الأحد 18 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

دموع أمير الضحك

دموع أمير الضحك
دموع أمير الضحك


أعرب «عادل إمام» عن سعادته بحكم البراءة الذى صدر من محكمة الاستئناف فى الدعوى التى أقامها ضده محام سلفى يتهمه فيها بازدراء الأديان.. مؤكدا أن البراءة ليست لشخص «عادل إمام»، وإنما هى براءة للإبداع والفن المصرى الذى يحاول البعض النيل منه.. وقد أثبت القضاء استقلاله وعدم إخوانيته فأنقذ تاريخ الفن المصرى ورد كرامة الفنانين.. لكن تلك السعادة التى أعرب عنها الفنان الكبير هى سعادة تنطوى على حزن عميق عبر عنه بدهشته الممرورة المتسائلة:
 
 

 
كيف تقضى عمرك لتصنع بهجة للناس وتشيع حبورا بينهم فتجد منهم من يسعى لسجنك؟! ثم أى ردة حضارية تلك التى تريد أن ترفع الرايات السوداء لتعلن هزيمة الإبداع لتعود بنا إلى القرن الثالث عشر لنبحر فى غياهب الجهامة والدمامة والتخلف والظلمات؟!
 
 
كان «أمير الضحك» وزعيم المقهورين والمهمشين وأبناء الفقر المكومين داخل أقفاص العشوائيات كالجرذان المذعورة يبحثون عن ستارة تسترهم.. وعن سكن آدمى يأويهم.. وعن لقمة كريمة ينتزعونها من صناديق القمامة.. وحولهم أطفالهم وقد أحدودبت ظهورهم وشاخوا وهم يسبحون فى مياه المجارى التى فاضت فى المدافن التى يسكنونها.. وقد طافت فوقها جثث الموتى.. يفتشون فى الكتب القديمة عن كذبة كبيرة.. تدعى الوطن.. كان أمير الضحك قادرا على انتزاع ضحكاتهم من رحم تلك الأيام الصعبة.. ويفرج عن كروبهم رغم أنهم مصلوبون على حائط الأحزان.. فهو تاجر سعادة بارع فى صياغة الضحكة فى مدائن البكاء.. وموهوب فى مزج المرح الخلاب بخبزهم اليومى المبلل بالخوف والدموع.. فيحملونه على الأعناق.. ويحمونه فى حدقات العيون ويبايعونه ملكا متوجا على عرش الفكاهة فى عصر القنوط والكآبة.
 

 
لكن الظلاميين بعيونهم الزجاجية وجلودهم ميتة الإحساس وأرواحهم البغيضة الكارهة للفن والحياة أعلنوا الحرب المقدسة لوأد حرية الإبداع.. وتكريس قيم الأخلاق الحميد.. وشيوع الفضيلة فى ربوع «يوتوبيا» الأرض الطيبة بتطهير الدراما المصرية من الدنس والفاحشة ومن الكوميديا والسخرية.. فزعموا أن «بابا نويل» البسطاء الذى يحمل هداياه من شرائط دعابات ملونة وألعاب بهجة ساخرة هو «أبولهب» شرير يزدرى الدين الإسلامى الحنيف.. بينما هو فى الحقيقة يزدريهم هم ويزدرى فقه المصادرة والتجريم والتحريم وفرض الوصاية والجهامة.. وينزع أقنعة التقوى الزائفة من على وجوههم التى تحصر جوهر الدين فى قشور الزى والمظهر والطقوس.
 
 

 
ولأن هذه الفترة هى أزهى عصور التشدد وتنامى التيارات الظلامية وتصاعد المناخ التكفيرى فى ظل وصول الإخوان إلى سدة الحكم. حيث شاعت ثقافة الحلال والحرام فى الشارع المصرى وسيطر التفكير الرجعى على أدمغة الناس.. وفرض الخطاب الأخلاقى نفسه على الفن ترويجا لمقولة خاطئة هى: «الفنون حلالها حلال.. وحرامها حرام» وهى مقولة تسطح الفن وتشوهه.. فليس هناك «فن حلال وفن حرام» وإلا فوداعا للدولة المدنية ومرحبا بدولة دينية تشيد لمحاكم التفتيش صروحاً بازغة وقصورا شامخة.
 
إن صيحة ازدراء الدين المخيفة التى انطلقت فى هذا المناخ المسموم حوكم بموجبها «عادل إمام» ثلاث مرات.. المرة الأولى فى الدعوى التى رفعها ضده هذا المحامى المكفراتى.. وتم فيها الحكم بحبسه ثم كانت المفاجأة العاصفة فى تأييد الحكم فى الاستئناف.
 
