الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بين الوجود والتماهى والتفرد والخلود: تفسير أحلام «عمرو دياب»

«بلادى.. بلادى.. لك حبى وفؤادى».. كانت تلك هى أول كلمات غنّاها الطفل «عمرو»، وهو فى السادسة من عمره، عندما اصطحبه والدُه «عبدالباسط دياب» لمبنى الإذاعة بمدينة بور سعيد، ولسخرية القدر تأتى هذه البداية فى لحظة كانت تحاول فيها مصر الخروج من كبوتها بعد 48 يومًا فقط من تعرضها لواحدة من أعنف نكباتها فى 5 يونيو 1967؛ حيث كانت بداية «عمرو» فى الغناء يوم 23 يوليو من ذات العام؛ لينتبه الطفل غير العادى للأسرة العادية لماهية حلمه، ويبدأ فى محاولة تحقيقه فى الوقت الذى يدرك فيه المصريون ضرورة إعادة بناء أنفسهم وتحقيق أملهم فى النصر.



 

 حلم الوجود

الأحلام ليست متاحة للجميع، والسعى وراء تحقيقها ليس بالأمر الهَيّن. وأول حلم يصاحب أى شاب هو إثبات وجوده، وإن كان ذاك الحلم يتحقق بسهولة فى البيت والمدرسة فإن تحقيقه فى مجال العمل يتطلب إرادة وقوة وصبرًا.. ويتطلب أيضًا نسبة عالية من الذكاء والعمل الجاد كى تتمكن من الوقوف ثابتًا على أرض صلبة، والأهم من كل ما سبق، أن أى حلم فى بدايته لا بُد أن يراهن على درجة احتمالك للصدمات الأولى. وقد كان لدى الشاب «عمرو» كل السمات التى تجعله يعاند كى يصل لهدفه والذى هو «الغناء» فى تلك الأيام.. كان أمامه تحدٍ بألا يكون نسخة طبْق الأصل من مطربى تلك الفترة- نهاية الثمانينيات- والذين جاؤوا ليحاولوا إعادة صورة «عبدالحليم حافظ» إلى الأذهان بعد رحيله بسنين قليلة.. «عمرو» خرج من ذاك القالب الكلاسيكى بسرعة، خلع البذلة الرسمية ورابطة العُنق الخانقة، وارتدى الملابس العصرية التى يرتديها الشباب من أبناء الطبقة المتوسطة- أغلبية المجتمع المصرى فى ذاك الحين.. أدرك أنه من هؤلاء ويجب أن يشبههم، شكلًا فى مظهره ومضمونًا فى نوعية أغانيه.. والأهم أن يشبه المرحلة التى صار يتغير فيها العالم أجمع، إيقاع الحياة أصبح أكثر سرعة، العقول الإلكترونية ومطاعم الوجبات السريعة بدأت تنتشر، الموضات فى الملابس والشعر صارت أكثر بساطة وعملية، الناس لم تعد تحتمل الأغانى الطويلة. كل هذا التقطه «عمرو دياب»، ووضع بناءً عليه خطة وجوده وانتشاره، وبسرعة الصاروخ نجح، أقنع العقول ووصل للقلوب؛ ليكون بمثابة ابن وصديق وحبيب منتظر عند آباء وأبناء وبنات طبقة الأغلبية- الطبقة المتوسطة.

 حلم التماهى

تبدأ التسعينيات ثم الألفية الثالثة، تتوغل مظا هرالحداثة فى الانتشار، تزحف على شوارع ومدن العالم وبطبيعة الحال تتأثر مصر بتلك الحداثة.. إذا أردت أن تستمر فيجب عليك أن تجارى الحالة العامة للشارع المتغير. تجدّد وتطوّر وتمسك بقبضة حديدية على معجبيك الذين صاروا جيليْن. حافظ على صورتك أمامهم كى تستمر مثالًا للشباب وفتى أحلام للفتيات.. غنِّ بلسان حال كل من حولك، وعبّر عن أمنيات أبناء وبنات تلك الفترة، أنتَ الحبيب المخلص النبيل، الذى يريد أن يكونه الرجال وتتمناه النساء.. وفى الوقت ذاته لا تنسَ أن مظهرك جزءٌ من شخصيتك الفنية، أنت الأنيق النظيف، الذى يحوّل أى ملابس مَهما كانت بسيطة ومتواضعة إلى أيقونة موضة. نعم، استطاع «عمرو دياب» أن يخلق مظهرًا من أشياء بسيطة ورخيصة وفى متناول يد الجميع، فيجعل من بنطال چينز رخيص وتى شرت ذى لون واحد وحذاء رياضى وربما يضيف لها مع برودة الشتاء سترة جلدية أو صيديرى.. مَظهر أنيق يقلده الشباب، فيكسب نصف معجبيه. أما النصف الثانى، النصف الحلو، من الفتيات والنساء فقد فاز بقلوبهن لأنه تمكن من فهم «سيكولوچية» المرأة فى الرغبة بالوقوع فى الحب مع شاب، بالتعبير البسيط، لطيف، يقول لها كلمات حب كالتى يقولها فى أغانيه ويتفهم ضعفها وعجزها وقلة حيلتها أحيانًا.

