السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«ست» بـ 1000 راجل

«ست» بـ 1000 راجل
«ست» بـ 1000 راجل


 كنت فى طريقى من مدينة جيرسى سيتى إلى مدينة منهاتن بنيويورك حين شاهدتها لأول مرة.. لاشك أنها شدت انتباهى من الوهلة الأولى حين ركبت معها الأتوبيس.. سيدة عربية محجبة تقود أتوبيسا لنقل الركاب فى نيويورك.. مشهد لم نعتده فى بلادنا.. ربما كان عاديا لو كانت من تسوق الأتوبيس إسبانية أو أمريكية.. ولكن أن تكون عربية ومحجبة فحقا هو مشهد جديد..
 
 تملكتنى رغبة أن أتحدث معها فهى امرأة مختلفة بلا شك.. أخبرتها أننى صحفية وطلبت منها رقم تليفونها.. وبدا من لهجتها أنها مصرية وربما تنتمى لإحدى قرى الوجه البحرى فلكنتها تشى بذلك.. ظللت طوال الطريق أراقب كيف تتعامل مع الركاب من مختلف الجنسيات والأعمار.. كيف تنظر أمامها بتركيز تتابع الطريق والسيارات وتحترم الإشارات وكيف تلتفت خلفها من حين لآخر فى اتجاه الركاب وترقب تحركاتهم وسلوكياتهم.. وكيف تتلقى الأجرة بتركيز وتعرف من دفع ومن يحاول أن يتهرب.. فكانت تجمع بين الحسم والرقة فى التعامل وتقود الأتوبيس بثبات وثقة.
 
وحين تحدثت مع السائقة المتميزة.. أيقنت أنها ليست مجرد سائقة أتوبيس ولكنها قصة كفاح ونجاح وإصرار امرأة عربية فى المهجر.
 
اسمها سمية القرمانى من قرية الولجة مركز منيا القمح.. كانت تعمل كموظفة بإدارة التموين بمحافظة الشرقية.. تزوجت وعمرها 18 عاما بعد حصولها على دبلوم الثانوى التجارى وزوجها يعمل بالإدارة المحلية بنفس المحافظة.. ومثلهما مثل كل الموظفين المصريين لم تكن رواتبهما الصغيرة تكفى احتياجات البيت والأبناء.
 
وفى أحد الأيام كانت متواجدة بالصدفة فى بيت أخيها وأخبرها أنه سيقدم فى القرعة العشوائية لأمريكا.. وقد اعتاد أن يتقدم لها كل عام ربما يحالفه الحظ ويفوز.. فطلبت منه سمية أن يقدم لها معه.
 
 
 
وفازت فى القرعة من المرة الأولى بينما لم يفز أخوها!!
 
اقترحت أن يسافر زوجها قبلها ليمهد الأمور ويبحث عن عمل ومسكن وخاصة أنهما كان لديهما طفلان فى ذلك الوقت.. وسافر بعد أن دبرت له ثمن تذكرة الطيران.. وظل أربعة شهور بلا عمل يقيم فى سكن مشترك مع أصدقائه وأرسل إليها يخبرها أن تنسى موضوع السفر، فالحياة فى أمريكا من أصعب ما يكون.
 
لكنها لم تمتثل لرأى زوجها وقررت أن تسافر وتخوض التجربة وتبحث عن عمل بنفسها.
 
