الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
يا صبر دحدوح!

يا صبر دحدوح!

ونحن صغار.. كنا نستمع لقصة نبى الله أيوب عليه السلام، هذا النبى الذى اشتُهر بالصبر على مرضه.  



 كان النبى أيوب رجلًا صالحًا يدعو لعبادة الله وتقياه، ويأمر بالمعروف ويفعل الخير، وكان يتبع ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه، فامتلك الأنعام، والعبيد، والمواشى، والأراضى المتسعة فى أرض حوران فى بلاد الشام. كما ورد فى كتاب البداية والنهاية لمؤلفه الإمام الحافظ أبى الفدا إسماعيل ابن كثير القرشي، المتوفى عام 774 هجريًا.

  نبى الله أيوب كان له أولاد وأهل كثيرون، فسلب من ذلك جميعه، وابتُلى فى جسده بأنواع البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما، وهو فى ذلك كله صابر محتسب ذاكرًا لله عز وجل فى ليله ونهاره، وصباحه ومسائه، فطال مرضه 18 عامًا حتى ابتعد عنه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، التى كانت ترعاه لقديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه، فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته.

هذه القصة كما وردت فى الأثر، كانت لنا على مدار عقود مثالًا على الصبر، ودائمًا ما نردد يا صبر أيوب لكن أن ترى بعينك قصة صبر جديدة خير لك من أن تقرأ وتسمع، جاء لنا وائل الدحدوح الذى أرسله الله لنا لنتعلم الصبر من جديد.. نرى الصبر يقف على قدمين راسخين.. يظهر للعالم كله مدى وحشية الاحتلال الإسرائيلى وجرائمه ضد الإنسانية.

  نحن عاصرنا محمد الدرة والذى وقعت حادثة استشهاده فى حضن أبيه فى الثلاثين من سبتمبر عام 2000 فى اليوم الثانى من انتفاضة الأقصى، تلك الانتفاضة الفلسطينية الثانية التى نتذكرها جميعًا ونتذكر معها الحلم العربى. 

  بعد أكثر من عقدين تراجعت فيها أخبار القضية الفلسطينية، نشأ جيل قد لا يعرف عن القضية شيئا سوى اسمها.. حتى كان طوفان الأقصى الذى أعاد القضية للواجهة مجددًا، ولست أكتب تحليلًا سياسيًا الآن، ولكن أقف أمام هذا المشهد الإنسانى الصعب والمتكرر من استهداف المدنيين ولكن هذه المرة من خلال أسرة الزميل الصحفى المراسل التلفزيونى وائل الدحدوح الذى يقف فى كل مرة بثبات وقوة يقوم بأداء عمله بعد ساعات قليلة جدًا من دفن نجله.

  لمثل آل الدحدوح خلق الصبر، لم يخلق الصبر لنا نحن الذى نضجر بمجرد أن يصيب أجسادنا فيروس إنفلونزا موسمى، أو حتى حين نتوقف عن التدخين فى نهار رمضان!

حين تستمع لسكينته وهو ينعى نجله حمزة يقول بثبات انفعالى «نشهد يارب أن ولدى بكرى حمزة كان من البارين.. وكان شهمًا .. كان كريمًا معطاءً حنونًا».

 ثم يكمل الدحدوح: «أى أحد من الزملاء له شيء عند حمزة فأنا موجود.. إلى رحمة الله.. هذا هو قدرنا، وهذا هو خيارنا.. هذه هى حياتنا على هذه الأرض فى هذه الدنيا الفانية، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا إنا لله وإنا إلية راجعون.. هذا هو خيارنا قبل حمزة وبعد حمزة.. ماضون ومستمرون».

هذا الثبات لم يكن وليد الصدفة.. قبل حوالى شهرين، كان الدحدوح يقدم تغطيته الإخبارية المعتادة على شاشة الجزيرة الإخبارية، حتى جاء نبأ استهداف عائلته على الهواء مباشرة وهو ينقل للعالم ما يجرى فى غزة، وذهب للمستشفى يتساءل عمن تبقى من أسرته وخرج بثبات الرجال قائلًا: المصيبة كبيرة خصوصًا أنها بحق أطفال ونساء، ثم صلى الجنازة فى مستشفى شهداء الأقصى على أسرته التى استُشهد معظم أفرادها، حتى ودعهم فى مقبرة الشهداء.. ودع الدحدوح زوجته وابنه محمود وابنته شام وحفيده أيضًا. 

قد تتساءل عن سر التحمُّل وسر القوة التى يتمتع بها الزميل وائل الدحدوح ولكنه أجاب بنفسه فى مداخلة هاتفية مع الزميل عمرو أديب فى برنامج «الحكاية» أنقل نص كلامه حين قال: هذا هو قدرنا، وإن كان هناك من سر فهو بالرضا والتسليم لقضاء الله وقدره وأمره، نحن مسلمون ومستسلمون بقضاء الله وقدره ويجب أن نضعه على العين والرأس.. ونحن لنا فى الصحافة سنوات طويلة.. وفى منطقة كقطاع غزة نحن مهيأون فى أى لحظة لأن نكون نحن الخبر ونحن الصورة، صحيح فى هذه المرة كانت موجعة ومؤلمة إلى حد لم نتوقعه ولكنه فى نهاية المطاف هو أمر رب العالمين، والله سبحانه وتعالى هو من يمدنا بالصبر.. وما حدث حقيقة تنوء بحمله الجبال ولكن على الصعيد الشخصى أنا مستعد لقضاء الله وقدره وهذه هى كلمة السر الأساسية التى تجعلنا نحزن ونغضب ولكننا فى ذات الوقت مستسملون لقضاء الله نفارق الأحبة وبكل إنسانية وبكل فخر وصمود وعزة .. فنحن لا نعمل فى مهنة عادية بل نحمل واجبًا مهنيًا وواجبًا وطنيًا أيضًا.

وأثناء ما يحكى وائل الدحدوح قصته اعتذر عن استكمال المداخلة الهاتفية لارتباطه بعمله وتغطيته الحية للأحداث فى غزة.. ليعلمنا درسًا جديدًا فى المهنية.. كم نحن صغار بجانبك يا دحدوح.

 كم برهنت فعليا أنها مهنة البحث عن المتاعب حقا.

 يا نبى المراسلين، وشيخ الصحفيين، وقدوة المحررين.. صبرك الله مثل ما صبر نبيه أيوب!