الإثنين 6 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

الكنيسة و الدولة 4.. أول مسئول كنسى فى العالم يحمل هذا اللقب

ياروكلاس.. بطريرك أحبه الأقباط وأطلقوا عليه لقب «بابا»

بطاركة الكنيسة القبطية



118 بطريركًا تعاقبوا على كرسى مار مرقس منذ بداية النصف الثانى من القرن الأول الميلادى، وهو تاريخ دخول المسيحية مصر وحتى الآن، بداية من القديس مرقس الرسول إلى قداسة البابا تواضروس الثانى الذى يحمل الرقم 118، وخلال 20 قرنًا تقريبًا ارتبط هؤلاء البطاركة بالدولة والمجتمع المصرى، عبروا عنه وحملوا همومه.

فى هذه السلسلة نقدم نبذة سريعة عن بطاركة الكنيسة القبطية للتعريف بهم وبدورهم ورسالة كل منهم.

 

بعد رحيل البابا ديمتريوس الكرام، البطريرك الثانى عشر على كرسى مارمرقس الرسول، جاءت بعده شخصية حفرت فى ذاكرة الكنيسة القبطية وكان من عمق تأثيرها فى نفوس الأقباط أن أطلقوا عليها لقب « بابا» ليكون أول بطريرك يحمل لقب «البابا»، إنه البطريرك ياروكلاس البطريرك الـ13، وهو من مواليد الإسكندرية، وكان أبويه وثنيين ثم صارا مسيحيين وأدخلاه المدرسة اللاهوتية ليدرس العلوم.

تتلمذ هو وأخوه للعلامة أوريجينوس، على الرغم من أنه كان يكبره فى السن حيث درس الأفلاطونية الحديثة قبله على يدى أمونيوس السقاس، فقد جاء فى إحدى شذرات رسالة لأوريجينوس: «وقابلت الأخير (هيراقلاس) فى بيت مدرس العلوم الفلسفية، إذ كان قد درس لمدة خمسة أعوام قبل أن أبدأ أنا فى حضور هذه المحاضرات. 

فى ذلك الوقت كان هيراقلاس قد زهد الملابس العادية التى كان يلبسها قبلًا، وارتدى زى الفلاسفة، والذى مازال يلبسه حتى اليوم، مستمرًا فى دراسة كتب اليونانيين قدر الاستطاعة».

أُعجب به أوريجينوس لشدة شغفه وتحصيله للعلم إلى درجة كبيرة.

ونظرًا لأن أوريجينوس كان ذائع الصيت ودائرة اهتمامه بالمدرسة اللاهوتية فى زيادة مطردة واتسعت خدمته إلى أبعد مدى يمكن الوصول إليه وجد أن خير من يعاونه على نشر الإيمان هو ياروكلاس. حيث وصفه المؤرخ يوسابيوس قائلا «وكرس حياته لدراسة الكتاب المقدس، هو أحد الرجال المتعلمين العظماء لا يجهل الفلسفة».

لم يكد أوريجينوس ينجح فى عمله حتى قبض أكويلا والى مصر بأمر كاراكلا قيصر وعلى خمسة من تلاميذه، وبعد أن عُذِّبوا عذابًا شديدًا حكم عليهم بالموت السريع لأنهم رفضوا أن ينكروا إيمانهم. وكان ياروكلاس من بينهم إلا أن أوريجينوس نجح فى تهريبه.

وبعد رحيل أوريجينوس إلى قيصرية فلسطين وتركه للمدرسة اللاهوتية أقام البابا ديمتريوس ياروكلاس رئيسًا بدلًا منه، وهناك اكتشف إمكانياته الروحية فى الكرازة وقدرته على تعليم الموعوظين وإرشاد المؤمنين فرسمه قسًا فقمصًا، وسمح له أن يعظ فى الكاتدرائية. 

ولأنه كان يمتلك من المواهب والإمكانيات الإنسانية فقد تمكّن من التأثير المباشر العميق فى النفوس، واكتسب عددًا ليس بقليل من الوثنيين وأدخلهم إلى المسيحية بقوة وعمق، كما أظهر حبًا فائقًا فى خدمته للمؤمنين.

وفى عام 224م. اُختير خليفة للبابا ديمتريوس وعمل على رد الكثيرين وإعداد الداخلين فى المسيحية، وقد كرس تعبه وجهوده على التعليم والوعظ وإرشاد المخالفين.

مواجهة الاضطهاد:

لفترة باباويته أهميتها الخاصة، فقد احتمل الاضطهاد الذى أثاره الإمبراطور مكسيموس.

اكتشف هذا الإمبراطور مؤامرة محكمة تستهدف قتله، فأوهمه المقربون إليه من رجال القصر بأن المسيحيين هم المحرّضون للتآمر عليه وقتله، فصدق هذه الوشاية ولم يهدأ باله إلا بإثارة اضطهاد مروع ضد المسيحيين، ولم ينج الكهنة من هذا الاضطهاد بل كان لهم النصيب الأوفر منه.