وحين وصلت برفقة ولديها إلى مطار نيويورك - أحمد 9 سنوات وأسامة 5 سنوات - وجدت زوجها وصديقه فى استقبالهم.. وقام صديق زوجها بتوصيلهم إلى مدينة جيرسى سيتى بولاية نيوجيرسى والتى يسكنها أعداد كبيرة من المصريين حتى أنهم يطلقون عليها (شبرا أمريكا).. وكان يمتلك محل بيتزا هناك.. فدعاهم للعشاء فى مطعمه وقدم لهما ولطفليهما البيتزا.. وانتهت مهمة الرجل عند هذا الحد.. وخرجت سمية لتواجه الحياة والمجتمع الجديد بمفردها.. حيث لم يكن لديها أى مكان تقيم به فلم يستطع زوجها تدبير مسكن قبل وصول زوجته وأبنائه.. ومازالت تتذكر اليوم الذى وصلت فيه وكان أول يوم شهر رمضان وكانت تقف فى الشارع يلفها القلق والحزن وبجوارها أبناؤها وزوجها وحقائب السفر ولاتعرف أين تذهب وماذا تفعل؟.. ظلت على هذا الحال لساعات لا تدرى عددها حتى لمحتهم سيدة عجوز كانت تطل بالصدفة من شرفتها.. يبدو أنها أشفقت عليهم وأدركت من مشهد حقائب السفر التى بجوارهم أنهم يبحثون عن مكان للمبيت.
 
نادتهم السيدة ولكنهم لا يفهمون اللغة الإنجليزية وفى هذه اللحظة ظهر شخص كان فى طريقه لدخول البيت الذى تطل منه السيدة.. واتضح أنه مصرى ويسكن بالدور الأرضى فى نفس البيت.. فأخبرهم أن السيدة تسألهم لو كانوا يريدون سكناً فليصعدوا إلى شقتها.. فصعدوا فى لهفة وفرحة.. وكانت السيدة أمريكية وتسكن بمفردها فى شقة من غرفتين وصالة.. وأخبرتهم أنها ستعطيهم حجرة مقابل اقتسام الإيجار معها وقيمته 600 دولار وعليهم أن يدفعوا 300 دولار وافقت سمية على الفور ودخلت هى وزوجها وأبناؤها والحقائب إلى الغرفة التى كانت على البلاط بلا أى أثاث.. لكنها كانت سعيدة بها.. وألقت بجسدها المنهك على الأرض بعد رحلة طيران شاقة استمرت 12 ساعة ونامت نوما عميقا.
 
واستيقظت فى الصباح الباكر حيث كانت صائمة ثانى يوم شهر رمضان وتركت أبناءها مع زوجها وقررت أن تخرج للبحث عن عمل.. ووقفت سمية فى الشارع تترقب السائرين فى الشارع وتنتظر أن تلمح أى شخص يتحدث العربية لتسأله وبالفعل أشار عليها أحد المصريين بالذهاب للمسجد ووصفه لها وأخبرها أن هناك ستجد من يساعدها.. وذهبت إلى المسجد وهناك قابلت سيدة أخبرتها أنه يوجد فرصة عمل فى مخبز يقوم بعمل الكعك والبسكويت استعدادا لعيد الفطر، وبالفعل استلمت سمية عملها بالمخبز بعد أسبوع واحد من وصولها أمريكا وكان أجرها 5 دولارات فى الساعة عام 2000 وظلت تعمل فى المخبز 5 سنوات متواصلة حوالى 15 ساعة يوميا وفى نفس الوقت كانت تذهب لمدرسة ليلية لتعلم اللغة الإنجليزية من الساعة السادسة مساء وحتى التاسعة مساء ثلاثة أيام فى الأسبوع، وفى هذه الفترة أدخلت ولديها أحمد وأسامة المدرسة وأنجبت طفلين آخرين رحمة وحسن فصار لديها أربعة أبناء.. ولكنها بدأت تفكر فى ترك هذا العمل وخاصة بعد أن ألقى صاحب المخبز بالمسئولية كاملة عليها وصارت تقوم بالعجن والتقطيع والخبز بمفردها فشعرت أن ذراعيها وظهرها وجسدها يؤلمونها.. فتركت المخبز.
 
