سيناء ليست بوابة بل هى الهدف: طريق حورس.. مجد مصر من تحتمس الثالث إلى الجمهورية الجديدة

إيهاب عمر
يخطئ من يظن أن استهداف الغرب لسيناء المصرية يأتى انطلاقًا من دعمه للمشروع الصهيونى، وديباجاته الدينية التلمودية التوراتية، ففى واقع الأمر العكس هو الصحيح، أن استهداف الغرب لسيناء على وجه التحديد هو ما جعل الغرب يقوم بابتكار وتفصيل المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ومشروع إسرائيل من أجل تعطيل الدور التاريخى لسيناء فى مسيرة الدولة المصرية، أقدم دولة فى التاريخ وأول أمة فى التاريخ.
والحاصل أن الأهمية الحربية والاستراتيجية والجيوسياسية لسيناء أكبر بكثير من جملة «البوابة الشرقية لمصر»، بل قل كانت بوابة النصر أو الهزيمة، الكبرياء أو الانكسار، الإمبراطورية أو الاضمحلال.
عقب قيام الملك أحمس بطرد الهكسوس من مصر، أدرك قادة الجيش المصرى، أول وأقدم مؤسسة عسكرية فى التاريخ والعالم، أن العدو دائمًا ما يأتى من الشرق فى ذلك الزمان، وهكذا بحلول عام 1500 ق.م شيدت الدولة المصرية طريق حورس الحربى فى سيناء، يمر بما يعرف اليوم بشرق قناة السويس والقنطرة غرب والعريش ورفح ويدخل قطاع غزة ومنها لسوريا وفلسطين ولبنان وصولا للأناضول، التى تعتبر اليوم الجزء الأعظم من جمهورية تركيا.
طريق حورس ضم 11 قلعة حربية إضافة إلى عشرات الآبار والاستراحات والمعسكرات، وذلك لصد غارات بدو آسيا، وشعوب البحر، والمستعمرين القادمون من الامبراطوريات الوليدة فى بلاد ما بين النهرين وما بعد النهرين.
الجيش المصرى سلك طريق حورس حينما ذهب إلى سوريا ولبنان وفلسطين فى زمن الملك رمسيس الأول والثانى والثالث، فى زمن الملك أمنحتب الثانى وابنه تحتمس الرابع، فى زمن الملك سيتى الأول وحور محب.
الجيش المصرى سلك طريق حورس فى طريقه إلى الأناضول أو تركيا اليوم، عابرًا الشام من جنوبه لشماله فى زمن الملك تحتمس الأول والثالث.
الملك رمسيس الثانى فاتح سوريا، والملك تحتمس الثالث فاتح الشام والأناضول، مروا من سيناء.
الملك رمسيس الثالث فاتح الأردن وفاتح شمال الجزيرة العربية، مر بجيشه من سيناء عبر طريق حورس. طريق حورس هو الطريق الذى سلكه الجيش المصرى فى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبى لحرب حطين ضد الصليبين، هو الطريق الذى سلكه الجيش المصرى فى زمن السلاطين قطز وبيبرس وقلاوون لمعركة عين جالوت ضد المغول ثم كافة حروب مصر لتصفية التواجد الصليبى والمغولى فى الشام والأناضول.
طريق حورس هو طريق إبراهيم باشا فى مساره لسوريا ولبنان وفلسطين وقلب الدولة العثمانية.. بل إن مسار طريق حورس هو الذى سلكه الجيش المصرى عام 1948 لخوض حرب فلسطين.
منذ عصر قدماء المصريين، ثم الفاطميين والأيوبيين والمماليك ومحمد على والعصر الملكى والجمهورى اتخذت من طريق حورس أو طريق سيناء محطة للدفاع عن أمنها القومى فى الشام والأناضول، أو ما يعرف بالهلال الخصيب.
منذ عام 1500 قبل الميلاد وحتى 1948 ميلاديًا، كان طريق حورس هو الجيش المصرى لردع العدو فى بلاد المشرق.
