الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

طبيب النوم يستعيد البريق من جديد

طبيب النوم يستعيد البريق من جديد
طبيب النوم يستعيد البريق من جديد


إلى أى مدى سيكون بمقدورنا تقدير لوحة الموناليزا، لو كتبَ ليوناردو تحتها مثلًا: هذه المرأة تبتسم ابتسامة خفيفة؛ لأنها تخشى بروز أسنانها المعطوبة، أو: لأنها تُخفى شيئًا ما عن حبيبها؟ هذا الأمر سيُلغى تقدير المشاهد بتقييده بـ«واقع» يختلف عن واقعهِ الشخصى. أنا لا أريد أن يحدث ذلك لفيلم (أوديسا الفضاء..2001).. بهذه الكلمات وصف «ستانلى كوبريك» أوديسته العظيمة، التى تُعتبر الكتابة عنها مخاطرة شديدة، شأنها شأن جميع أعماله، لكن لربما كان هذا التصريح، - وهو الأكثر من بين جميع أقواله اقتباسًا على الإطلاق-، مدخلًا بسيطًا لفلسفته السينمائية.

إن من يشاهد أى عمل لـ«كوبريك» لأول مرة، عليه أن يدرك أنه ليس أمام مهمة سهلة، بل بصدد دخول عالم ظاهره تجريدى سريالى عبثى مؤطر بسرديات درامية بسيطة يسهل على المتلقى والمشاهد العادى فهمها- وهى مدرسة نقيضة لمدرسة العملاق الروسى «أندريه تاراكوفسيكى»- وجوهره الغموض والإبهام؛ بَيْدَ أن «كوبريك» كان يقصد أن يتضمن عمله الفنى رسالة ما، يجتهد فى إثارة فضول المتلقّى والغوص فيه، وهو الأمر الذى يخلق استجابات من زوايا غير متوقعة، إضافة إلى ابتكار صوَر فريدة من خلال كيفية ما فى استخدام تقنيات العرض، أو فى معالجة نصّ العرض ذاته بما يسهم فى زيادة درجة التعلّق والاندفاع صوب العمل السينمائى.
يُعتبر فيلم الرعب (The Shining) أو (البريق) أحد أكثر الأفلام إثارةً للجدل، سواء فى تاريخ «كوبريك» أو فى تاريخ السينما بوجه عام، حتى الوقت الراهن لايزال الجمهور يخرج بنظريات تشرح نهايته الشهيرة، التى لاتزال إلى الآن غامضة بقدر لوحة الموناليزا، ويكفى أن العظيم «روبرت دى نيرو» رفض دور البطولة «جاك تورانس» قبل «جاك نيكلسون»؛ لأنه اعتبر أن السيناريو «ظلامى» للغاية، وتسبب له فى كوابيس.
وهو أيضًا الفيلم الذى أضاف فيه «كوبريك» رؤيته، وأقحمها على العمل الأصلى المقتبس منه، وهو رواية بالاسم نفسه كتبها أديب الرعب المخضرم «ستيفين كينج» عام 1977، الذى لايزال حتى الآن ناقمًا على هذا الفيلم بل ويعتبره مثالاً سيئًا على الاقتباس السينمائى للعمل الأدبى، ربما لأن «كوبريك» نفسه كان يرى أن الرواية ليست عظيمة بقدر حبكتها، فـ«كوبريك» لم يكن يبحث عن كتب تحقق نجاحًا تجاريّا كبيرًا Bestseller، بل كان يختار الرواية انطلاقًا من شعوره العميق إزاءَها، فهو الذى قال: «إننى أدخل إلى المكتبة، ثم أغلق عينى وأتناول الكتب من على الرف. وإن لم يعجبنى الكتاب بعد قراءة القليل منه فقط، فلا أنهيه».
الفيلم ببساطة يروى أحداثًا عاشها «جاك تورانس» الكاتب المدمن على الكحول الذى يقيم فى أحد الفنادق المعزولة مع زوجته وابنه الصغير «دانى» الذى يملك قدرات غير طبيعية تمكِّنه من اكتشاف الماضى الفظيع لهذا الفندق؛ حيث شهدت ممراته حادث قتل قديم، وفى أحد الأيام تسيطر روح الفندق على «جاك» الذى أصبح مصدر خطر على زوجته وابنه.
لقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا رُغم عدم رضى «كينج» عنه، ناهيك عن اعتراضه على أداء «نيكلسون»، مستنكرًا فكرة استسلامه للجنون منذ بداية الفيلم، وأرجع ذلك إلى تأثره بتجربة فيلم (طار فوق عش الوقواق) التى لم يكن قد مضى عليها وقت طويل، كما نراه فى أحد لقاءاته يصف الفيلم أنه «يشبه سيارة نظيفة وجميلة ولكنها تفتقد لمحرك يشغلها».
وقد تبنّى قراء الرواية هذا الرأى معتبرين أن الفيلم فاتر خالٍ من أى روح فنية، ورُغم أن هذا الأمر كان قاسيًا على «كوبريك»؛ فإن عزاءه الوحيد أن رأى «كينج» ينطبق تقريبًا على جميع الأعمال التى اقتبست كتاباته، سواء فى السينما أو التليفزيون، هذا فضلًا عن أن «جاك تورانس»، بالنسبة لـ«كينج»، هو رجل يصارع من أجل الحفاظ على عقله، لكنه يفقده فى نهاية الأمر.
