محاربات في وجه الهكسوس
وراء كل رجل عظيم امرأة، تمثل الجانب غير الظاهر من حياته، تُقدِّم له يد الدعم والمساندة، وإذا كانت هذه المقولة تنطبق على العظماء بصفة عامة؛ فإنها تنطبق تمامًا على عظماء الحكام فى مصر القديمة، فقد لعبت المصريات دورًا شديد الأهمية فى المجتمع وداخل القصر الحاكم، خصوصًا فى الأوقات التى تطلبت فيها الظروف هُبة للدفاع عن الوطن، ما يؤكد على أن جينات العظمة والكرامة متوارثة لديهن مهما اختلفت الأجيال والمراحل الزمنية.
كان للملكة المناضلة «تتي-شرى» دور كبير فى تحرير مصر من احتلال الهكسوس، الذى تحقق على يد حفيدها الملك أحمس الأول، وأسهمت أمه الملكة إياح حتب الأولى فى تسيير الفرق العسكرية، ولعبت دورًا كبيرًا فى الدفاع عن العاصمة طيبة، وقامت بأداء الشعائر، وجمعت الهاربين وأعادت الفارين، وأنزلت السلام والسكينة على مصر العليا، وحملت الملكة أحمس- نفرتارى اللقب الدينى «الكاهنة الثانية للإله آمون». ومن خلال هذا اللقب منحها زوجها أحمس الأول وأبناءها العديد من الأوقاف للأبد، ولكل منهن قصة تستحق أن تُروَى.
الملكة تتى شيري
انتهى عصر الدولة الوسطى الذهبى، وسقطت مصر فى هوة وفوضى عصر الانتقال الثانى الذى عانت فيه من ضراوة احتلال الهكسوس («حكام البلاد الأجنبية»، كما أطلقت عليهم النصوص المصرية القديمة) الذين احتلوا الدلتا المصرية وجزءًا كبيرًا من شمال مصر، بينما حافظت أسرة مصرية وطنية على حكم العاصمة العريقة طيبة (الأقصر الحالية). ولم يهدأ ملوك التحرير حتى هبوا للدفاع عن الأرض.
ومن بين ملكات ذلك العصر الفاصل فى التاريخ المصرى القديم، الملكة المناضلة تتى شيرى، ويعنى اسمها «تتى الصغيرة». وكانت من أهم ملكات الأسرة السابعة عشرة وزوجة للملك ست نخت إن رع تاعا الأول الذى كان ابنًا للملك سوبك إم ساف الثانى. واختارها الملك ست نخت إن رع تاعا الأول كى تكون زوجته الكبرى، على الرغم من أنها لم تكن تنتمى للدم الملكي؛ فقد كانت ابنة شخص عادى يدعى تشننا وزوجته نفرو. وحكم زوجها فترة قصيرة. وأنجبت منه ابنها الملك سقنن رع تاعا الثانى وابنتها إياح حتب، وربما الأمير كامس.
وحملت ألقابًا مهمة مثل «زوجة الملك الكبرى»، و«أم الملك». وتزوج سقنن رع تاعا الثانى من إياح حتب وأنجبا الأمير أحمس الذى سوف يصبح ملكًا على مصر، ويحمل لقب الملك أحمس الأول، ملك مصر العليا والسفلى، ويحرر مصر من الهكسوس ويطاردهم إلى خارج الحدود المصرية إلى جنوب فلسطين، ويؤِّسس الأسرة الثامنة عشرة وعصر الدولة الحديثة، أو عصر الإمبراطورية كما نعرفه فى أدبيات علم المصريات، حين أسّست مصر إمبراطورية امتدت من نهر الفرات والبحر المتوسط إلى الشمال الشرقى، وإلى أعماق السودان جنوبًا، وإلى ليبيا غربًا، وصارت مصر سيدة العالم القديم.
عاشت تتى شيرى عمرًا مديدًا، وعاصرت كل مراحل تحرير مصر من احتلال الهكسوس، وعايشت كفاح ملوك مصر الأبطال؛ ابتداءً من زوجها، وابنيها، وحفيدها إلى أن تم تحرير الأرض المصرية فى النهاية.
