خيانة المثقفين!

إيهاب عمر
فى سبتمبر 2020 تَفاجَأ متابعو جوائز الأوسكار الأمريكية السينمائية أن أكاديمية الفنون بنيويورك التى توزع الجوائز السنوية قررت بداية من العام 2024 عدم ترشيح الأفلام فى جوائزها إلا لو كان 30 % من فريق التمثيل فى العمل السينمائى يتكون من نساء أو مجموعات عرقية مختلفة أو شواذ جنسيّا ومتحولى الجنس، بالإضافة إلى أشخاص ذوى إعاقة معرفية أو جسدية.
ولم تكتف الأكاديمية بهذا الشرط، بل أضافت أنه يجب أن يتضمن إحدى الدوائر الرئيسية ممثلاً أو ممثلة من مجموعات عرقية حددتها الأكاديمية، تتضمن كل ما هو غير منتسب للأصول الأوروبية البيضاء من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، مع التركيز على السود من أصول إفريقية ولاتينيين.
وأضافت الأكاديمية إنه يجب أن تكون القصة الرئيسية للفيلم أو جزءٌ منها على الأقل من سرد الفيلم حول مجموعة على الأقل من الجماعات البشرية غير الممثلة بصورة مناسبة فى المجتمع، سواء لأسباب عرقية أو جنسية.
وفى السياق نفسه؛ تدرس مهرجانات «كان» و«برلين» السينمائية إلغاء التصنيف الجندرى أو نوع الجنس فى الجوائز، بمعنى أن يصبح هنالك جائزة واحدة لأفضل تمثيل وعدم تقسيمها إلى أفضل ممثل وأفضل ممثلة، فى محاولة للمغالاة فى المساواة بين الجنسَين.
ما سبق؛ وإن كان يبدو دعمًا من الحركة الإبداعية العالمية للأقليات والمثليين، حتى إن البعض قد ذهب بالقول إن جوائز الأوسكار لن تذهب إلا إلى أفلام المثليين، فى واقع الأمر لا يحمل أى دعم حقوقى أو معنوى أو الأدبى، بل هى أجندة سياسية خالصة، تتمثل فى التغير الديموجرافى فى المجتمع الأمريكى منذ عشرين عامًا، حينما أصبحت الأقليات من أصول غير أوروبية تشكل معًا كتلة تربو إلى 50 % من سكان أمريكا مقابل 50 % من السكان من أصول أوروبية، ومن أجل إرضاء تلك الأقليات التى أصبحت تشكل أغلبية موازية، أتت معايير أوسكار الجديدة وتذهب ألمانيا وفرنسا إلى نفس الدرب قريبًا.
هذه المعايير بدورها جزءٌ من أيديولوجيا سياسية متطرفة يطلق عليها الصوابية السياسية، أى ربط كل ما هو صائب بأجندة سياسية معينة تحقق أهدافًا لصالح من يرعَى تلك الأجندة عبر قواميس الصوابية السياسية.
ولكن ظل الأمر يجرى بشكل عشوائى وفردى واجتهادات شخصية، إلى أن طرأ تغيير كبير فى سنوات إدارة بوش الابن الأمريكية، وبحسب كتاب «جبهة الصحافة.. الطباعة والدعاية فى زمن الحرب الباردة» للمؤلف جريج بارنهيسيل وكاثرين تيرنر، وكلاهما له باع فى مؤلفات الحروب الثقافية فى زمن الحروب الباردة، والصادر من جامعة ماساتشوستس عام 2010.
Pressing the Fight: Print, Propaganda, and the Cold War By Greg Barnhisel and Catherine Turner
يوضّح الكتاب أن استراتيجيات تمكين أيديولوجيات الغرب والقيم الغربية التى استخدمت فى الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتى واليابان، من رعاية دور نشر وطباعة كتب وصحف وتوزيعها على المدارس والمكتبات بالشكل اللائق، قد استمرت فى زمن ما بعد الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية حربًا باردة ثقافية طويلة الأمد.
