الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
صراع الداهية «أمازيس» والضعيف «أبريس»

صراع الداهية «أمازيس» والضعيف «أبريس»

شهد العصر الصاوى فى مصر القديمة صراعًا كبيرًا بين ملكين أدى فى النهاية إلى انتهاء عهد ملك وتولى ملك آخر مكانه. فما قصة الصراع بين الملك أبريس والملك أمازيس؟



الملك أبريس هو الملك المصرى المعروف باسم «واح إيب رع» فى عصر الأسرة السادسة والعشرين أو ما يعرف باسم العصر الصاوى،  أو عصر النهضة الصاوية. وكان قد تبع والده الملك بسماتيك الثانى على عرش مصر فى شهر فبراير من عام 589 قبل الميلاد، وكان والده الملك بسماتيك الثانى قد تدخل بشدة فى الشئون الفلسطينية بما قد نطلق عليه حملة فى عام 591 قبل الميلاد فى جنوب فلسطين وذلك دعمًا ومناصرة للحاكم الماريونت البابلى المدعو زاداكيه حاكم مدينة القدس وذلك تشجيعًا له على الثورة على الحكم البابلى غير أن الأمر جاء بعواقب وخيمة. وكان من سببها أن دفعت القدس الثمن غاليًا بعد أن قام الملك البابلى المشهور نبوخذ نصر الثانى بحصارها لمدة عامين كاملين دون رحمة، مما أدى إلى سقوط مدينة القدس فى عام 587 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وكان ذلك العام هو العام السابع والثلاثون من أعوام النفى البابلى وفقًا للتوراة.

وعلى ذلك النحو، استمر الملك إبريس واح إيب رع فى سياسة والده فى فلسطين. وشهدت فترة حكمه مشكلات عسكرية داخل البلاد وكذلك خارج البلاد. غير أن تمردًا نشب على حدود مصر الجنوبية وتحديدًا على الحامية الحدودية المهمة فى منطقة أسوان. وقام القائد العسكرى الشهير نس حور المسمى باسم بسماتيك منخ إيب بقمع ذلك التمرد وإقناع الجنود المتمردين بالعودة إلى أرض مصر بعد أن كانوا قد تركوا مكان الحامية فى أسوان واتجهوا جنوبًا إلى النوبة وذلك وفقًا لما ذكره فى نص سيرته الذاتية الشهيرة والمكتوبة على تمثاله الموجود حاليًا فى متحف اللوفر فى العاصمة الفرنسية باريس.

وأرسل الملك أبريس واح إيب رع جيشه إلى ليبيا بقيادة القائد المصرى المعروف أحمس أو أمازيس والذى سوف يكون له دور مهم فى الأحداث القادمة وفى مستقبل وحكم مصر. وكانت قد قامت فى ليبيا أحداث مؤسفة نتيجة هجمات الغزاة الدوريين من الإغريق والذين هاجموا ليبيا بضراوة، فقام الملك المصرى الملك إبريس واح إيب رع بإرسال ذلك الجيش دعمًا لليبيا ومساندة لها ضد تلك الهجمات الغازية. غير أن الجيش المصرى عانى من ذلك التدخل. ونشبت به حركة تمرد ضد الملك إبريس واح إيب رع. وانتشرت الحرب الأهلية فى أرض مصر بعد عودة الناجين من تلك المعركة غير الموفقة. ودبت الحرب الأهلية بين الجنود المصريين الوطنيين والجنود المرتزقة من الأجانب الذين كانوا يعتمد عليهم ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية فى تكوين الجيش ابتداءً من الملك المؤسس بسماتيك الأول.

وكما كان يحدث فى عصر الإمبراطورية الرومانية، اتجهت أبصار الجيش المصرى إلى اختيار قائد عسكرى منه كى يقود التمرد ضد الملك إبريس واح إيب رع. وما وقع الاختيار إلا على القائد المنتصر فى الحملات الصاوية ضد بلاد النوبة، وأعنى القائد العسكرى المتميز أحمس أو أمازيس. وعندما التقى الجمعان، تم قتل الملك إبريس واح إيب رع، وانتقل الحكم إلى ذلك القائد العسكرى وهو من خارج سلالة الأسرة الحاكمة ولا يحمل الدم الملكى،  وأعنى الملك أحمس الثانى أو الملك أمازيس. غير أن الملك أحمس الثانى أمازيس قام بتأدية الطقوس الواجب اتباعها على جثمان الملك القتيل الملك إبريس واح إيب رع بما يليق بجلال الملكية المصرية المقدسة ودفن جسد الملك الراحل فى المقابر الملكية فى عاصمة الأسرة الصاوية فى مدينة سايس فى وسط الدلتا المصرية.

الملك إبريس واح إيب رع كان حلقة وصل بين ملوك سايس الأوائل وبين الملك أحمس الثانى أمازيس الذى أعاد للأسرة الحاكمة عظمتها. وحكم مصر حكمًا رشيدًا وجعل من مصر قوة مهمة فى الشرق الأدنى القديم.

أمازيس أعظم الفراعنة الصاويين

الملك أحمس الثانى أو الملك أمازيس هو أهم ملك فى الأسرة السادسة والعشرين الصاوية أو العصر الصاوى. وحكم فترة طويلة من العصر الصاوى تقدر بحوالى أربعة وأربعين عامًا من عمر الأسرة المقدرة بحوالى مائة وثمانية وثلاثين عامًا، أى مدة تزيد على ثلث عمر الأسرة. وكان عهده عهد ازدهار وسيادة ورخاء وإبداع وتعمير وبناء وتعاون وتواصل مع القوى الخارجية. 

