السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أمير المجرمين

حين كان رجب إردوغان بصدد التودُّد إلى الناخبين الأتراك فى سياق حملة دعائية جرت فى العام 2013م قال لهم إنه عمل بائعًا متجولًا فى شوارع إسطنبول وقت أن كان طفلًا.. لكن ما لم يذكره «بائع السميط» أنه نظرًا لنشأته فى حى «قاسم باشا» المعروف عنه أنه يُخرج قبضايات (فتوّات) فقد ولع بهذا النمط من الشخصيات، فانعكس ذلك فى تعاملاته بعد أن أصبح رئيسًا لتركيا سواء فى الملفات الداخلية أو مع جيرانه العرب والأوروبيين.



لا يجد من يتابع سلوك الرئيس التركى مؤخرًا أى صعوبة فى إدراك هذا المَلمح فى شخصيته؛ خصوصًا عندما يدير علاقاته الخارجية من «كهف التاريخ» ويرتدى زيًّا عثمانيًّا قديمًا لا يناسب حالة بلاده الراهنة وهو يتحدث مع دول حوض البحر المتوسط، ففى سياق حديثه عن الخطوات التى تسعى لها بلاده فى ليبيا وشرق المتوسط استشهد إردوغان بالبَحَّار العثمانى «خيرالدين بربروس»، قائلًا لعناصر من قواته الأمنية «ها نحن بصدد اتخاذ خطوات جديدة ومختلفة فى كل من ليبيا وشرق المتوسط، ونأمل فى أن يحقق جنودنا ملاحم بطولية كتلك التى حققها خير الدين بربروس وهم بالفعل سيواصلون كتابة تلك الملاحم». وخير الدين بربروس يُعَد أحد القراصنة البحريين وقُطاع الطرُق، الذين تحالف معهم العثمانيون لضمان موطئ قدَم فى بلدان شمال إفريقيا، ومارَسَ خير الدين وشقيقه «عروج» القرصنة بتوجيهات من «كوركود» نجل السُّلطان العثمانى «بايزيد الثانى»، فكانا يعطلان حركة الملاحة الإسبانية والبرتغالية فى غرب البحر المتوسط، وباركَ سلاطين العثمانيين أعمال النهب والسرقة ومذابح الأطفال والشيوخ وحوادث اغتصاب النساء التى ارتكباها مقابل حصتهما من الغنيمة.

 

أحلام الفتى الطائش

 

ليست هذه المرَّة الأولى التى يلجأ فيها إردوغان للتاريخ، فهو يعيش فى حالة مستمرة من وهْم اسمه «استعادة الإمبراطورية»، فقبل أيام قال إن من حق بلاده التدخل فى الشأن الليبى باعتبارها إرثًا لأجداده، وإن جغرافيتها جزءٌ من «الإمبراطورية العثمانية»، وكان ألمح للأمر نفسه فى أكتوبر الماضى، ما دفع البرلمان الليبى لإصدار بيان شديد اللهجة أدان فيه ما وصفه بـ«التصريحات الاستعمارية» للرئيس التركى. الردُّ الليبى جاء غاضبًا من القبائل الليبية، إذ قال ممثلوها «إن الإرث العثمانى لا نذكره سوى بالدم والفقر والجهل والضرائب والنهب ودك القرى بالمدافع»، فتركيا استعمرت ليبيا أكثر من 500 عام، فأين هى معالم الحضارة والبناء، أين هى المدارس والمعاهد التعليمية، أين هى المشافى؟! لا وجود لها.. أين هو الأثر الإيجابى التركى فى ليبيا؟! لن تجد شيئًا؛ لأن الباب العالى والسُّلطان العثمانى لم يكن يهمه من المستعمرات سوى نهب الثروات والغلال وجرِّها إلى الآستانة. الرئيس التركى فى مَعرض تفاخره بإرسال جنود أتراك إلى الأراضى الليبية قال: «يوجد مليون ليبى من أصول تركية يستحقون دعمنا والتدخل لنجدتهم، والوقوف إلى جانبهم»، متجاوزًا بذلك تبريراته السابقة بأن جيش بلاده سيلبى دعوة حكومة الوفاق برئاسة السراج، وواضعًا سببًا جديدًا للتورط فى مغامرة عسكرية بعيدة عن الحدود التركية.