الملكة إياح حتب
لايزال حديثنا منصبًا على ملوك التحرير الذين تصدّوا للاحتلال الهكسوسى وتعتبر الملكة إياح حتب الأولى من الملكات الفضليات، ويعنى اسمها «القمر سعيد». وعاشت هذه الملكة فى نهاية الأسرة السابعة عشرة. وكانت ابنة الملكة الجليلة تتى شرى والملك ست نخت إن رع تاعا الأول. وتزوج الملك سقنن رع تاعا الثانى من ثلاث سيدات، هن: إين حابى، وست جحوتى، وإياح حتب الأولى. وأصبحت الملكة إياح حتب الأولى زوجته الأساسيّة. وحملت من الألقاب الملكية ما دلنا على عِظم مكانتها فى ذلك العصر فهى «الزوجة الملكية العظمى»، و«أم الملك» فى إشارة إلى ابنها الملك أحمس الأول ملك مصر العليا والسفلى، و«المتحدة مع حامل التاج الأبيض (وهو «تاج الصعيد»، فى إشارة إلى الملك المصرى الذى كان يحكم صعيد مصر فقط فى ذلك الوقت، وليس الدلتا التى كانت واقعة فى قبضة الهكسوس). ويعد زوجها الملك سقنن رع تاعا الثانى أحد أبطال وملوك التحرير. ومن الجدير بالذكر أن هناك ملكة أخرى تحمل اسمها وهى الملكة «إياح حتب الثانية»، التى يُنسب إليها تابوت مُذهَّب عثر عليه فى منطقة دراع أبوالنجا فى البر الغربى من جبانة طيبة فى مدينة الأقصر الحالية.
وأنجبت الملكة إياح حتب الأولى عددًا كبيرًا من الأبناء: أربعة منهم يحملون اسم أحمس، أميرتان: أحمس نفرتارى وأحمس نب تا، وأميران: أحمس الأكبر الذى مات مبكرًا، وأحمس الأصغر الذى عاش وأصبح الملك أحمس الأول وتزوج من أحمس نفرتارى. ومات زوج إياح حتب الأولى، الملك سقنن رع تا عا الثانى، فى معركة الشرف والكفاح ضد الهكسوس. وعُثر على موميائه فى خبيئة الدير البحرى بالأقصر. وتظهر بموميائه جراح بالغة فى الرأس نتيجة ضربات نافذة بفأس هكسوسية.
وذهب الحكم إلى الملك كامس الذى كان يعتقد أنه ابن الملك سقنن رع تاعا الثانى، أو شقيقه فى رأى آخر، غير أنه من غير المعروف صلته بهذه العائلة على نحو محدد إلى الآن. غير أن الشىء المؤكد أن الملك كامس كان من أصل نبيل اختار أن يستكمل الحرب ضد الهكسوس كملك محارب من طراز رفيع إلى أن مات بعد نحو ثلاث سنوات فى أرض المعركة البعيدة. وكان زوجًا للملكة إياح حتب الثانية. ثم تبعه الملك أحمس الأول، الابن الأصغر للملك سقنن رع تاعا الثانى والملكة إياح حتب الأولى. وساعدته فى شئون الحكم والعسكرية أمه الملكة العظيمة إياح حتب الأولى التى كانت وصيّة عليه.
لم يخجل الملك أحمس الأول كملك بالغ لمصر الموحدة أن يذكر ذلك وأنه يدين لأمه تلك الملكة المناضلة بالفضل عليه. فنرى الملك أحمس الأول يكرِّم أمه على لوحة فى معابد الكرنك. ويشير نص تلك اللوحة إلى أن الملكة إياح حتب الأولى ربما ساهمت فى تسيير الفرق العسكرية، ولعبت دورًا فى الدفاع عن طيبة، وأنها دافعت عن مصر، وحمتها واعتنت بها وبجنود مصر، وقامت بأداء الشعائر، وجمعت الهاربين وأعادت الفارين، وأنزلت السلام والسكينة على منطقة مصر العليا، وطردت المتمردين. وربما قامت بهذه الأدوار بعد وفاة زوجها، أو أغلب الظن بعد وفاة الملك كامس. وتعد هذه هى المرة الأولى التى نعثر فيها على نص مكتوب يشير إلى ممارسة السلطة من قبل ملكة مصرية قديمة وصيّة على ابنها.
