الأربعاء 14 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فى أوروبا والدول المتقدمة لا يوجد كشك عم «سعيد»!

فى أوروبا والدول المتقدمة لا يوجد كشك عم «سعيد»!
فى أوروبا والدول المتقدمة لا يوجد كشك عم «سعيد»!







اعتاد أن يستيقظ من نومه قبل صلاة الفجر بقليل.. بعد أن يصلى ويتناول إفطاره على عربة الفول الصغيرة فى حى البدرشين.. يبدأ مشواره الطويل نحو عمله.. بعد أكثر من ساعة ونصف الساعة وفى تمام السابعة صباحا يصل عم «سعيد» إلى مزلقان البدرشين حيث يمارس عمله اليومى المعتاد والممل منذ سنوات طويلة داخل أحد الأكشاك غير الآدمية والذى تبلغ مساحته متراً فى متر.. أيام الصيف تمر على سعيد بصعوبة إلى حد ما.. فالحر شديد لا يرحم جسده النحيل والمليء بالأمراض بعد أن تجاوز الخمسين من عمره.. ولكن الحر «مقدور عليه» كما قال.. ولكن الكارثة تأتى مع الشتاء.. فالكشك لا يكفى لجسد طفل صغير.. مما يجبر عم سعيد على الجلوس خارج الكشك ليجد نفسه فى معركة قاسية دخلها رغما عنه مع البرودة الشديدة التى تجمد أطرافه!
 

 
أزماته بعضها يتعلق بفصول العام كما ذكرنا والبعض الآخر يستمر معه طوال السنة.. فكشك عم سعيد الواقف منذ الخمسينيات شاهدا على قضبان القطارات الحديدية.. لا يحتوى إلا على جهاز الاستقبال الصغير الذى يستقبل إشارات المحطة الرئيسية والتى من خلالها يعرف مواعيد وصول القطارات إلى مزلقانه، فيقوم على الفور بغلقه أمام المارة وسيارات المواطنين والتوك توك حتى لا يصبح أحدهم فريسة لمقدمة القطار القادم بسرعته الجنونية.
 
«دورة المياه».. كلمة يسمعها عم سعيد ويبتسم ساخرا فى صمت قائلا: دى قريبة من هنا مش بعيدة يادوبك ربع ساعة.. 15 دقيقة سيرا على الأقدام يمضيها سعيد كى يصل إلى أقرب مكان آدمى يستطيع قضاء حاجته بداخله.. وكلما يسير فى طريقه إلى هناك يتذكر محاولاته اليائسة مع المسئولين بالمحطة الرئيسية لتوفير دورة مياه قريبة من المزلقان.. فتقريبا هناك قطار ما يمر كل خمس دقائق.. والرحلة الضرورية إلى الحمامات تجعل سعيد غائبا عن المزلقان فترة من الزمن يمر  خلالها ثلاث قطارات دون رقيب.. وأحيانا لا يلتزم المارة والسيارات بأجراس السيمافور التى تسبق قدوم القطار بخمس دقائق على الأكثر مما يتسبب فى وقوع حوادث كارثية اعتاد الرجل على معايشتها خلال عمله.
 
الراتب 300 جنيه فى الشهر.. سجائر عم سعيد ومواصلاته يكلفانه 200 جنيه.. أما مصاريف البيت من أكل وشرب وإيجار غرفة ومصاريف مدرسة إلى خلافه تتجاوز الخمسمائة جنيه فى أضيق الحدود.. أى أنه يقوم بصرف 400 جنيه فوق راتبه الأساسي.. ولا يعلم حتى الآن من أين تأتى هذه النقود تحديدا.. يعتمد على الإكراميات التى يدفعها «ولاد الحلال».. بجانب يومية ابنه الكبير الذى يعمل بورشة خراطة ويتقاضى 10 جنيهات يوميا ويعطى لوالده 5 جنيهات كى يكمل مصاريف المنزل الصغير.
 
الزحام الشديد حول المزلقان فى أوقات الذروة يجعل عم سعيد «عينه فى وسط رأسه» على حد قوله.. ويكتظ محيط المزلقان بمئات السيارات وآلاف العابرين من موظفين وطلاب وبائعين من سكان البدرشين.
 
المارة والأطفال والسيدات وسائقو التوك توك لا يعترفون بصافرة السيمافور ويصرون على المرور.. سعيد يعلو صوته دوما محذرا إياهم وأحيانا يدفعهم بقوة بعيدا عن المكان حتى لا تحدث كارثة.. لا ينام طوال 12 ساعة حتى لا تزهق أرواح بسبب لحظات يسرقها البعض للراحة من شقاء اليوم.. أذناه مع الجهاز الموجود داخل الكشك وصافرة السيمافور وعيناه مع المارة والسيارات وعقله فى مصاريف الشهر وأزماته المالية المتكررة.
 