ورغم مرور عشر سنوات على وجودها مع زوجها فى أمريكا فإن الخلافات بينهما لاتهدأ حيث كان زوجها يتقاعس عن العمل ويرفض أن ينفق على البيت أو حتى المشاركة فى النفقات.. وفى يوم أخبرها الزوج أنه ذاهب لزيارة أحد أصدقائه ولكنه خرج ولم يعد.. وظلت الزوجة الحائرة تبحث عنه فى كل مكان لمدة شهرين واتصلت بأهله وأقاربه فى مصر فأنكروا وجوده حتى إنها بحثت عنه فى المستشفيات.. إلى أن هداها تفكيرها أن تسأل عنه فى شركات السياحة وأخبرت الموظف المسئول أنها تبحث عن ابنها لتستدر تعاطفهم ويوافقوا أن يبحثوا عنه فى قوائم المسافرين.. وعثرت على اسمه بالفعل لقد قام بحجز تذكرة من ثلاثة أسابيع وسافر إلى مصر.
 
وبعد ذلك حدثها فى التليفون وأخبرها أنه تزوج فى مصر ولن يعود مرة أخرى.
كانت صدمة كبيرة لها ولأبنائها الذين خذلهم أبوهم.. وصارت سمية بين ليلة وضحاها مسئولة عن أربع أبناء بمفردها مسئولة عن إيجار وطعام ومدارس وملبس وحياة.. حاولت أن تصمد فى مواجهة أزمتها بعد هروب زوجها وترك حمل ثقيل على كاهلها.. كانت تحاول أن تبدو صلبة قوية متفائلة أمام أبنائها فى حين كانت تنهار حين تختلى بنفسها وتدعو الله أن يمنحها القوة والصبر ويفتح لها أبواب الرزق من حيث لا تحتسب.
 
ظلت تبحث عن عمل إلى أن عملت كمرافقة لسيدة مريضة، حيث كانت تقوم برعايتها وتعطيها الدواء فى مواعيده وتلبى كل احتياجاتها بحب وعطف لمدة ثلاث سنوات متواصلة حتى إن السيدة تعلقت بها جدا كما أحبت سمية السيدة المريضة كأنها والدتها.. وتوفيت السيدة واضطرت سمية أن تبحث عن عمل آخر فعملت كبائعة فى بعض المحلات لكنها لم تشعر بالاستقرار فى هذا العمل.. وحين سمعت أن مهنة سائقة الأتوبيس ربما توفر حياة كريمة لأبنائها فكرت أن تتجه لها.. لكنها كانت تدرك أن الحصول على رخصة أتوبيس أمر ليس بالسهل أبدا لأنها ستكون مسئولة عن حياة آلاف من البشر يوميا.. وذهبت للحصول على رخصة قيادة الأتوبيس.. لترسب فى الامتحان عدة مرات ولم تيأس فمشهد أبنائها الذى لا يغيب عن عينيها يجعلها تزداد إصرارا ويدفعها إلى تكرار المحاولة حتى أنها دخلت امتحان الرخصة مايقرب من 25 مرة حتى إن الممتحنين حفظوا شكلها ولم يخفوا دهشتهم من إصرار تلك السيدة العربية المحجبة.. وحصلت على الرخصة عام 2007، تعترف أنها كانت خائفة حين قادت الأتوبيس لأول مرة ولكن تبدد الخوف بعد أن مر اليوم الأول بسلام.
 
وكانت تقوم بتأجير الأتوبيس 24 ساعة مقابل 200 دولار يوميا وكان عليها أن تعمل لساعات طويلة لتتمكن من دفع الإيجار وتوفير ما يكفى للإنفاق على أبنائها.. وبعد سنوات قليلة تحولت سمية من مستأجرة للأتوبيس إلى مالكة له حين وجدت أتوبيساً فى ولاية فلوريدا معروضا للبيع على الإنترنت بسعر مغر فسافرت إلى فلوريدا وقابلت صاحبه الأمريكى الذى أعجب بعقلية وجدية السيدة العربية المحجبة.. واشترته كاش.. وبعد ذلك استطاعت سمية امتلاك أتوبيس آخر تقوم بتأجيره.
 