ومع حلول منتصف العَقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وتحديدًا عام 2005 رصدت الإدارة الأمريكية مبلغ 20 مليون دولار سنويّا من أجل دعم «حركة النشر فى مصر»، وذلك بشكل قانونى عبر هيئة المعونة الأمريكية إلى مصر؛ حيث قبلت الدولة المصرية هذه التبرعات وقتذاك للسوق الأدبية، ولكن على ما يبدو أننا بصدد رصد أحد أخطاء ما قبل يناير 2011؛ لأن تلك المعونة الأدبية لم تذهب للأعمال الخيرية، بل كانت مرفقة بلائحة مَطالب لدور النشر.
هل سبق أن لاحظت إصرار كاتب معين على الزج بعاهرة فى كل روايته؟ أو خطاب معارض للحكومة بشكل مبتذل وغير مدمج بالشكل الأدبى اللائق فى العمل الروائى؟ هل لاحظت أن هناك دار نشر بعينها تنشر كُتُبًا عن فكر أجنبى معين كما لو كانت تود حقنه فى المجتمع المصرى؟ أو إصرار كاتب بعينه على وضع شاذ جنسيّا أو زنَى محارم أو متحوّل جنسى فى كل رواياته حتى لو لم يكن لهذه الشخصيات دور حقيقى فى العمل الأدبى؟
هل رصدت قيام مؤلف بعينه بشكل دائم بذكر ألفاظ لا يتداولها سوى السوقة والغوغاء، أو الإصرار على وجود عاهرة- أو أكثر- فى النص الأدبى أو تمجيد الخيانة الزوجية؟
هل لاحظت أن أغلب الروايات المصرية التى وصلت إلى منصات التتويج فى جوائز أوروبية فى الفترة الأخيرة كانت تضم مفردات هذا القاموس من قواميس الصوابية السياسية، وآخرها رواية كانت تعالج رهاب المثلية الجنسية فى المجتمع المصرى، رُغم حقيقة أن المجتمع المصرى ليس به هذا النوع من الرهاب عكس المجتمعات الغربية، وتحديدًا المجتمع الأمريكى الذى ما أن يرى صديقَين من الذكور على علاقة صداقة حسَنة حتى يبدأ فى إطلاق النكات الجنسية.
هل لاحظت أن هنالك كاتبًا بعينه يروج لما يسمى بـ «الأدب الإسرائيلى» وكأنما المثقف المصرى قد فرغ من ترجمة إنتاج الحركة الإبداعية العالمية حتى يتوجه إلى محيط ثقافى لم يكمل 80 عامًا بلغة قديمة مثل العبرية التى اندثرت لقرون من الزمن وكانت حصرية فى المعابد اليهودية قبل أن يقوم النظام الدولى بإحياء تلك اللغة عشية قيام دولة إسرائيل؟
إن جميع ملاحظاتك فى هذا المضمار ليست عفوية أو مصادفة، بل كانت لائحة من الصوابية السياسية نشرتها جهات تابعة لمشروع الحرب الثقافية الباردة الأمريكية؛ لتعزيز القيم الغربية والأيديولوجيا الأمريكية فى المجتمع المصرى، وكان المقابل هو 20 مليون دولار سنويّا تضخ فى سوق النشر، مقابل برمجة فكرية وهندسة ثقافية على أثرها يتم تصعيد كتّاب بأعينهم وعرض كتبهم بما يليق فى مكتبات بعينها وطباعة كتب بعينها مقابل تهميش كتّاب آخرين وطباعة نسخ أقل من كتبتهم.
إن رقم 20 مليون دولار ليس بالرقم الصغير فى وسط ثقافى أصبحت الطبعة الواحدة من الكتاب لا تتجاوز 100 نسخة وكانت طيلة عقدَين من الزمن 500 نسخة فحسب بينما تعداد الشعب المصرى ظل ما بين 80 - 100 مليون نسمة فى تلك الفترة، علمًا بأن اللغة المطبوعة ألا وهى اللغة العربية يتداولها ربع مليار نسمة فى الشرق الأوسط، ومع ذلك كان أغلب الكُتّاب المصريين غير قادرين على جذب خمسة آلاف قارئ للكتاب الناجح!
