الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

إرادة الدولة ومستقبل الفنون

تكمن المشكلة التقليدية المتكررة منذ أن دخلت يد الدولة القوية فى الستينيات لإنتاج الفنون التعبيرية فى مصر، فى إتاحة الأنواع المنتمية للتسلية لما تعارف عليه بالإنتاج الخاص.



 

وهو إنتاج أكثر يسرا وسهولة وحرصا على النجاح التجارى، من إنتاج الدولة بنظامها المنتمى للبيروقراطية.

 

فى بداية الدخول القوى كان الرجال القائمون مع أواخر الخمسينيات المصرية من أمثال يحيى حقى فى مصلحة الفنون ونجيب محفوظ فى الرقابة على المصنفات وسعد الدين وهبة فى المؤسسة المصرية للسينما.

 

بينما أدار المؤسسات الإنتاجية الخاصة رجال من الطراز الرفيع من أمثال رمسيس نجيب فى الإنتاج السينمائى وسمير خفاجى فى الإنتاج المسرحى وأمثالهم.

 

وكان المجتمع المدنى قد صنع بالمؤسسات الخاصة نجوما لامعة فى الفكرة والمعنى والأسلوب منذ الأربعينيات أم كلثوم والعقاد، طه حسين ويوسف وهبى، نجيب الريحانى ومحمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر، عبدالحليم حافظ وتوفيق الحكيم.

 

متلازمات مدهشة أدارت إنتاجها فى مشروع مهم الدولة المصرية، بل جذبت المبدعين من كل عواصم الدول العربية لتصبح مصر المركز الداعم للأطراف الأخرى ولتصبح صاحبة هذا الدور الريادى المتعارف عليه.

 

ثم جرت مياه كثيرة فى النهر وتراجع دور الدولة فى الإنتاج الفنى وغاب القطاع الأكبر الذى لايزال يعمل حتى الآن من مؤسسات الإنتاج الرسمية فى متاهات الصراعات البيروقراطية، وانفصالهما عن إيقاع العصر.

 

وفى ظل غياب نجوم أصحاب مشروعات كبرى إلا فيما ندر، وبدخول أموال من السوق العربية منذ السبعينيات من القرن الماضى حتى الآن، تم تقديم منتجات فنية تتوافق مع متطلبات السوق الجديدة وتلبى رغبات أصحابها، ومع ظهور الفضائيات تأكد هذا الدور الجديد للمراكز المتعددة التى كان جوهرها المركز المصرى بتعبير البيت الكبير.

 

لتصبح المراكز الجديدة مركزا مهما للاستهلاك ولدفع الأجور الكبيرة.

 

هاجرت العقول الكبيرة خارج البيت الكبير البعض حاول التوافق، ومع خروج مؤسسات الدولة الإنتاجية من التأثير الفعال، دخلت أموال جديدة إما أنها تهدف للإتجار فقط فى الفن مثل الإتجار فى اللحوم والملابس.. وغيرها، أو تهدف للانتصار العام الساحق لهذه الصياغات الركيكة التى تم وصفها بالشعبية وهو وصف غير صحيح، إنها العشوائية الركيكة إذن.

 

هذه المتوالية العددية تكاثرت واتحدت وانتصرت حتى وصل الأمر لما هو عليه الآن من تعقيد كبير.

 

حقيقة الأمر أن استعادة التاريخ وتأمل المعطيات الحالية، وهى استعادة مختزلة سريعة، لكنها دالة، تؤكد بمجرد تأملها على أسئلة المستقبل.

 

والسؤال الأول الذى هو طرح مستقبلى علينا البدء فى التخطيط والتنفيذ له هو: كيف يعود المركز؟ كيف يعود البيت الكبير فى مصر لإنتاج الثقافة والفنون؟.

 

والإجابة: إصلاح حقيقى جاد للمؤسسات الرسمية الباقية، واختيار قادة من أهل الفكر والفن معًا، وتخليصها من الترهل البيروقراطى المذهل، فليس من المعقول على سبيل المثال أن كل مسارح الدولة وبيوتها الفنية ماليًا وإداريًا قيد مسئولية شخص واحد هو رئيس قطاع الإنتاج الثقافى فى وزارة الثقافة.

 

فكيف له من الوقت والجهد إدارة كل تلك التفاصيل.

 

الإنتاج هو سلطة ثقافية ولا وجود لسلطة فقيرة، ولذلك فمن الضرورى التوافق فى الأموال المتوافرة لمؤسسات الدولة مع مقتضيات السوق ثم الحركة بالتسويق والإخلاص المهنى نحو المكاسب المالية مع القيم الفنية الجميلة.

 

وتفعيل مبدأ المساءلة، ليس من المعقول أبدا أن نظل نصدق مسألة الخدمة الثقافية المجانية التى أصبحت بابًا كبيرًا لإهدار الأموال العامة بمنتجات فنية لا يراها أحد.

 

عودة قطاع الإنتاج للعمل فى التليفزيون المصرى، وإلغاء نظام المنتج المنفذ تمامًا من مدينة الإنتاج الإعلامى، وإيجاد تكامل حقيقى بين المدينة والتليفزيون وحفلات أضواء المدينة وإنتاج الموسيقى والغناء فى تنسيق بين الإنتاج المسموع والمرئى والفضائى والمستودعات الرقمية، فى ظل وجود وزير للإعلام قادر على التنسيق ووضع الخطط وتكامل الأدوار.

 

وكذلك التعاون الغائب بين مؤسسات وزارة الثقافة ومؤسسات وزارة الإعلام.

 

استعادة وحدات الإنتاج الذكية القادرة على الحركة ضرورة قصوى.

 

وعندما يحدث ذلك وتستعيد الدولة المتن فى مشاهد الفنون التعبيرية، فإن القطاع الخاص سيضطر للتغيير نحو الأفضل فى إطار معايير السوق.

 

أما النقابات المهنية الفنية وغيرها من المؤسسات المعنية، فعليها إدراك أهمية المراكز المتاحة فى أقاليم مصر القادرة على إنتاج المواهب والنجوم الجديدة، والتى تمتلك جماهير عريضة فى أقاليم مصر تتوق للفنون الجميلة، ولذلك فإن المركز فى العاصمة عليه النظر نحو التبادل مع الأطراف فى كل أنحاء مصر، للحركة نحوهم بفنون جديدة، ولاستقبال مواهبهم كنجوم جدد فى العاصمة، وفى هذا الصدد فما تملكه وزارة الثقافة المصرية من بنية أساسية فى أقاليم مصر ثروة متاحة، أحدثها المركز الثقافى فى بورسعيد الذى يمكن أن يتحول إلى مدينة إنتاج فنية كبيرة بعيدا عن زحام العاصمة وإن تفاعلت معها.

 

المركز فى العاصمة إذن عليه أن يفتح عقله ووعيه بالتبادل بين الأطراف المتعددة وبينه، وحقيقة الأمر أن الثروة البشرية فى الأطراف حية وقوية وقادرة على طرد تلك الصياغات العشوائية فى المركز.

 

البداية إذن فى انتظار يد الدولة التدخلية القوية من أجل المستقبل ومن أجل عودة الدور المركزى المصرى فى المنطقة العربية، ومن أجل عودة الفنون التعبيرية المصرية كدورها فى صياغة الوجدان وتعيين القيم والأخلاق ونماذج الاقتداء والاحترام، وتعريف معنى الوطن وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.>