
د. ايريني ثابت
مدينة البط
كنا، منذ الطفولة، نقرأ عن مدينة البط فى مجلة ميكى الغراء.. كانت الصور الكاريكاتورية تجعل من مدينة البط حقيقة جميلة فى أذهاننا.. ولم نصارح أنفسنا بأن مدينة البط خيالية إلا بعد أن كبرنا.. أما أن نسير الآن فى شوارع حقيقية فنجد أننا انتقلنا إلى مدينة البط، هذا هو غير المعقول.
تلك الإجراءات الاحترازية جعلتنا نسير فى الشوارع بالكمامة وكأنها منقار البط، وبالجوانتى الأبيض فتشبه أيادينا تلك الأيادى البيضاء التى لبطوط وسكان مدينته.. فإذا راقبت الشوارع بالناس فيها وجدت أننا تحولنا إلى مدن البط.. ولسنا وحدنا فى ذلك، فالعالم كله صار مدينة بط كبيرة!!
وتتميز مدن البط الحديثة بسكانها من البط طبعا.. والبطة مخلوق طائر ولكنه لا يطير.. وإنسان مدينة البط يمتلك عقلا يمكنه أن يحلق به فى الفضاء الواسع ولكنه لا يطير ولا يحلق ويبقى سائرا على قدميه يتهادى على أرض مدينة البط دون أن يعمل بعقله فيطير مسافة متر أو اثنين فوق الأرض!!
كما تستخدم (البطة) فى التراث الشعبى المصرى كرمز للشخص الكسول الذى لا يتحرك حتى إنه يزيد وزنا ويمتلئ جسده ولكن عقله يظل ساكنا ساكتا.. فإذا وجدنا شخصا كهذا ندعوه (بطة بلدى).. شكرا لكورونا والعزل المنزلى وstay home ووصفات طعام القنوات المتعددة تليفزيونا ويوتيوبيا، فقد صار كثيرون من أهل مدينتى الكبيرة فى العالم بط بلدى.
وكما أن البط لا يناقش، ولا يبحث عن الحقيقة، ولا يسأل من أين جاء هذا الفيروس ولماذا، ولا كيف سينتجون اللقاحات ومتى.. هكذا إنسان مدينة البط الذى حتى وإن كان قد اهتم فى البداية، فقد أنهكته الشهور الطويلة من العزل والخوف وتقليل الدخل والنزاعات الأسرية، ولم يعد يناقش أو يبحث أو يتكلم.. كيف سيتكلم والكمامة على وجهه تكتم أنفاسه وتجعل صوته حين يتكلم كصوت البط: كاك، كاك.
ولكن الغرابة تكمن فى أن مدينة البط فى مجلة ميكى كانت تتميز بالإيثار.. والإيثار هو أن تفضل غيرك على نفسك.. وترعى مصالحه كما نفسك أو أكثر.. وتحافظ على الآخر – أى وكل آخر – وعلى أمنه، ومصالحه، وحياته.. وعلى الرغم من قلة ذكاء البطابيط فى ميكى، لم تتسرب الأنانية لسلوكهم أبدا.. أما الإنسان البطة وبالأخص هنا فى مجتمعنا – مع الأسف – لم ولا يعرف أى شيء عن الإيثار.. لماذا يظل بالبيت بعد أن تعافى من كورونا؟ بل ينزل ويخالط الناس فى العمل وفى المواصلات ولا توجد فى ضميره أدنى وخزة تقول له: الآخرين.. ولماذا يقول الحقيقة وأنه مصاب بكورونا أو اشتباه فيها للصيدلى وهو يطلب منه أن يعطيه حقنة؟ بل الأسهل هو أن يخفى مرضه وينقل العدوى للآخرين دون أى شعور بالذنب.
أخلاقيات مدينة البط فى ميكى أرقى كثيرا من أخلاقيات عالم البط الذى نعيش فيه.. فهم صادقون ونحن كذابون.. وهم إيثاريون ونحن أنانيون.. وهم متعاونون ونحن متحاربون.. وهم بسطاء ونحن معقدون.. وهم مخلصون ونحن غشاشون.. وهم أنقياء ونحن أشرار حتى فى تلك الظروف السيئة التى جعلتنا من البط شكلا فقط.
فلنرحم أنفسنا قليلا.. ولنفهم أن الإيثار والصدق والأمانة فى أثناء هذه الجائحة هى سلوكيات تعود على الناس بالمنفعة العامة.. ولنعلم أبناءنا أنك حين تهتم بالآخرين وهم يهتمون بك، وحين تتعاون معهم وهم معك، وحين تراعى صحتهم وتحافظ على حياتهم وهم بالمثل يصنعون لك مثل ما تصنع لهم، ستختفى الجائحة من مدينة البط، ويخلع الناس تلك الكمامات السخيفة، ويعود لهم فمهم بدلا من ذلك المنقار المغلق، وستعود للوجوه ابتسامات تُرى وتجعل الآخرين يبتسمون.. كما ستعود للأيدى ألوانها الطبيعية البشرية ولن تصبح أيادينا بيضاء أو زرقاء كما هى الآن.
ختاما، أقترح أنه طالما حكمنا على أنفسنا بأن نكون بطابيط، وإلى أن ننتبه ونخلص أنفسنا من هذه الحالة السخيفة الهزلية، فلنجعل الكمامات برتقالية حتى ما يكون لمدينة البط شكلا مبهجا.. ربما نستطيع أن نضحك على أنفسنا وعلى أشكالنا، ولو حتى من وراء الكمامة.