فى البداية عانت سمية من التعامل مع الركاب فكانت تخاف من السكارى ومن الذين يكذبون ويدعون أنهم دفعوا الأجرة ولم يدفعوها.. ولكن بعد ذلك صارت تواجه مثل هذه المواقف وتتعامل مع مثل هؤلاء الركاب بحسم وقوة يجعلهم يهابونها ويلتزمون بقواعد الأتوبيس.. حيث يركب معها يوميا ما يقرب من ألف راكب من مختلف الجنسيات والأعمار.. ومن المواقف التى لا تنساها سمية حين ركبت معها فتاة صغيرة لا يزيد عمرها على 14 عاما وكانت تحمل معها زجاجات خمور وحين طلبت منها أن تنزل وتلقى بهذه الخمور ثم تعود للأتوبيس رفضت الفتاة ولكن سمية أصرت وسألتها كيف تسمح لك والدتك بذلك فأخبرتها الفتاة أن والدتها توفيت.. فطلبت منها سمية أن تعتبرها مثل أمها وتلقى بالخمر.. وبالفعل فعلت الفتاة ما طلبته سمية ثم عادت إلى الأتوبيس تقبل سمية وتحتضنها وبعد ذلك صارت تأتى خصيصا كى تراها.
 
ولا تنس سائقة الأتوبيس.. يوم صعد أحد الركاب إلى الأتوبيس وبعد دقائق قليلة فوجئت بالشخص الذى يجلس جواره يخبرها أن الرجل الذى يجلس بجانبه مريض وفى حالة إغماء وأبلغت سمية الإسعاف التى وصلت خلال دقائق وأخبرتها أنه مات.. تأثرت السائقة كثيرا فكان بصحة جيدة حين ركب الأتوبيس.
 
ورغم أن سمية القرمانى كانت تشعر بالقلق فى البداية من كونها امرأة محجبة تقود أتوبيسا إلا أنها لم تشعر أبدا بالعنصرية التى توقع البعض أنها ستعانى منها وأنها ربما تتعرض للاضطهاد والمضايقات لأنها محجبة وعربية أيضا.. بل ترى أن العكس هو ما يحدث والكثير من الركاب الأمريكان يبدون إعجابهم بها ويطلبون التقاط الصور التذكارية معها وخاصة اليهود منهم.. وسمية المرأة العربية التى اختارت مهنة لا يقبل عليها إلا الرجال فقط فى الجالية العربية تعانى من غيرة زملائها من السائقين المصريين لأنها أثبتت كفاءتها كسائقة وتفوقت عليهم وتربح أكثر منهم.. فيحاربونها فى رزقها ويحاولون دائما إحباطها وإرسال الشكاوى الكيدية ضدها.
 
ورغم أنها تعمل من الساعة الخامسة صباحا وحتى العاشرة مساء فإنها أنها دائما تحاول أن تجد وقتا تلبى فيه احتياجات أبنائها الأربعة حيث إن ابنها الأكبر أحمد طالب متفوق بالسنة الرابعة بكلية الطب ... وابنها أسامة متفوق فى السنة النهائية بالمدرسة الثانوية (الهاى سكول).. أما ابنتها رحمة وعمرها - 8 سنوات فصورتها تتصدر لوحة الشرف. بين أوائل المدرسة.. وعمره 6 سنوات - فى الصف الأول بالمدرسة الابتدائية وهو متعلق جدا بأمه وخاصة أن والده تركه وكان عمره عاما واحدا. وتحضر له ولشقيقته رحمة معلمة تساعدهما فى المذاكرة ثلاثة أيام فى الأسبوع مقابل 120دولارا.
 
وتحرص سمية على تناول الغداء مع أبنائها فتعود إلى البيت فى منتصف اليوم لمدة ساعتين ثم ترجع لعملها مرة أخرى .
 
والمدهش أن سمية التى حققت رحلة نجاح كبيرة كسائقة أتوبيس فى ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية ترفض أن تقود أتوبيسا فى مصر.. لأن المجتمع العربى فى رأيها بتقاليده وعاداته وتدخله فى حياة المرأة سيكون عائقا فى طريقها.