لا ينكر أن الحوادث عند مزلقانه تحدث بشكل متكرر.. ولكنه ينفى أى مسئولية حيال ذلك.. فالأخطاء كما يقول سببها المواطن غير الملتزم.. مؤكدا أن ربنا سترها معاه على حد قوله طوال الفترة الماضية كلما ذهب إلى الحمامات وعاد.. فلم يحدث أى حادث أبدا فى هذه الأوقات.. ويحاول الرجل أن يختار أوقاتاً غير الذروة والتى تبدأ من الخامسة مساء حتى يذهب للحمام.. أما بالنسبة للوضوء فتكفى زجاجة مياه كبيرة ليتوضأ منها حتى لا يضطر للذهاب إلى الحمامات للوضوء ثلاث مرات يوميا.
 
أحيانا وهو عائد لمنزله يتذكر كلمات صديقه «رضا» الذى سافر إلى دبى وحياته أصبحت أفضل بكثير مما جعله يشترى شقة محترمة فى الشيخ زايد وسيارة صغيرة.
 
تذكر كلماته عندما وصف له حال المزلقانات هناك التى تحولت منذ عشرات السنين إلى بوابات إليكترونية لا يجوز اختراقها طالما مغلقة.. وأصبحت الحوادث منعدمة هناك.. بالإضافة إلى مكتب صغير يجلس بداخله العامل المسئول بحمام خاص ووسائل توفر له الراحة أثناء عمله، بالإضافة إلى ساعات العمل هناك التى لا تتعدى الست ساعات يوميا ويقتصر عمله فقط على المراقبة دون التدخل فى أى شيء.
 
لم يعلق سعيد على حادث أسيوط كثيرا، بل قال باقتضاب: «العامل دايما كبش فدا.. ولكن لو بحثنا بضمير.. سنجد أسباباً أخري».
 
هذه الأسباب الأخرى التى يقصدها عم سعيد يستطيع المسئولون التعرف عليها من خلال قصة الرجل وقصص حياة باقى العاملين المليئة بالآلام والإهمال من الدولة وقلة الدخل مرورا بالتخلف الواضح داخل خطوط السكة الحديد المصرية ونهاية بالحمامات التى تبعد عن العاملين بمسافات طويلة.
 
المزلقانات «الإليكترونية»، فى أوروبا لا تعتمد على العامل البشرى مطلقا، بل جميعها تعمل بشكل آلى ومنظم للغاية.. مما يجعل نسبة وقوع الحوادث صفر بالمائة وتقلل من ميزانية رواتب العمال.
 
كان من الطبيعى أن نقارن وضعنا المؤسف بباقى دول العالم سواء الدول العربية أو الأوروبية.. وبالبحث وجدنا أن أوروبا بأكملها استغنت تماما عن العامل البشرى فى مزلقانات الطرق وأسست شبكة حديثة ومتكاملة من المزلقانات الإليكترونية فى طول البلاد وعرضها.. هذه المزلقانات طريقة عملها بسيطة، ولا تتكلف مبالغ طائلة، وتعتمد فى عملها أساسا على       دائرة كهربائية، حيث تتكون من قضيبين من الحديد، يستخدمان كحواجز حديدية لـ«المزلقان»، ويتم ربطهما بموتور وبكرة تتصل بسلك كهربائى ومحولات موضوعة أسفل قضبان السكة نفسها وبمجرد مرور القطار على المنطقة الموضوع أسفلها المحولات، تنخفض الحواجز الحديدية تلقائيا لتنغلق تماما، لتمنع أى سيارة أو شخص من العبور، لذلك هى أكثر كفاءة وأقل خطأ.
 
مهندس أحمد حشمت الخبير النفقى المقيم فى المجر يؤكد أن عملية تجديد خطوط السكك الحديدية المصرية بما يتناسب مع التطور الموجود فى دول العام سيكلف مصر حوالى 200 مليار جنيه تشمل تطوير القضبان والعربات وعمل مزلقانات إليكترونية والعديد من الأشياء التى تحتاج إلى تطوير.. وأكد أيضا أن الحل الوحيد لأزمة الموت أمام المزلقانات هو المزلقان الكهربائى الذى لا يحتاج إلى عمال.
المهندس هانى عازر عضو لجنة المواصفات النفقية بألمانيا ومستشار لهندسة الأنفاق فى فرنسا يوضح السبب الرئيسى فى تدهور حال السكة الحديد وهو قدم شريط السكة الحديد والذى أصبح غير صالح لتحمل هذا الكم من الرحلات والركاب، كذلك الإشارات أصبحت متهالكة، وإذا أرادت السكة الحديد إعادة هيكلة منشآتها من جديد يجب عليها أولا تغيير قضبانها والمواظبة على صيانتها بشكل دورى للحفاظ عليها، كذلك بناء التقاطعات والمزلقانات تحت الأرض لتعمل بشكل أوتوماتيكى وليس يدويا وذلك لتقليل نسبة الحوادث.