الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قاسم سليمانى كهف الأساطير

عندما أحكم «التورانيون» الذين سكنوا منطقة آسيا الوسطى حصارهم على الجيش الإيراني، اقترح شاه إيران طريقة تنهى الحرب فقرر الطرفان رسم الحدود بينهما فى نقطة يحددها سهم يرميه أحد الجنود الإيرانيين يختاره شاه «توران». قرر الأخير اختيار جندى عادى تحقيرًا لخصومه الإيرانيين، فوقع اختياره على جندى يسمى «آرش» ما خيّب آمال الجيش الإيراني، لكن «آرش» وتعنى بالعربية «الرامي» خالف التوقعات ورمى سهمه ليصل لمنطقة بعيدة للغاية ووسع حدود إيران، وتقول الأسطورة إن «آرش» هذا مات بعد الواقعة لأنه بذل قصارى جهده وفقد طاقته وقواه، ومن هنا أصبح اسمه رمزًا للتضحية فى سبيل الوطن.



ربما كانت أسطورة «آرش» قابلة للتصديق شعبيًا فى عصور إيران القديمة؛ بل إنها واحدة من أشهر الأساطير الفارسية آنذاك، لكن هل لم تزل مقنعة لأى شخص ناضج فى عصرنا الراهن؟.. لا تتسرع بالإجابة قبل أن تقرأ السطور التالية: عندما جرى اغتيال الجنرال الإيرانى «قاسم سليماني» قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثورى وصفته جريدة «الأخبار» اللبنانية الموالية لطهران بـ«البطل الرمز» وشبّهته بأبطال الأساطير فى الإمبراطوريات الفارسية الغابرة، وسرعان ما تناقلت المواقع الإيرانية صورة تم رسمها له وهو يحتضن الإمام الحسين بن علي، وهى صورة لا تخلو من إسقاطات سياسية ودينية فـ«سبط النبي» كان قائدًا ثوريًا انتفض فى وجه الظلم والفساد وقدم أقصى التضحيات فى سبيل العدالة الاجتماعية. وزیر خارجیة «الجمهورية الاسلامية» محمد جواد ظريف وصف «سليماني» بأنه كان بطل «مكافحة الإرهاب والتطرف» و«أعظم جنرال داعى للسلام فى المنطقة فى العقود الأخيرة»، فيما تسابقت بعض الأقلام العربية فى تشبيهه بالثائر الكوبى المعروف «جيفارا» وصوّروه نصير وظهير لشعوب المنطقة، ولو أننا فى عصر ليس فيه «جوجل» و«يوتيوب» لكان سهلًا عليهم محو كل تاريخ الرجل وكتابة تاريخ آخر خاص بهم عنه. من قال إن قائد تنظيم عسكرى أنشئ ليصبح «الذراع المسلحة» لإيران خارج حدودها، وتمثلت مهمته الأساسية فى رسم خارطة العمليات العسكرية فى العراق وسوريا واليمن يمكن وصفه على إنه أكبر «داعية للسلام» فى المنطقة منذ عقود؟! نظرة عابرة على تاريخ التنظيم المسلح الذى أُنشئ فى حرب الخليج الأولى كوحدة خاصة دعمت الأكراد فى حربهم ضد صدام حسين، كما مولت ودعمت التحالف الشمالى فى أفغانستان المجاورة ضد حركة طالبان، وتمثل تركيزها الأساسى على خلق وتدريب وبناء اتصالات مع التنظيمات الإرهابية العاملة تحت الأرض فى لبنان والعراق وفلسطين واليمن وسوريا لا يمكن معها القول بأن الرجل كان هدفه السلام، كما أن دعاة السلام يتحركون فى الضوء وعلانية، فى حين أن «سليماني» تقريبًا لم يحدث ولو مرة أن تناقلت وكالات الأنباء أى خبر عن تحركاته؛ بل كانت دائمًا سرية وغامضة، وهو وما جعل منه بطلًا للحكايات المثيرة التى تقترب أحيانًا من الأساطير.  

