الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عندما تتوقف الحياة.. عَ السلمّ

أسرة صعيدية، أب وأم وخمسة أبناء، يعيشون فى بيت بسيط، لكن جميل فى أحد شوارع مدينة طما بسوهاج، لا يوجد شىء غير عادى فى تلك الأسرة، ربما فقط اسم الأم، «سونيا»، وهو اسم غريب على امرأة صعيدية وأغرب على شخصية مثل شخصية هذه الأم، شديدة القوة والصلابة.



 

يقرر الابن الأكبر النزوح إلى القاهرة ثم يلحقه الابن الثانى ثم كبرى البنات، ثم تلحقهم بقية الأسرة.. ولأن الأخوين، الكبير والصغير، يحترفان العمل فى الصحافة، فكبرى البنات تقرر هى أيضًا العمل فى نفس المجال، ربما لشعورها المبكر بأنها لا تختلف عن أخويها الذكور، وربما لأنها تمتلك طموحًا لا يتواجد عند الكثير من الفتيات اللاتى يعشن نوع الحياة القاسية التى عاشتها، عادات وتقاليد صارمة، واحترامًا لأى وكل شىء يخص بلدتها. تقود الأقدار «نسرين لطفى الزيات» منذ خمسة عشر عامًا لمبنى «روزاليوسف»، لتعمل بالجريدة الجديدة فى ذاك الحين. فتاة شابة، من نظرة واحدة تدرك فورًا أنها صعيدية، ليس بسبب لهجتها أو مظهرها، فهى لا تختلف عن القاهريات فى شكلها، ولكن طباعها صعيدية خالصة، صرامة وصراحة ووضوح، وقوة تحمل لأقسى الظروف، أما الروح فهى رقيقة وهشة تكاد تتحطم من كثرة الألم والحزن وخاصة ذاك الحزن الذى ملأها بعد وفاة والدها. بعد سنوات قليلة تحترف «نسرين» العمل فى الإخراج، تقدم فيلمين قصيرين، ثم تعكف على تنفيذ فيلمها الأول، تسجيلى طويل، ظاهريًا يبدو أنه يتناول جزءًا من حياتها وكثيرًا من همومها، ولكن بعد مشاهدته تشعر وكأنه لا يخصها وحدها، بل يخص هموم كثير من البشر، تلك الهموم المتعلقة بالجذور والتشبث بها، الراحلون وعلاقتنا بهم، عبء الماضى وحمولته الثقيلة التى تحنى ظهورنا ونحن نسير فى الحاضر أو نتطلع للمستقبل.

 

فيلم (ع السلم) الذى يمثل مصر فى مسابقة (آفاق السينما العربية) بمهرجان القاهرة السينمائى الدولى، والذى يعد مرثية فى غاية الرقة والعذوبة عن الأب الذى رحل، الأخوات الذين يعيشون فى جزر منعزلة، الأم التى مازالت تقاوم، والبيت الذى أوشك على الانهيار أو انهار بالفعل. بدأت «نسرين» التحضير له منذ عدة أعوام، وتتحدث عن بداية انطلاق فكرته قائلة: «فى عام 2007، وبعد مرور عام على وفاة والدى، سألت نفسى: لماذا أضطر كلما سافرت للصعيد أن أرتدى الحجاب؟ تذكرت أننى عندما جئت إلى القاهرة عام 2002 وعدت والدى أن أرتدى الحجاب كلما ذهبت إلى بلدتنا حتى لا يقال بعد وفاته: «البنت أبوها مات وفلتت ومفيش راجل يحكمها».. وكنت ومازلت رافضة أن تقال كلمة فى حق أبى.. فكرت فى البداية عمل فيلم عن الحجاب، الفكرة تطورت بعد ذلك وأصبحت هاجسًا وصراعًا وإحساسًا بالاغتراب والوحدة والفقد، مثل الحفرة العميقة فى قلبى».

«بيتكم ضاع خلاص»، عبارة تقولها إحدى جارات الصعيد للمخرجة، التى تحاول إعادة بناء بيت أبيها، ومخزن ذكريات طفولتها وصباها، ولكنها تصدم من حالته المتهدمة ومع ذلك وبمنتهى (العناد والصلابة) تحاول إعادة إحيائه.. الأم تخاطب ابنتها طوال الفيلم عن مخاوف تملأ قلبها من البيت القديم المهجور، تقول: «حلمت أننى فى البيت وفجأة وجدت أمامى عقربة، قتلتها، ثم وجدت حية تخرج لى رأسها من أحد الصناديق، خفت منها». بطلتنا فى حالة إصرار على إعادة ترميم البيت الذى ينصحها الجميع ببيعه، وهى ترفض.