حلم التفرد    

«إنت دانة، عارف يعنى إيه دانة، عادة الصدفة بيبقى فيها أكثر من لؤلؤة، لو فى صدفة فريدة فيها لؤلؤة واحدة، هى دى دانة، إنت دانة».. هذه الكلمات وصفت «سيف» بطل رائعة (آيس كريم فى جليم) للمخرج الكبير «خيرى بشارة»، «سيف» الذى قام بأداء دوره «عمرو دياب» كانت تشبه رحلته كثيرًا رحلة بطلنا.. والوصف الذى جاء عن «سيف» يليق كثيرًا بالبطل الأصلى «عمرو دياب»، فهو فنان ومنذ بدايته، حِرَفيًا، لم ينافس إلا نفسَه. فلا يمكن أن تستمع لأحد يقارن بين «عمرو دياب» وأى مطرب آخر، قديم أو حديث، ولكن طوال الوقت تجد نفسك والآخرين يقارنون بين «عمرو دياب» و«عمرو دياب»، ألبومه الحالى والسابق، أغانيه الآن وأغانيه فى الماضى. 

وعندما أدرك الفنان الذكى، أن الجمهور الحالى استدعى بعض الأغانى التى قدّمها فى الماضى، فكر فى محتوى تلك الأغانى وحاول استعادة روحها فى أغانٍ جديدة، بكلمات تليق على الفترة والمرحلة التى نعيشها، فمثلًا يغنى «عمرو دياب» فى السنين الأخيرة أغانى من نوعية (عم الطبيب وفاكرنى يا حب) التى تشبه فى كلماتها إلى حد ما أسلوب كلمات أغنيات (رصيف نمرة خمسة) التى أعيد إحياؤها مؤخرًا وازدادت نسب الاستماع إليها.

يتفرّد «عمرو دياب» دون غيره، بأنه الفنان الوحيد الذى لم يؤخذ عليه أى تصرف غير لائق، لم نسمع فى مرة أنه ارتكب أى فعل يحاسب عليه الناس أو القانون، كما أنه لم يسمح لنفسه أبدًا بالخوض فيما من الممكن أن يؤثر على مكانته، فلم يخرج علينا بتصريحات أو مواقف من الممكن أن يؤخذ أو يرد عليها، فهو لا يفتح فمه إلا للغناء، وهنا يكمن ذكاؤه أو بالأدق عبقريته.

أيضًا يتمتع «عمرو دياب» بميزة الدأب والسعى وراء الأفضل، لا يقبل بالحلول الوسط ولا يتعامل مع فنه أو جمهوره أو أى تفصيلة تخص حياته العملية بأى نوع من أنواع البلادة أو الاستهتار الذى يقع فيه أحيانًا بعض الفنانين. لقد صنع لنفسه مكانة لا يتنازل عنها وأحاط ذاته بهالة لا تخترق إلا بأمره.

 حلم الخلود

أهم حلم يصبو إليه أى فنان هو حلم الخلود، أن يبقى ويستمر وتتواصل عليه أجيال من المعجبين، ويظل محتفظًا بمكانته مَهما مَر الزمن، وكيفما تغيرت الأذواق. وفى حالة «عمرو دياب» نجده وقد وصل منذ الثمانينيات حتى الآن لستة أجيال، اثنان وجدا عند بدايته والأربعة الباقون جاءوا على مَر الأربعين عامًا التالية. فجمهور «عمرو دياب» الآن تتراوح أعمارهم بين العاشرة والستين من العمر.

تاريخ «عمرو دياب» الطويل وارتباط ألبوماته بذكريات أكثر من ثلاثة أجيال، ضمنت لرصيده الفنى البقاء، وحافظت على استمراريته سواء من خلال أغنياته الجديدة التى يطرحها كل عام، أو القديمة التى كلما مَر عليها الزمن ازداد بريقها وتعمق تأثيرها فى نفوس من استمعوا إليها عندما ظهرت للنور لأول مرّة.

«عمرو دياب»، هو الشاهد الرئيسى على كل قصص الحب، وهو كتاب الذكريات الذى لم نكتبه بأقلامنا، وهو الكلمة التى أردنا البوح بها، وهو الإيقاع الذى سارت عليه خطواتنا، وهو الحلم الجميل الذى لا نزال نراه.