 

الرجل الغامض

دائمًا كانت شخصية سليمانى من النوع الذى يسهل نسج الأساطير حولها فقد ظل طوال سنوات عمله العسكرى ملتزمًا بحدود الصورة التى رسمها لنفسه، ودائمًا كان الرجل الغامض والصامت الذى لا يتحدث للإعلام ويثير اسمه علامات الاستفهام أكثر من أى شيء آخر، أما بالنسبة للنظام الإيرانى فهو مهندس مشروعه التوسعى فى المشرق العربي، فمنذ تعيينه قائدًا لفيلق القدس فى العام 1998خلفًا لأحمد وحيدي، كرّس «قاسم» نفسه لخدمة الجمهورية الإيرانية حتى وصفه المرشد الأعلى «على خامنئي» فى عام 2005 بأنه «شهيد حي». تذكر بعض المصادر أن سليمانى زار لبنان أثناء حرب يوليو 2006 وشارك فى تطورات المعركة بين حزب الله وإسرائيل، ونقلت صحيفة «نيويوركر» الأمريكية عن مسئول عراقى قوله إن سليمانى وجه رسالة الى القياديين الأمريكيين فى العراق بعد انتهاء الحرب، وفى فترة تراجعت فيها أعمال العنف فى بغداد، قال فيها «أتمنى أن تكونوا قد نعمتم بالسلام والهدوء فى بغداد، لقد كنت مشغولا فى بيروت». عندما حمى وطيس المعارك بين الجيش السورى والفصائل المسلحة فى النصف الثانى من العام 2012 تدخل «سليماني» بنفسه فى إدارة تدخل قوات حزب الله اللبنانى وميليشيات عراقية فى المعركة بسوريا، من قاعدة فى دمشق، وكانت معركة «القصير » إحدى أهم المعارك التى أشرف عليها وتمكن من استردادها فى مايو 2013. لم يكن اسم قاسم متداولًا بشكل علنى حتى سيطر تنظيم «داعش» على مدينة الموصل العراقية فى العام 2014عندها تولى رجل إيران الغامض مهمة إدارة المعارك فى العراق وانتشر حينها مقطع فيديو له وهو يرقص مع بعض الجنود بعد تحرير قرية «آمرلي» من حصار «داعش» الذى استمر 70 يومًا، ووقتها تمت الإشادة بدوره فى التصدى للتنظيم الإرهابي.

 

سليمانى فى القاهرة

أساطير سليمانى فى الدول العربية لم تقتصر على العواصم المعروف خضوعها لإيران فحسب، وإنما سطرت بعض مشاهدها فى القاهرة أيضًا، فاستنادًا إلى العلاقة القوية التى تربط الإخوان بنظام الملالى الإيرانى والتى تكللت بزيارة الرئيس أحمدى نجاد للقاهرة ودخوله الأزهر ورفعه علامة النصر، حضر سليمانى إلى القاهرة أيضًا خلال فترة حكم الإخوان لمصر. تقول المعلومات المتداولة أن سليمانى جاء فى نهاية ديسمبر عام 2012 بدعوة من خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان وقتها، رغم اعتراض الأجهزة الأمنية فى مصر، وأن لقاءً جرى بينه وبين قيادات الجماعة فى أحد فنادق مصر الجديدة، وكان الهدف منه العمل على تشكيل حرس ثورى إخوانى على غرار الحرس الثورى الإيراني. تماديًا فى نسج الأساطير ذكرت بعض التقارير الإعلامية أن سليمانى تلقى رسالة على هاتفه المحمول تضمنت تصويرًا بالفيديو لتفاصيل اللقاء الذى جرى بينه وبين الإخوان وهو ما جعله يطلب الرحيل من مصر بسرعة.   بعيدًا عن المعلومات التى لا يمكن توثيقها، فإن علاقة الحرس الثورى الإيرانى بمصر بدأت قبل وصول الإخوان الى الحكم، وتدلنا أوراق القضية الخاصة بخلية حزب الله التى ألقى القبض على 27 من عناصرها فى 2009 بقيادة شخص لبنانى يدعى سامى شهاب على سعى هذه العناصر لتأسيس تنظيم مؤيد لإيران فى مصر على غرار حزب الله اللبنانى واستقطاب عناصر لدعم المقاومة وجمع تبرعات باسم القضية الفلسطينية والتخطيط لاستهداف السفن والبوارج المارة فى المجرى الملاحى لقناة السويس وبعد أن صدر بحقهم حكم بالسجن 15 عاما وتحديدا فى 30 يناير 2011 خرج من مصر خلال عمليات اقتحام السجون وفر هاربًا عبر الحدود الجنوبية إلى السودان ثم إلى بيروت.

