئيس السادات تشويه صورته أمام الشعب القبطى بعد اعتقال البابا شنودة ونشر شائعات مفادها أن الأنبا ميخائيل يسعى لرئاسة الكنيسة القبطية، عاصر نيافته صعود التيارات الإرهابية السياسية وهو من تنبأ بسقوطهم المدوى قبل أحداث 30 / 6 بأكثر من شهرين وقال إن الشيطان وجنوده سيسقطون خلال أيام ودون رجعة.
أدرك نيافة الأنبا ميخائيل من البداية أن مهمة الراعى هى الخدمة، أى أنه جاء ليخدم لا ليخدمه الناس، لم يغره بريق الكرسى ووجاهة المنصب، ولم تفسده السلطة الدينية، كان أمينا وصارما على نفسه، ليس له شلة ولا يميز بين أبنائه ولهذا صار أبا لمئات الآلاف حول العالم وليست له طلبات خاصة ولا يحابى الوجوه ولا يخشى إلا ملك الملوك.. لم يسع يوما إلى جمع التبرعات أو استجداء أغنياء الخارج أو استغلال حاجة الفقراء للمتاجرة بهمومهم وجمع المال على معاناتهم، فلقد فضل الخدمة والرعاية عن الانشغال بالسلطة.
برحيل مثلث الرحمات نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط تفقد الكنيسة القبطية عمادا كبيرا وضخما من أعمدتها.. «سلاما لروحك الطاهرة يا أبانا ستظل دائما تحيا فى وجداننا وعمق قلوبنا أحببت الجميع فأحبك الجميع».. أرقد بسلام.∎