والعكس صحيح، ضعف مصر عن السيطرة على سيناء، جاء من الشرق ومر على سيناء الهكسوس والآشوريون والفرس والسلوقيون والعرب والمسلمون والعباسيون والصليبون والعثمانيون والصهاينة.
منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام فى أواخر القرن الثامن عشر، اتخذ الغرب قرارًا استراتيجيًا مفاده أن مصر يجب أن تخسر طريق «حورس». بمعنى آخر، كان المطلوب أن تفقد مصر قدرتها التاريخية على التمدد شمالًا نحو الهلال الخصيب أى الشام والأناضول أو ما يعرف اليوم بـ سوريا وتركيا وفلسطين ولبنان والأردن.
كان الهدف أن يُقام كيان وظيفى أو أكثر فى بلاد الشام تكون مهمته تصدير الأزمات إلى مصر، ومنع أى مدّ مصرى فى اتجاه سوريا والأناضول. لم يكن هذا حبًا فى سوريا أو تركيا، وإنما لأن وصول مصر إلى الأناضول يعنى أن تصبح لها حدود مباشرة مع أوروبا، وهو أمر كان ولا يزال مرفوضًا تمامًا من قبل القوى الغربية.
ولذلك، فإن معظم المؤامرات الغربية على الشرق الأوسط ومصر خلال القرن العشرين، كان يتم تمريرها عبر إسرائيل، ويتم إعلانها على لسانها كما لو كانت أهدافًا صهيونية بحتة، فى حين أن حقيقتها أنها أهداف استعمارية غربية محضة.
الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة تمثل فى فكرة تهجير سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء، كتمهيد لفصل سيناء عن مصر. هذه الفكرة، وعلى عكس غيرها، لم تعلنها إسرائيل بل أعلنتها دولة غربية، فى سابقة وحيدة.
فى عام 1953، أطلق وزير الخارجية الأمريكى آنذاك، جون فوستر دالاس، الشرارة الأولى لهذه الفكرة، وعرضها على النظام المصرى الجديد بقيادة الرئيس الشاب حينها جمال عبد الناصر. رفضت القاهرة الفكرة بشكل قاطع، ومع ذلك اندلعت انتفاضة شعبية فلسطينية فى غزة عام 1955.
وعندما احتلت إسرائيل كلًا من غزة وسيناء فى يونيو 1967، حاولت تنفيذ خطة التهجير فى عام 1971، لكن الخطة فشلت أمام صمود أهل سيناء. ورغم ذلك، قررت إسرائيل التريث لبضع سنوات لضرب ضربتها الكبرى، إلا أن الجيش المصرى كان له السبق، ووجه ضربته الأشد فى السادس من أكتوبر عام 1973، والتى أسفرت عن استعادة سيناء كاملة إلى السيادة المصرية.
وخلال مفاوضات كامب ديفيد، رفض الرئيس الشهيد محمد أنور السادات هذه الفكرة رفضًا تامًا فى الكواليس. أما الرئيس محمد حسنى مبارك، فقد تم عرض الفكرة عليه أربع مرات، أولها من رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، وآخرها فى عام 2010 من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وقد رفضها فى كل مرة.
وفى عام 2025، ردت وزارة الخارجية المصرية على مقترحات إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مؤكدة أن القاهرة تلقت عروضًا متكررة تتعلق بتهجير سكان غزة إلى سيناء، ورفضتها جميعًا منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» فى 7 أكتوبر 2023. ورغم أن البيانات المصرية لم تذكر عدد هذه العروض بالتحديد، إلا أن بعض الصحف الغربية كشف أن زيارة المستشار الألمانى أولاف شولتس لمصر عقب اندلاع الحرب كانت تهدف إلى تقديم عرض اقتصادى واستثمارى سخى مقابل قبول مصر بالخطة، إلا أن الرد المصرى كان صارمًا وحازمًا فى رفضه.