 

عدة محاولات اغتيال

شخص بهذه المواصفات كان طبيعيًا أن يبقى تحت المراقبة شبه الدائمة من أجهزة مخابرات الدول المعادية لإيران، لسنوات لاحقته عيون الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، وكان هدفًا لعدة محاولات للاغتيال، عطل جورج بوش وأوباما بعضها خوفًا من العواقب الوخيمة. وكالة الأنباء الإيرانية «إرنا» أكدت أن سليمانى وأثناء مشاركته فى العمليات العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية 1982 تعرض للإصابة وحاول الطبيب المعالج اغتياله، ولم تكشف الوكالة الرسمية عن اسم الطبيب ومصيره، إلا أنها اكتفت بالقول إن قاسم سليمانى تعرض لمحاولة اغتيال عن طريق الطبيب المعالج له، إلا أنه سرعان ما كشف أمره. العام الماضي، قالت طهران إنها أحبطت محاولة اغتيال تعاون فيها جواسيس إسرائيليون وعرب، حاولوا شراء عقار بجوار مسجد بناه والد سليمانى فى مدينة كرمان، حتى يتمكنوا من حفر نفق وزرع متفجرات لتفجيره خلال احتفال ديني، لكن ليس بإمكان أحد تأكيد صحة هذه الادعاءات من قبل إيران أو ضحدها.

 

أسطورة الخاتم

من اللقطات المثيرة ذات الملامح الأسطورية فى قصة سليمانى أن خاتمًا ذا فص أحمر مصنوع من «العقيق السليماني» كان دليلًا للتعرف على جثة القائد الإيرانى عندما ضربت الصواريخ الأمريكية السيارة التى كانت تقله من المطار فى العاصمة العراقية بغداد فى الساعات المبكرة من صباح الجمعة قبل الماضية. يعتقد البعض - وربما كان قاسم منهم - أن تسمية هذا النوع من الخواتم المزينة بالأحجار الكريمة بـ«السليماني» يرجع إلى النبى سليمان وما عرف عنه حول قدرته على إخضاع الجان لتنفيذ أوامره وما ورد فى القرآن من قصته مع الهدهد الذى أخبره بحال بلقيس ملكة سبأ فى اليمن. وإذا كان قاسم يؤمن بأنه رجل الأقدار أم لا فإنه رحل عن عالمنا ولم يترك لنا ما يؤكد ذلك أو ينفيه، غير أن الثابت لدينا أنه تسبب فى مقتل آلاف المواطنين العرب، وكان مشهد رحيله دالًا بما يكفي، فكأنما مات الرجل دون أن يشبع من الدماء حتى إن جنازته التى شُيِّعت فى مسقط رأسه جنوب شرقى إيران شهدت وفاة ما يقرب من 50 شخصًا وجُرح أكثر من 200 آخرين بسبب التدافع، وفى محاولة الرد الإيرانى على مقتله أصاب صاروخ بالخطأ طائرة أوكرانية فى الأجواء الإيرانية، ما أدى إلى مقتل 170 شخصا على الأقل. 