حقيقة الأطماع التركية

 

حقيقة الأطماع التركية كشفتها الكلمات التى جرت على لسان إردوغان حين تحدّث أمام أعضاء حزبه «العدالة التنمية» قائلًا إن حكومته تخطط لما بَعد عام 2022م، الذى يُعَد نهاية معاهدة 1923م التى أنشأت تركيا فى صورتها وحدودها الحالية، والتحرُّر من قيودها التى فُرضت عليها، لا سيما التنقيب عن النفط، والتحكم فى مضيق البوسفور، والمطالبة بتعديل حدودها لتتوافق مع خريطة الدولة العثمانية قبل سقوطها. لم يكن الإرث العثمانى غائبًا عن إردوغان حتى وهو يختار أسماء السُّفن التى ستبحر للتنقيب عن الغاز فى مياه البحر المتوسط، فقد اختار للسفينة الأولى اسم «فاتح»، وهى ترمز إلى السُّلطان العثمانى محمد الفاتح، وهى سفينة محلية الصنع، أمّا الثانية فكانت تحمل اسم «ياووز»، وهى كلمة تركية تعنى «القاطع»، وهو اللقب الذى خلعه الأتراك على السُّلطان سليم خان الأول. استشهد إردوغان بالفاتح أيضًا عندما أطلق على قواته المشاركة فى العدوان على سوريا فى أكتوبر  الماضى اسم «الجيش المحمدى»، نسبة إلى محمد الفاتح، ذلك السُّلطان الذى قَتل أخويه ليمنعهما من ولاية العرش، ونفى والده إلى ولاية «أيدين» كى ينصّب نفسَه سُلطانًا على البلاد. اللهاث الإردوغانى حَوْل التمسُّح فى أى مجد تاريخى لم يكن وليد موقف بعينه، ففى 2015م وبينما كان يستقبل الرئيس الفلسطينى محمود عباس «أبو مازن» فى قصره بأنقرة وأثناء استعراض حرس الشرف اتخذ من 16 حارسًا يرتدى كل منهم الزى العسكرى لدولة من الدول التى أسّسَها الأتراك عَبر التاريخ، وقد أثار ذلك موجات من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعى فى حينه.   تاريخيًّا؛ تعاقبت فى المنطقة التى تمتد من الصين إلى أوروبا مرورًا بجميع جمهوريات آسيا الوسطى والهند وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق والشام وجنوب روسيا والتى تمثل تركيا الحالية جزءًا صغيرًا منها، مجموعة كبيرة من الدول، وهى: الدولة العثمانية، والدولة الخاقانية، والدولة التيمورية، والدولة السلجوقية، ودولة الآق هون، ودولة الهون فى أوروبا، والهون الغربية، وإمبراطورية الهون العظمى التى حكمت آسيا وأوروبا، وإمبراطورية الهند البابرية، ودولة (خاقانية) الخزر، ودولة (خاقانية) الأيجور، ودولة (خاقانية) الآوار، والدولة الخوارزمية، والدولة الغزنوية، ودولة القبيلة الذهبية، ودولة الخانات السود.

 

ردح نساء الحوارى

 

تمسُّحًا فى وراثة «العرش العثمانى» هاج إردوغان فى العام 2017م عندما كتب وزير الخارجية الإماراتى عبدالله بن زايد تدوينة يهاجم فيها الدولة العثمانية مؤكدًا قيامها بسرقة أموال المدينة المنورة، فأخذ إردوغان يهاجمه على طريقة النساء فى الحوارى الشعبية ويصفه بالجهل والخيانة.   حين وصلت شهرة المسلسل التركى «حريم السُّلطان» أقصاها داخل تركيا وخارجها، انتقد «رجب» العمل قائلًا «ليس لدينا أجداد مثلما يجرى تصويرهم فى المسلسل»، ولم تهدأ له ثائرة حين تمت إذاعة مسلسل «ممالك النار» الذى يكشف فصلًا صغيرًا من فصول القبح التركى على مَرّ التاريخ. فى إطار تبرير نهجه الاستعمارى الجديد راح إردوغان، وحكومته، ينقبون فى عواصم البلدان المجاورة عن أى مسجد أو سوق عثمانى، أو حتى حمَّام عثمانى فى أى دولة مسلمة أو غير مسلمة، وأخذوا يسخرون السياسة الخارجية التركية لترميم ذلك الأثر، أو يوظفون أوقاف المسلمين لبناء مساجد على الطراز العثمانى فى دول لم تعرف العثمانيين، ولم تراهم على مَرّ التاريخ مثل دولة غانا فى إفريقيا. وصل الأمْرُ بحاكم أنقرة أن قام بتغيير شعار وزارة الخارجية  التركية بصورة هى وحدها كفيلة بقَطع عشرات الدول علاقاتها بتركيا، ففى منتصف ديسمبر 2018م وعقب الانتقال إلى النظام الرئاسى غيّرت وزارة الخارجية شعارها القديم الذى كان يحتوى على نجمتين إلى شعار جديد يضم 16 نجمة، تشير كل واحدة منها إلى دولة أسّسَها الأتراك عَبر التاريخ، وكأن الهدف هو العمل على استعادة الحُكم التركى لهذه الدول، أو إعادة إحياء هذه الدول على أنقاض الدول الموجودة حاليًا.