أما قبل عام 2023، فقد اعتمدت إسرائيل تكتيكًا مختلفًا. ففى عام 2005، أعلنت انسحابها من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية هناك، وذلك على وقع «اتفاق شرم الشيخ» الذى مثّل لحظة انتصار للانتفاضة الفلسطينية الثانية. إلا أن الحقيقة كانت أن الولايات المتحدة كلّفت إسرائيل بالانسحاب من غزة بغرض تحويلها إلى عبء أمنى على مصر، من خلال حقنها بالجماعات التكفيرية، وتسخين أهلها تجاه المصريين. وكانت النتيجة إنشاء خط إرهابى مفتوح عبر الأنفاق من عام 2005 وحتى انطلاق العملية الشاملة «سيناء» التى نجحت فى تطهير شبه الجزيرة تمامًا بحلول عام 2019.
وقد كان المخطط رهيبًا: أن تمر سيناء بعدة مراحل من المؤامرة، تبدأ بسيطرة الجماعات التكفيرية على جزء من أراضيها لتُعلن «إمارة سيناء الإسلامية»، ومنها تُطلق عدة صواريخ رمزية على تل أبيب – من تلك التى لا تُسقط حتى عمود إنارة – فتعلن إسرائيل أنها ستتدخل فى سيناء بذريعة الدفاع عن أمنها بعدما تكون مصر قد فقدت السيطرة على سيناء. وخلال هذا التدخل الإسرائيلى، تجتاح القوات الإسرائيلية غزة أيضًا، وتدفع بسكانها نحو سيناء.
وينتهى المطاف بسيناء خارجة عن السيادة المصرية، مقسمة إلى ثلاث مناطق: منطقة خاضعة لحكم تكفيرى تمثل «الإمارة الإسلامية»، ومنطقة أخرى تُخصص لسكان غزة لتصبح هى «دولة فلسطين»، ومنطقة ثالثة تحت الاحتلال الإسرائيلى المباشر كممر أمنى عازل لحماية إسرائيل.
ومن اللافت للنظر أن الفترة الممتدة من 2014 إلى 2021 شهدت غيابًا شبه تام للحروب فى قطاع غزة، إلا أن هذه الحروب عادت بمجرد أن نجحت مصر فى القضاء التام على الإرهاب القادم من غزة فى عام 2019. الثابت أن الهدف لم يتغير منذ أواخر القرن الثامن عشر: فصل سيناء عن مصر، وتفكيك طريق «حورس»، وإنشاء كيانات وظيفية حول الدولة المصرية لتطويقها ومنعها من التوسع خارج حدودها الجغرافية. فى هذا السياق، فإن كلًا من اليهودية السياسية والإسلام السياسى ليسا سوى وجهين لعملة واحدة صُنعت فى بريطانيا، أدوات وظيفية فى يد الغرب لتنفيذ هذا المخطط. لم يكونوا يومًا حلفاء أو شركاء للغرب، بل أتباع، بلا مشروع حقيقى، بل مشروعهم الوحيد هو القيام بدورهم الوظيفى.
سيناء وسوريا وتركيا تمثل مثلث الأمن القومى المصرى منذ 3500 عام. وكلما أراد أحدهم لمصر أن تنسى طريقها نحو الشام والأناضول وأوروبا، كانت الذاكرة المصرية أقوى من كل المؤامرات، وكان الحضور المصرى فى سيناء أقوى من كل محاولات التغييب.
وكما حافظ عظماء مصر، من رمسيس الثانى وتحتمس الثالث وحتى أنور السادات، على سيناء وجعلوها ممرًا للمجد والخلود فى تاريخ العسكرية المصرية، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى، من خلال تطهير سيناء من الإرهاب، وحمايتها من التهجير، وبدء مشروع إعمارها وتحويلها إلى منصة زراعية وصناعية كبرى، قد نجح فى تأمين موقعه فى الذاكرة الوطنية الخالدة لمصر.