المرة الثانية حينما عاود نفس المحامى رفع دعوى أخرى ضد «عادل إمام» وضد مخرجين ومؤلفين لأفلامه السينمائية هم «وحيد حامد».. و«لينين الرملى» و«شريف عرفة» و«محمد فاضل» و«نادر جلال».. اتهمهم فيها بالإساءة إلى الإسلام.. وقضت محكمة الجنح بعدم قبول الدعوى، وفى الحقيقة أن الحكم الذى أكد فى حيثياته أن حرية الرأى والتعبير من أهم مقومات النظم الديمقراطية وأن الانتقاص منها هو انتقاص من الحكم الديمقراطى السليم.. هو حكم تاريخى يذكرنا بالحكم فى كتاب «فى الشعر الجاهلى » للدكتور طه حسين.
 
 

 
وفى قضية الفنانين أكدت المحكمة أن توجيه الانتقادات لأى تيار فكرى غير مجرم... إنما هناك بعض المتشددين يصرون على تنصيب أنفسهم أوصياء وحراساً ومدافعين عن العقيدة ضد الأخطار، لكن لو افترضنا جدلا أن تلك الأعمال الفنية تتناقض مع فهمهم للعقيدة... فهل معنى ذلك أن يختزل الدين فى فهمهم وتأويلهم؟.. ولماذا صوروا ما جاء فى تلك الأعمال الفنية على أنه خطر على العقيدة.. وهو فى الحقيقة خطر على فهمهم وتأويلاتهم.. لأن العقيدة فى نفوس المصريين كشعب متدين أقوى من أن يهددها عمل فنى.. لكن ضعف موقفهم المستند إلى الظلام والجهل هو الذى صور لهم ذلك، كما أنه يجب التفرقة بين الدين والفكر الدينى من جهة.. وبين ما هو مقدس وما هو غير مقدس.. وعن الادعاء بأن تلك الأعمال الفنية بها تحقير للمسلمين عموما والجماعات.. والهيئة التى يرتديها رجال الدين التى ظهر بها الملتحون والمنقبات فى فيلم مرجان أحمد مرجان وكذلك فيلم الإرهابى فقد أكدت المحكمة أن هذا من أمور السياسة ولا حصانة لها من النقد، خاصة أن الإخوان والجماعات أصبحت طرفا فى المنظومة السياسية للبلاد.. والنقد هنا للجماعات الإسلامية وليس إلى النقاب أو اللحية.. وهو من منطلق الانتقاد الاجتماعى ومعالجة القضية التى تتناولها أعمال فنية كثيرة.. كما أن الأعمال الفنية هى نتاج خيال مبدع.. ولا عقاب على خيال.
 
 
المرة الثالثة التى يتعرض فيها عادل إمام للمحاكمة هى تلك التى يتزعمها بكل أسف مجموعة من النقاد وكتاب الأعمدة الحنجوريين المتشدقين بليبرالية هى براء منهم.. يساندهم بعض الفنانين ومنهم مخرج معروف.. إذا كان الظلاميون قد أعلنوا الحرب المقدسة لوأد حرية الإبداع.. فإن الحنجوريين يتفوقون عليهم فى عشقهم المزمن للكآبة وقدرتهم الفائقة على إطفاء شموع البهجة.
 
 
فقد تباروا فى الفترة السابقة ومازالوا مع الظلاميين فى الهجوم الضارى على «أمير الضحك» وكالوا له الاتهامات التى كان أطرفها وأغربها - والتى تؤكد خبلهم العقلى والنفسى - أن أفلامه العظيمة مثل «الإرهاب والكباب والمنسى وطيور الظلام واللعب مع الكبار والغول والنوم فى العسل والإرهابى» التى يقف فيها على يسار السلطة بضراوة ويكشف عوراتها... ويعرى فسادها.. وينحاز إلى مجتمع الفقراء الذين يعانون من شظف العيش والظلم الاجتماعى... هذه الأفلام التى تعتبر من أهم علامات السينما المصرية فى تاريخها كله.. يرونها أنها صنعت بناء على عقد مبرم بين عادل إمام وبين السلطة الفاسدة التى ينهال فيها عليهم بنقده الحاد والسخرية المريرة فى مقابل أن يثبتوا للشعب أنهم يسمحون بهامش من حرية التعبير والتنفيس يقيهم شر الغاضبين.
 
إنهم يولون ظهورهم ويتجاهلون تماما وظيفتهم الحقيقية التى تحتم عليهم تقييم وإلقاء الضوء على مسيرته الفنية وتجربته الإبداعية الخصبة التى انتصر فيها لقيم العدل الاجتماعى.. وعالج قضايا الواقع السياسى وحقوق أبناء الفقر فى حياة كريمة.. وتصدى لدعاوى التخلف والرجعية التى تمارسها التيارات الإرهابية.. لقد تجاهل هؤلاء الصغار مناصرة الفنان الظاهرة الذى تربع على عرش الكوميديا لأكثر من ثلاثين عاما.. وانبروا يحاسبونه على تصريحاته الصحفية وآرائه السياسية التى تضعه فى خندق أعداء وخدام النظام السابق والمتآمرن ضد الجماهير.. وضد الوطن.. فى رغبة للنيل منه دون سبب مفهوم إلا دوافع مرضية تحتاج إلى علاج نفسى.