إن مليون جنيه سنويّا وليس دولارًا أمريكيّا قادرة على صناعة مشروع ثقافى كامل فى مصر فى ظل وسط ثقافى يتلهف للمنح الأجنبية منذ السبعينيات وتقاطرت المنح الألمانية والهولندية والبريطانية والفرنسية والدنماركية على مصر، وأصبح لها مكاتب علنية ومفتوحة فى مجال الثقافة والفكر والصحافة والإعلام، ولا يجد أبناء تلك الأوساط غضاضة فى التعاون العلنى مع تلك المكاتب مادامت وفّقت أوضاعها القانونية فى انفلات قانونى جرى قبل يناير 2011.
ومع بدء المشروع الأمريكى للثقافة المصرية عام 2005، بدأت تظهر كيانات ثقافية استثمارية تقوم بدور «وكيل» المشروع الأمريكى والغربى، من أجل صناعة ظهير ثقافى للمؤامرة بعد أن تمت صناعة ظهير حقوقى وطابور من النشطاء الشباب فى الوسط السياسى.
وكان مغزَى قاموس الصوابية السياسية لهذا المشروع ليس نشر الإباحة أو الشذوذ، ولكن ربط الأجيال المصرية بقيم غربية بعيدة عن قيم الوطن الأم، أول مبادئ الإبادة الثقافية للشعوب وتدمير الوعى الجمعى للمجتمعات، على ضوء قاعدة اقتصادية مهمة يعرفها خبراءُ الحرب النفسية فى الولايات المتحدة وحروب الإبادة الثقافية فى أوروبا منذ عقود، إنه كلما أطلق العنان للغرائز الجنسية، زادت الغرائز الاستهلاكية، فالقيم الاستهلاكية لا تترعرع فى مجتمع محافظ، وبالتالى فإن الموضوع ليس حربًا على الدين أو القيم؛ بل هى حرب اقتصادية وتجارية بحتة فى رداء أيديولوجى تتعلق بإطلاق العنان للغرائز الاستهلاكية من أجل مكاسب ضخمة فى خزائن شركات العولمة ووكلاء المشروع الأمريكى الذين تجدهم فى نهاية المطاف مجرد شركاء فى كيانات اقتصادية أمريكية خالصة.
ولعل ما سبق يوضح لنا ألغاز السوق الثقافية من ظهور كتّاب بأعينهم تحت مسمى البيست سيلز أو الأعلى مبيعًا، أو احتفاء المكتبات ودور النشر بكُتّاب معينين، أو وجود أولتراس أدبى منظم للغاية لكاتب بعينه، لم يكن كل هذا عفويّا، إذ من نظم أولتراس الرياضة من أجل لعب الدور التخريبى فى شوارع مصر عامَى 2011 و2012 هو نفسه من نظم أولتراس المثقفين للعب الدور التخريبى ذاته فى عقول المصريين منذ عقدين من الزمن.
ورغم التشديد الذى قامت به الدولة المصرية عقب ثورة 30 يونيو 2013 فى تلك المجالات؛ فإن المنح الأجنبية والسفر لمؤتمرات الخارج والجوائز الغربية حتى اليوم لا يتم منحها إلا لكتّاب وصحفيين يعملون على قاموس المشروع الأمريكى للثقافة المصرية، وقد لعب وكلاء جُدُد للمؤامرة الدور ذاته، مثل الجوائز الأدبية الثقافية التى نشأت فجأة فى دول الجوار مثل تركيا والخليج العربى وعلى رأسها جائزة كاتارا للرواية العربية التى تمنحها الدوحة، ولك أن تتخيل أن أعتَى طموحات نسبة كبرى من الوسط الثقافى المصرى الذى يفترض أن يكون امتدادًا للحضارة المصرية هو أن يكتب رواية يحصل منها على جائزة مادية من قطر!
وفى ظل هذه التحديات الثقافية والفكرية، من المستحيل أن تكون المعالجة القانونية هى الحل الوحيد، ويظل المشروع الثقافى المضاد برعاية الدولة هو الفريضة التى يجب تأخذ مجراها من أجل التصدى للعدوان الفكرى والثقافى الذى يتعرض له الوعى الجمعى المصرى منذ أربعة عقود من الزمان ما جعل الأوساط الفكرية والثقافية اليوم مشبعة بقواميس الصوابية السياسية للعولمة وتعمل على نهجها حتى دون تدخُّل من الخارج بعد أن أصبحت جزءًا من المرجعية الجمعية للوعى المصرى.>