 

الأم أيضًا تحاول إقناع ابنتها أن تبيع البيت وتشترى بدلاً منه شقة صغيرة، لماذا ترغب الأم فى ذلك؟ السبب فى غاية البساطة والحزن، الأم المريضة تريد أن يجد أبناؤها مكانًا يتلقون فيه عزاءها بعد رحيلها، لا تريد أن تعود لموطنها، لا تريد أن يكون لديها مكان تلتقى فيه بقريباتها وصديقاتها القديمات، لا تريد أن تتباهى أمام عائلتها ببيت جديد، فقط تحاول خلق مساحة مشتركة يجتمع فيها أبناؤها المتفرقون.. ولكن لماذا تصر «نسرين» على إعادة إحياء البيت ولماذا تسجل رحلتها فى تلك المحاولات البائسة بالكاميرا، تقول «نسرين»: «عندما توفى أبى، لازمنى إحساس بالندم لأننى أضعت الوقت أثناء حياته ولم أسجل معه حكاياته وذكرياته. وتذكرت أننى طالبته فى لحظة ما ببيع البيت، لكنه قال لى «لا أريد أن أموت وأترككم دون بيت». ظلت جملته بداخلى دون وعى منى وصورت فى البيت، الذى كان أقرب لـ«الخرابة»، لكنى كنت أحاول أن أجمع وأحافظ على شىء مادى، أستطيع السيطرة عليه، لن أفرط فى البيت حتى لا أعيش فى قهر كما عاش أبى فى قهر طوال عمره لأنه باع بيت أبيه».

 

على مدار الفيلم نتابع صراعًا متواصلاً بين الأم والابنة، علاقة متأرجحة بين النزاع العنيف والمحبة الخالصة. كل منهما تحاول إقناع الثانية برغبتها، أحيانًا باللين وغالبًا بالشدة. الابنة، رغم اعتراضها على القيود والتقاليد، نجدها مأخوذة بالماضى والذكريات، البحث المتواصل عن صورة الأب والحفاظ على أى أثر له، كنوزه، على حد تعبيرها.. أما الأم، المصرة على القبض على زمام الأمور والمتمسكة بالتقاليد، فتنظر للمستقبل، نظرة قاتمة بعض الشىء، لكنها لا تنساق لذكريات أو هواجس لا ضرورة لها – رغم أحلامها المتواصلة - إلا أنها أحلام تتعلق بالآتى أكثر منها بالماضى.. كيف كانت كواليس الصراع بين الأم والابنة وكيف تقبلت الأم وجود الكاميرا طوال الوقت، كيف كانت الأم شديدة الطبيعة والعفوية والسلاسة وكأنها لا تدرك وجود كاميرا من الأساس، لتحقق أحد أقوى عناصر الفيلم، توضح «نسرين» كيفية حدوث ذلك قائلة: «على مدار ثمان سنوات، كانت الكاميرا التى اشتريتها من نقود جائزة حصلت عليها، هى الأداة التى كنت أحاول من خلالها تصوير أمى فى كل الأوقات.. كانت رغبتى الحقيقية هى تسجيل كل شىء عنها، خوفًا من أن أفقدها دونما أى توثيق، لأننى لم أستطع أن أفعل ذلك مع أبى. كانت أمى مشغولة بأمر البيت، دائمًا تشعر بالضيق وأحيانًا تبكى، أو تتحدث معى عن رغبتها وأحلامها، وكنت أقوم بتصويرها طوال الوقت، دون أن أعلم أننى سوف أستخدم هذه المادة المصورة فى الفيلم، صورتها كثيرًا جدًا لدرجة أنها نسيت وجود الكاميرا من الأساس».

 

لقطات بسيطة تخللت الفيلم، جعلتنا نشعر بكل المعانى التى تريد المخرجة أن تقوم بتوصيلها، التوازى المستمر بين لقطات عشوائية للقاهرة وأخرى لطمًا، الأغانى المتنوعة بين الإنشاد الصوفى والكلاسيكيات، صورًا نراها لأماكن وأشياء ساعدت من تعزيز الحوار الدائر فى الخلفية مثل المشهد الذى تحكى فيه عن حلمها بالأب، ونجد فى المقابل صورًا من كتب (الحياة هى فى مكان آخر والحياة الجديدة)، أو مشاهد الغراب والهدهد السائران على سلك كهربائى أو قضبان سكة حديد كصورة رمزية للبطلة الحائرة والشاعرة بالتمزق وكأنها هى التى تسير على السلك الكهربائى أو تقف على قضبان السكة الحديدية.. عن دور ودلالة تلك الصور المستخدمة فى الفيلم، تتحدث «نسرين» قائلة: «ظللت لسنوات طويلة أحمل الكاميرا معى، حقيبة ثقيلة فوق ظهرى، أسير فى شوارع القاهرة، ألتقط ما أشعر به، فى البداية كانت صورًا ساحرة وجميلة، ثم شعرت بأن المدينة تكاد تخنقنى، فصورتها من وراء حواجز، أو زجاج وكان ذلك يعبر عن حالة الاغتراب التى أعيشها، أما الغراب، رغم أن أبى وأمى يكرهانه ويعتبرونه فألاً سيئًا ومرتبطًا بالموت، أراه كائنًا جميلاً وراقيًا يبحث طول الوقت عن مكان آمن، يقفز من مكان لمكان، ليخطف ما تبقى من فتات الطعام ليعيش قدرًا بسيطًا من السعادة حتى لو كانت مؤقتة.. أما الهدهد فهو طائر استثنائى لا يستطيع أحد الإمساك به أو ملاحقته. وعن الموسيقى، فقد اخترت الأغانى التى كان يحبها أبى وهى إهداء منى إليه، إلى أول وآخر رجل علمنى كيف أكون حرة فى مجتمع تحكمه عادات وتقاليد بائسة».>