الملكة أحمس-نفرتاري
لم يكن يُعرف عن الملوك المصريين القدماء البطش إلا فى الحق والانتقام دون اعتداء سابق. وكانت العقيدة العسكرية المصرية دفاعية لا تميل إلى البدء بالاعتداء. وتعتبر الملكة أحمس-نفرتارى أولى ملكات الأسرة الثامنة عشرة، والدولة الحديثة، الفترة الذهبية الثالثة من تاريخ مصر القديمة. وكانت ابنة للملك سقنن رع تاعا الثانى وزوجته إياح حتب الأولى. وتزوجت من الملك، البطل، محرر مصر من الهكسوس، أحمس الأول. ويعنى اسمها «ولد القمر-أجملهم (أو حلاوتهم)». وهذا لا يجعلنا نخلط بينها وبين الملكة نفرتارى، زوجة نجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثانى فى عصر الأسرة التالية، الأسرة التاسعة عشرة.
حملت أحمس نفرتارى عددًا من الألقاب الملكية مثل «ابنة الملك» و«أخت الملك» و«الزوجة الملكية العظمى» و«أم الملك» و«زوجة الملك» و«الكاهنة الثانية للإله آمون (رب طيبة والدولة الحديثة الأشهر)»، ومن خلال هذا اللقب منحها زوجها أحمس الأول وأبناءها للأبد العديد من الأوقاف، وكذلك منحها اللقب الدينى الجديد «الزوجة الإلهية للإله آمون» وجلب لها الكثير من الثروات.
ويعد لقب الزوجة الإلهية للإله آمون لقبًا كهنوتيًا ليس إلا، ولم تكن حاملة هذا اللقب زوجة فعلية للإله، ولم تكن ضمن حريم الإله؛ لأن البغاء الدينى لم يكن معروفًا فى مصر القديمة كما كانت الحال فى بعض حضارات الشرق الأدنى القديم. ومن خلال هذه الثروات الطائلة التى خصصت لتلك الملكة المعشوقة من زوجها الفرعون، صار ممكنًا لهذه الملكة القيام بالعديد من القرابين والطقوس، وأصبح اسمها منقوشًا فى عدد كبير من المعابد فى أبيدوس وطيبة وسرابيط الخادم فى سيناء الغالية؛ حيث كانت تُعبد الربة حتحور التى ارتبطت بشكل خاص بنساء البيت المالك فى عصر تلك الأسرة الخالدة.
أنجبت الملكة أحمس-نفرتارى أربعة أولاد وخمس بنات، مات خمسة منهم صغارًا. وبعد وفاة أحمس الأول، قامت بالوصاية على ابنها الصغير الملك أمنحتب الأول. وعند وفاة زوجته الملكة ميريت آمون (وليست ابنة رمسيس الثانى الشهيرة)، قامت الملكة الأم بدور الزوجة الكبرى له كى تدعم ابنها الذى مات دون وريث للعرش. ولعبت دورًا مهمًا فى اختيار خليفة ابنها، الملك تحتمس الأول، الذى ماتت فى عهده، ودُفنت فى منطقة دراع أبو النجا فى البر الغربى للأقصر.
بعد وفاة الملكة أحمس-نفرتارى تم تقديسها مع ابنها الملك أمنحتب الأول باعتبارهما إلهين حاميين لجبانة طيبة، خصوصًا فى منطقة دير المدينة التى كانت قرية الفنانين والعمال بناة مقابر الملوك فى وادى الملوك ومقابر الملكات فى وادى الملكات ومقابر النبلاء فى جبانات الأفراد العديدة فى البر الغربى لمدينة الأقصر. وتم بناء معبد لها فى طيبة. وعُبدت إلى نهاية الدولة الحديثة. وتم تصويرها ببشرة سوداء للتعبير عن الخصوبة والبعث؛ ولذا نراها مصوّرة فى مقابر الأفراد بسبب أنها أصبحت إلهة لبعث الموتى فوُصفت بأنها «سيدة السماء»، و«سيدة الغرب»، حيث يرقد الأموات على أمل البعث مع شروق الشمس فى الشرق؛ حيث يسكن الأحياء.
وقام الملك أحمس الأول بتقدير وتكريم جدته الراحلة الملكة تتى شيرى أقصى ما يكون التقدير والتكريم. فأقام لها ضريحًا فى منطقة أبيدوس الخالدة، مقر عبادة رب الأرباب، ورب الموتى، وسيد العالم الآخر، المعبود الأبرز أوزير، ومقر ملوك مصر الأسلاف المبجلين. وأقام هناك لوحة تذكارية تخلد ما فعله من أجل تلك الجدة العظيمة، ولم يسبقه إلى فعله هذا أى من الملوك السابقين.>