خاف الناس عليه وألحوا عليه أن يهرب من هذا الاضطهاد ويختبئ، فلم يوافق البابا فى بادئ الأمر، ولكنه بعد إلحاحٍ شديدٍ وافقهم على رغبتهم وترك الإسكندرية.

وبعدما هدأت موجة الاضطهاد العنيفة قام البابا ياروكلاس برحلة رعوية، يتفقد المدن والقرى فى أنحاء البلاد يسند المؤمنين.

 وكان لهذا الأمر تأثيره عليهم خاصة الذين احتملوا الاضطهادات المريرة.

 ونظرًا لزيادة المسيحيين، قام بسيامة عشرين أسقفًا فى أماكن متنوعة من البلاد.

ولأنه كان محبوبًا جدًا أراد الناس مع الكهنة فى مصر، أن يميّزوه عن بقية الأساقفة فدعوه بالقبطية papa «بابا» التى تعنى «أب».  هكذا يُعتبر أول مسئول كنسى فى العالم المسيحى يحمل هذا اللقب.

ويلاحظ أن لقب بابا قد امتد من الإسكندرية إلى قرطاجنة قبل روما، ومن ثم امتد هذا اللقب إلى روما فى القرن الخامس.

 ويذكر التاريخ أن البابا ياروكلاس عند رجوعه إلى مقر كرسيه  بالإسكندرية، أرسل إلى العلامة أوريجينوس خطابًا، يرفع عنه الحرم الذى وقّعه عليه البابا ديمتريوس، ويرجو منه أن يعود للإسكندرية ليعاود فيه نشاطه وخدمته الروحية والفكرية، إلا أن أوريجينوس اعتذر مشيرًا إلى أن مدرسة الإسكندرية قد ذاع صيتها، واستقرت أوضاعها، وكثر عدد أساتذتها العظماء، بينما المدرسة اللاهوتية التى افتتحها فى قيصرية فلسطين لا تزال فى بداية مهدها، وتحتاج لمزيد من الرعاية، ولهذا يفضل الانتظار والبقاء حيث هو على أن يرجع إلى الإسكندرية. فاقتنع البابا ياروكلاس بهذا المنطق وعيّن لرئاسة المدرسة أحد شمامسته المجتهدين يدعى ديونيسيوس، كما وكّل إليه أمر القضاء فيما يعرض للمسيحيين من مشاكل.

استطاع بابا الإسكندرية الـ 13 أن يجتذب الكثير من الأجانب وليس المصريين فقط، فقد زاره المؤرخ الرحالة الليبى المشهور يوليوس أفريقيانوس، الذى كتب تاريخ العالم منذ الخليقة حتى عام 221م، وآمن على يديه بالمسيحية.

وبعد حياة حافلة عمل فيها على ترسيخ الكرسى السكندرى توفى البابا ياروكلاس، بعد أن مكث على كرسى مارمرقس ستة عشر عامًا ليخلفه البابا ديونيسيوس، ليكون البابا الرابع عشر من بطاركة الكنيسة المصرية، وكان طريقه مليئًا بالجهاد، ولذلك لقبه البابا أثناسيوس بـ«معلم الكنيسة الجامعة»، كما دُعى «البابا ديونيسيوس الكبير» بسبب ما عاناه من ضيقات محتملًا ذلك فى شجاعة وثبات، ولغيرته على الكنيسة، لا على المستوى المحلى فحسب بل على مستوى الإيبارشيات الأخرى.

 ولد ديونيسيوس بالإسكندرية مع نهاية القرن الثانى حوالى عام 190م، من أبوين وثنيين، وكان من مذهب الصائبة يعبد الكواكب، محبًا للقراءة، يعمل كطبيبٍ ناجحٍ.

قادته قراءته المستمرة إلى قبول الإيمان المسيحى، وذلك بعد أن قرأ بعض كتابات الرسول بولس تريد ودرسها، فأُعجب بها جدًا وحسبها أفضل ما قرأه من كتب الفلاسفة وكانت رغبته فى قراءة كل ما كتبه بولس الرسول سببًا فى ذهابه إلى الكنيسة ليلتقى بشماس يدعى أوغسطين، الذى دفع له رسائل بولس الرسول كاملة، فقرأها وقبل الإيمان المسيحى، ثم التحق بالمدرسة اللاهوتية، حيث تتلمذ على يدى العلامة أوريجينوس.

خلف ديونيسيوس هيراقليس فى رئاسة المدرسة لحوالى 16 أو 17 عامًا، كما خلفه أيضًا فى البابوية.

اعتاد البابا ديونيسيوس أن يقرأ، حيث أهلته قراءاته المكثفة فى كتب الهراطقة على مهاجمتهم من خلال أعمالهم.