وازدهرت العاصمة الملكية سايس فى وسط الدلتا المصرية فى عهد الملك أحمس الثانى أمازيس. وحفلت المدينة بالمقابر الملكية الصاوية، غير أن هذه المدينة لم يتم حفرها بشكل كامل وشامل، ولم نعثر بها إلا على عدد قليل من تماثيل الأوشابتى أو التماثيل المجيبة التى كان المصرى القديم يستخدمها للقيام بالعمل نيابة عنه فى العالم الآخر. وتحمل عشرة من تلك التماثيل اسم بسماتيك، غير أنه من الصعب تحديد نسبتها لأى ملك من الملوك الثلاثة الذين حملوا اسم بسماتيك. وهناك ستة من تماثيل الأوشابتى تحمل اسم الملك أحمس الثانى أمازيس. 

ويعد المؤرخ الإغريقى الشهير هيرودوت، أو أبو التاريخ، أو أبو الأباطيل فى رأى البعض، من أقرب المصادر زمنيًا التى تحدثت عن عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية؛ إذ إنه كان قد زار مصر فى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أى بعد حوالى قرن من بعد نهاية الأسرة السادسة والعشرين الصاوية. وذكر هيرودوت الكثير من الأمور عن فترة حكم ذلك الملك. وقام الملك أحمس الثانى أمازيس بنقل الجنود المرتزقة من الأجانب إلى منطقة نقراطيس فى محافظة البحيرة فى غرب الدلتا، وأعطى لهم امتيازات كثيرة مثل الحقوق التجارية، وذلك حتى يتفادى وقوع أية مشكلات وصدامات مع الجنود المصريين وأهل مصر عمومًا. وفى عهده، أصبحت نقراطيس منطقة تجارة حرة مثل ديلوس فى بلاد اليونان. وفى نهاية القرن التاسع عشر الميلادى،  أظهرت حفائر عالم الآثار البريطانى الأشهر السير وليام فلندرز بترى فى المدينة أنها كانت ذات طبيعة كوزموبوليتانية وأن معابدها كانت مخصصة لآلهة الجاليات التى كانت موجودة بها.

غير أن ما يحسب لعهد الملك أحمس الثانى أمازيس أن التجارة فى البحر المتوسط كانت تشكل بعدًا مهمًا من أبعاد السياسة الخارجية المصرية فى تلك الفترة، وكان تدعيمها ضرورة من ضرورات فترة حكمه المزدهر والمديد، وكانت كذلك مهمة أساسية من مهام الأسطول المصرى فى البحر المتوسط. وبناءً عليه، فقد تم التعامل والتعاون من عدد كبير من الأمم فى البحر المتوسط، خصوصًا الإغريق الذين شكلوا نسبة كبيرة من الجنود المرتزقة بالجيش المصرى. وكان من شدة تدخل الملك أحمس الثانى أمازيس فى العالم الإغريق أن قام بإعادة بناء معبد الوحى الشهير والعظيم والخاص بالرب أبوللو فى دلفى بعد أن جاء عليه حريق هائل ودمره تمامًا فى عام 548 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام.

وبعد التهديد الآشورى لمصر من قبل فى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين النوبية أو الكوشية، جاء بعده التوسع البابلى والنشاط العسكرى بشدة فى الشرق الأدنى القديم، ما سبّب قلقًا وتهديدًا لمصر الصاوية طوال عصر الأسرة. غير أن المشهد شهد لاعبًا جديدًا وقويًا وعنيفًا ابتلع كل القوى القديمة، وأسّس إمبراطورية جديدة، وأعنى الإمبراطورية الفارسية والتى حاربت الإغريق بكل قسوة. وكانت مصر الصاوية بعد رحيل القائد العسكرى القوى أحمس الثانى أمازيس لا تمثل قوة قد تقلق الفرس. فتحرك الملك الفارس الشهير قمبيز نحو مصر. واحتل مصر فى عام 526 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وانتصر على الملك بسماتيك الثالث، ابن الملك أحمس الثانى أمازيس، فى منطقة الفرما على حدود البوابة الشرقية لمصر. وكان بسماتيك الثالث الضعيف وغير الخبير قد خلف أباه الملك أحمس الثانى أمازيس القوى لعدة أشهر على عرش مصر. فهرب بسماتيك الثالث إلى العاصمة الأزلية منف حيث نجح بسهولة الملك الفارسى قمبيز فى أسره وبعث به إلى عاصمة الإمبراطورية الفارسية الشهيرة فى مدينة سوسة. وهكذا جاءت نهاية الأسرة السادسة والعشرين الصاوية على أيدى الفرس الذين دمروا مصر وعاملوا المصريين أسوأ معاملة. وتبقى ذكرى أحمس الثانى أمازيس كأعظم الفراعنة الصاويين وأهم ملوك مصر فى العصر المتأخر قبل أن تصبح مصر وطنًا يحكم الغرباء. 

وهكذا كان وجود الملك أمازيس بدلاً من الملك أبريس مفيدًا لمصر القديمة فى فترة كانت من أشد الفترات اضطرابًا فى العصر المتأخر من تاريخ مصر الفرعونية المتنوع فى ظل العديد من المتغيرات الدولية فى الشرق الأدنى القديم وعالم البحر المتوسط.