 

ذاكرة مليئة بالنَّكَد

 

وإذا كان إردوغان يُجرى هذه الأكاذيب الخاصة بـ«أمجاد الخلافة العثمانية» على ألسنة العناصر الموالية له فى الداخل العربى بهدف تمهيد الأرض لأطماعه؛ فإن حقائق التاريخ تقول إن العرب لا يحملون فى ذاكرتهم المكتوبة تجاه العثمانيين إلّا نَكدًا، فقد كان حُكمهم سببًا فى تراجُع المكانة الحضارية للعرب  تحت حُكم قبائل رعوية لا حضارة لها جاءت من شمال غرب الصين، وفرضت على سكان هذه البقعة من العالم سياجًا من العُزلة لقرون طويلة، وأدخلوهم فى خلافات دينية وعِرقية لم تزل آثارها باقية حتى الآن، وقد وقفت الأمثال الشعبية المصرية شاهدًا على تلك الفظائع وخلدت فى متحف التاريخ،  ومنها «قال له دبْح ولا شنْق .. قال أهو كله فى الرقبة» ومنها «ارقص للقرد فى دولته» و«آخرة المعروف ضرب الكفوف» و«آخر خدمة الغز علقة».. ولم تكن غايات العثمانيين إلّا طلب الولاء ونهب الأموال وتهجير الحِرَفيين المَهرة إلى الآستانة وتجنيد الشباب والرجال لحروبهم الهمجية، واكتفى الولاة العثمانيون بإثبات الولاء للدولة المركزية من دون تقديم أىّ إنجاز حضارى يَذكره التاريخ، إذ كانوا يبقون فى الحُكم لمدة ثلاث سنوات فقط خوفًا من محاولة استقطاب الناس والتمرُّد والاستقلال عن أملاك السُّلطان.

 

تاريخ حافل بالدماء

 

مثلما كانت ذاكرة العرب مع الدولة العثمانية بشعة فإن ذاكرة الأوروبيين عنها لا تقل بشاعة، وهو ما يَحول دون موافقة دول الاتحاد الأوروبى على طلب تركيا بالانضمام للاتحاد الذى قدّمته منذ أكثر من 10 سنوات حتى الآن لم يتم البَتّ فيه، ولم يزل يواجه تشددًا من بعض دول الاتحاد مثل النمسا وهولندا، فهما لا تريدان أى دور لتركيا داخل أوروبا، وترفض دول القارة العجوز مجرد مَنْح المواطنين الأتراك «فيزا» الاتحاد الأوروبى.  حسنًا فعل «أمير المُجرمين».. لقد أراد استعادة بعض من نفوذ الدولة العثمانية فأخرج جثتها من القبر ويبدو أنها لن تدخله مرّةً أخرى قبل أن تُحاسَب ويُزال عنها كل ما لحق بها من مساحيق التجميل، فقد بات من الواضح أن ملف جرائمها لن يُغلق قريبًا، وستحل لعنته على الدولة التركية الحالية، فبَعد اعتراف الكونجرس الأمريكى والجمعية الوطنية الفرنسية، باعتبارهما السُّلطة التشريعية فى كل من أمريكا وفرنسا بمسئولية الدولة العثمانية عن مذابح الأرمن، ستعترف دول أخرى بالفظائع التى ارتكبتها، وربما يُعاد فتح ملف فظائع أخرى فى البلقان واليونان والعالم العربى والقوقاز والقرم. هذا الملف، حين يتم فتحه من خلال البرلمانات، سيتلو ذلك دعاوَى قضائية أمام محاكم هذه الدول؛ تطالب بتعويضات ضخمة، سوف يرفعها أحفاد المتضررين ودولهم، وجمعياتهم، وسوف تدفع الخزانة التركية التى أوشكت على الإفلاس بفضل مغامرات إردوغان، ولن يعرف أحد للتعويضات نهاية، تمامًا مثلما حدث مع تعويضات محارق النازى.  بقى أن نقول أخيرًا إنه وإن كانت هناك عوامل كثيرة طبعت أثرها فى شخصية الرئيس التركى الطامح لاستعادة نفوذ الدولة العثمانية ومنها طفولته البائسة وفشله فى الحصول على شهادة جامعية، فإن أهمَّها ما أفصحت عنه قرينته «أمينة» خلال أحد البرامج الحوارية بقولها إنه يحب من الفواكه التفاح «الأمريكانى» ومن الخضروات الفاصوليا و«القرنبيط»!