وفى عام 247م، اُختير بابا للإسكندرية، حيث كانت رسالته صعبة ألا وهى الحفاظ على الكنيسة وسط موجات مستمرة من الاضطهادات، ولذلك قام بتسجيل لمسات سريعة لشهداء الإسكندرية فى ذلك الوقت فى رسالته إلى دومثيوس وديديموس، ورسالته إلى فابيوس أسقف إنطاكية.

 قبض عليه الجند مع من كانوا معه وأرسلوه إلى السجن، لكن استطاع أحد الشمامسة أن يفلت من أيديهم وأخبر الأقباط بما حلّ بالبابا، وإذ سمع الحاضرون انطلق الكل إلى السجن، فهرب الجند تاركين الأبواب مفتوحة. 

وإذ دخلوا السجن وجدوا البابا نائمًا، وطلبوا منه مغادرة السجن فرفض حتى اضطروا أن يحملوه من يديه ورجليه ويدفعونه دفعًا، فذهب معهم إلى داره.

لن تكون هذه هى المرة الوحيدة التى واجه فيها البابا ديونيسيوس الاضطهاد، ففى عام 257م استدعاه الوالى إميلينوس وطلب منه أن يترك عمله فرفض، فقام الوالى بنفيه إلى قرية صحراوية تسمى خفرو، وهناك استطاع أن ينشر المسيحية بين الوثنيين بالرغم مما عاناه من اضطهادات، فاضطر الوالى أن ينفيه إلى صحراء ليبيا.

وهناك لم يقف عمله هناك على عقد اجتماعات، والكرازة بالمسيحية بين الوثنيين، بل كان يتابع كنيسته بالإسكندرية (بالرسائل) ليحفظ الخدمة.

حدثت أيضًا اضطرابات جديدة، إذ هوجمت مدينة الإسكندرية من الجنوب بواسطة قبائل بربرية.

وشهدت فترة حبريته مصر حرب مدنية بين والى مصر والإمبراطور الرومانى وذلك عندما أعلن الوالى إميلينوس فى الإسكندرية نفسه إمبراطورًا والتى انتهت بأسره بواسطة القائد الرومانى ثيؤدوتيوس الذى أرسله مقيدًا إلى روما.

وخلال هذه الحرب دُمرت المدينة، وحلّت مجاعة، وانتشرت الأوبئة وهى الأمور التى وصفها وتحدث عنها البابا ديونيسيوس فى رسالته الفصحية الدورية عام 263م. 

قائلا: «قد يبدو أن الوقت غير مناسب للعيد، فنحن لا نرى إلا الدموع، الكل ينوح، والعويل يسمع كل يوم فى المدينة بسبب كثرة الموتى».

وبذلك كانت بداية أول المواقف الوطنية للكنيسة المصرية، وهو النهج الذى تسير عليه منذ نشأتها، حيث تقوم بواجبها تجاه كل المصريين على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم.

ولم تكتف الكنيسة فى ذلك الوقت بعدم الاحتفال بالعيد، حيث تحدث البابا ديونيسيوس فى رسالته عن قيام الأقباط بواجبهم المجتمعى تجاه المصريين جميعًا على الرغم من الاضطهادات التى عانوها فيقول «كان أكثر الإخوة أسخياء جدًا فى محبتهم الزائدة وعطفهم، فازدادت رابطتهم مع بعضهم البعض، فكانوا يتفقدون المرضى بغير تخوّف، ويخدمونهم بصفة مستمرة يخدمونهم فى المسيح، أما الوثنيون فكانوا ينفرون من المرضى ويطرحونهم فى الشوارع بين أموات وأحياء!»

اشتهر البابا ديونيسيوس أيضًا بحكمته واعتداله مما جعل الكثير من البطاركة خارج مصر يلجأون إليه لحل الكثير من الصراعات التى يواجهونها، مثلما ما حدث فى عهده فى كرسى روما، والذى شهد انقسامًا كبيرًا إلا أن البابا ديونيسيوس استطاع أن ينهيه.

كان للبابا ديونيسيوس كتب كثيرة لكن للأسف لم يبقَ منها إلا شذرات حُفظت خلال كتابات يوسابيوس وأثناسيوس وغيرها، وهو ما وصفها المؤروخون بإنها إحدى الخسائر العظمى التى لحقت بالتاريخ الكنسى».

وفى عام 264م رحل البابا ديونيسيوس عن هذا العالم بعد أن أقام على الكرسى الرسولى 17 سنة، واجه فيها العديد من الهرطقات والاضطهادات بحكمة شديدة اشتهر بها فى عصره.

لم يكن البابا ديونيسيوس هو البطريرك الأخير الذى شهدت الكنيسة فى أيامه اضطهادات كبيرة ومكائد كثيرة، إلا أن بطاركة الكنيسة سجلوا أمورًا كثيرة نشهد فيها على وطنية الكنيسة القبطية على مر تاريخها وهو ما سنراه ونرويه فى حلقاتنا القادمة.