عدم رضا «كينج» عن نسخة «كوبريك» بكل ما فيها من أداء تمثيلى وإخراجى وقصصى، جعلته يقتبس الرواية فى مسلسل قصير عام 1997، لاقَى فشلًا ذريعًا، وذلك رُغم أن (البريق) يُعتبر أنجح عمل مقتبس من أعمال «كينج».
لكن وفى 19نوفمبر عام 2009، صرّح «كينج»، خلال إحدى ندواته الشهيرة بمسرح كانون فى مدينة أونتاريو الكندية، بأنه يعكف على كتابة تتمة «sequel» لروايته الأصلية، وقال: إن الفكرة جاءته عام 1998 حينما سأله أحد معجبيه عن مصير الطفل «دانى تورانس» ابن «جاك تورانس»، ليخرج لاحقًا مؤكدًا أن القصة ستركز على «دانى» بعد أن بلغ عامه الأربعين، ويعيش فى ولاية نيو هامبشاير؛ حيث يعمل فى دار رعاية ويساعد مرضى مصابين بأمراض قاتلة عن طريق قوى خارقة.
وفى 15يناير 2013، طرح «كينج» رسميّا رواية (Doctor Sleep أو طبيب النوم)، وبعد ذلك بعام قامت شركة «وارنر برارز» بشراء حقوق الرواية لتحويلها إلى فيلم، وفى 2016 أعلنت الشركة أن السيناريست الأمريكى «أكيفا جولدسمان» هو من سيعكف على كتابة السيناريو الخاص بالفيلم، إلا أن المشروع توقف قليلًا لعراقيل فى الإنتاج والميزانية، ذلك أن الشركة قد طرحت فى 2017 اقتباسًا آخر لـ«كينج» هو فيلم الرعب (IT أو الشىء)، الذى حصد إيراداتٍ كبيرة فى شباك التذاكر بجميع أنحاء العالم، وهو الأمر الذى شجع «وارنر» للانتهاء من (طبيب النوم) فى أسرع وقت.
فى يناير 2018، اختارت «وارنر» كاتب السيناريو «مايك فلاناجان» لإعادة كتابة سيناريو «جولدسمان» ولإخراج الفيلم، وهو الذى أخرج اقتباسًا آخر لـ«كينج» بعنوان (Gerald>s Game أو لعبة جيرالد)، وبحلول نوفمبر من العام نفسه، كانت «فلاناجان» قد انتهى من السيناريو واختيار الممثلين؛ حيث اختار النجم الأسكتلندى «إيوان مكريجور»، لدور البطولة، والممثلة «أليكس إيسوى» فى دور «ويندى تورانس»، وهو الدور الأسطورى الذى جسدته «شيلى دوفال» فى فيلم «كوبريك»، وفى سبتمبر 2018، بدأ العمل رسميّا على تصوير الفيلم على أن يطرح فى دور العرض فى أكتوبر العام الجارى.
 الأسبوع الماضى، طرحت «وارنر برارز» رسميّا الإعلان التشويقى الأول لفيلم (طبيب النوم)، وذلك بشكل مفاجئ، وهو ما أثار ضجة كبيرة على الساحة الإعلامية الأمريكية، إلا أن الضجة الحقيقية كانت بسبب أن الإعلان تضمن مشاهد ولقطات من فيلم «كوبريك»، الأمر الذى قوبل بعلامات استفهام كثيرة؛ خصوصًا من جانب عشاق سينما «كوبريك»، الذين يرون أن مسألة الغموض واستحالة تفسير «ثيمات» أفلامه بشكل قاطع، أحد الجوانب الرئيسية لأعماله.
ورُغم أن «وارنر» لم تؤكد بشكل قاطع أن شخصية «جاك» ستظهر فى الفيلم؛ فإن دوره فى الرواية مهم للغاية؛ خصوصًا فى النصف الثالث من القصة ومع اقتراب ذروتها، حينما يعود «دانى» إلى الفندق الذى وقعت فيه أحداث (البريق)؛ لمواجهة الشرير الرئيسى للقصة، وهى شخصية «روز» التى تجسدها الممثلة السويدية «ريبيكا فيرجسون»، وذلك بمساعدة شبح أبيه «جاك»، الذى لايزال مسجونًا داخل الفندق.
وفى حالة كان سيناريو «فلاناجان» ملتزمًا برواية «كينج»؛ فإن «جاك تورانس» سيكون له دور فى الفيلم، ولما كان العملاق «نيكلسون» معتزلًا التمثيل منذ 2010 لظروف صحية؛ فإن جميع التوقعات تتمحور حول إمّا أن يستخدم «فلاناجان» وجه «نيكلسون» عبر المؤثرات البصرية، أو يعين ممثلًا آخر للدور نفسه، وهو احتمال اعتبره البعض ضعيفًا، بَيْدَ أنّ الفيلم الجديد استخدم مشاهد بعينها من العمل الأصلى.
فى الوقت نفسه، قال «فلاناجان» فى تصريحات لمجلة «إنترتيمنت ويكلى»: إنه استغرق وقتًا طويلًا لإقناع «كينج» بأن يكون فيلمه الجديد تتمة لفيلم «كوبريك» وليس الرواية، مؤكدًا أن المشروع لم يكن ليخرج للنور إلا إذا حمل بصمة «كوبريك»، وأن السيناريو حصل على «مباركة» «كينج» نفسه. 


تمت مراجعة التصحيح.. أحمد رجب