الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«مسافر ليل».. المسافة بين الفكرة والفعل

«مسافر ليل».. المسافة بين الفكرة والفعل
«مسافر ليل».. المسافة بين الفكرة والفعل


تبقى الأعمال الخالدة صالحة للعرض رغم مرور الزمن وصلاح عبدالصبور الشاعر المصرى المجدد والرائد فى الشعر العربى الحر لا يزال حاضرًا معنا برائعته الدرامية ذات الفصل الواحد «مسافر ليل»، والتى تجاوزت ليالى عرضها المائة بعشرين ليلة فى علامة جديدة تؤكد صحة الاعتقاد بقدرة متذوقى الفنون الجميلة على الحضور الحى لدعم المسرح بمعناه الجمالى.

وصلاح عبدالصبور يعبر من القرن العشرين للحادى والعشرين وسيعبر للمستقبل بأعماله المسرحية، لأنه يحرص على مناقشة المشترك الإنسانى التاريخى عبر أزمته الروحية العميقة وموضوعه الإبداعى الأثير ألا وهو المسافة الشاسعة بين الفكرة والفعل، بين الرؤية والقدرة، بين الكلمة والسيف، وهى أزمة الكاتب فى كل العصور. هذا ولا توجد كتابة ولا إبداع حقيقى ولا تقدم مجتمعى إلا بوجود مثل هذه الأرواح الاستثنائية والعقول المختلفة، التى ترى ما يجب أن يكون لها وللناس وتتشبث بما هو مستحيل لتحقيق أقرب قدر من المتاح والممكن من الحق والخير والجمال.
ولعل الراوى الذى يحكى عن بطل روايتنا الذى هو رجل يدعى.. يدعى ما يدعى ماذا يعنى الاسم؟ فيه من روح وسمات المثقف المعاصر الكثير، إنه محايد يروى ويحكى ويشرح ولكنه لا يملك القدرة على الفعل، فالسيد (عبده) راكب القطار الليلى البارد الذى يقتله محصل التذاكر بالخنجر، حيث القتل ملامسة حميمية أبعد من القتل بالسم أو بالرصاص أو بالشنق لا يملك الراوى التدخل لإنقاذه، ولكن المتفرجين المشاركين فى عربة القطار بدور ركاب العربة كما أراد المخرج ومصمم الديكور محمود فؤاد، حيث يدور الحدث فى العربة ليصبح المتفرج إما شاهدًا أو ضحية، حيث عربة القطار المتحركة فى جوف ليل بارد، وبينما الراكب المستسلم لعامل التذاكر يعيش ذعرًا رهيبًا، إذ يلتهم العامل تذكرته الخضراء، ثم يستدعى له معظم طغاة التاريخ ليتقمصهم طاغية تلو الآخر، الإسكندر، تيمورلنك، هتلر.. وغيرهم، وبصحبته أدوات القتل المشنقة والغدارة والحبل، ويكشف عن اسمه فهو عشرى السترة، الذى له سترات عشر، وهو فقط صاحب الأوراق البيضاء التى تعنى التاريخ الناصع والذى أقام نفسه على الناس قيمًا باسم الله، كما صدمنا صلاح عبدالصبور فى استعارته الشعرية الشهيرة (من قتل الله وسرق بطاقته الشخصية؟)، ليوحى فى واحدة من تأويلاته المهمة بمسألة السلطة الدينية المطلقة التى تتحدث وتتصرف باسم الله فى الأرض ,كما يوحى أيضًا بمزيج من التاريخ السلطوى الذى ينفى شرع الله فى حرية البشر وإرادتهم المستقلة مشيرًا لكل تاريخ البشر الاستبدادى،إلا أن رؤية المخرج تضع علامة الشرطى الأمريكى الشهيرة على ملابس عامل التذاكر فى إشارة واضحة لشرطى العالم الجديد، ثم عندما يتخلص من ستراته المتعددة ليخرج لنا الأوراق البيضاء التى يحملها. إنه ذلك الشخص الذى قتل الحرية الإنسانية وإرادة الحياة، وسترته الأخيرة تحمل علامات النازية والفاشية وغيرهما، ولكنها تتجاهل أهم علامات القهر المعاصرة الصهيونية الاستبدادية والتسلط باسم الله... النص يفرض حضوره اللغوى والدرامى على العرض ويمنح علاء قوقة قدرة واضحة على الاعتناء بالتفاصيل، حيث يمزج بين المبالغة الكاريكاتيرية وعبثية السلوك المستبد ويتيح لجهاد أبوالعينين فى دور الراوى المثقف فرصة القيام بتفاصيل توحى بذلك الحياد المرعب مع ألم الإدراك والوعى، واستطاع جهاد أن يصل بعمق قدراته التمثيلية إلى تلك المنطقة الخفية فى دور الراوى وهو ألم المثقف إزاء عجزه عن الخروج من منطقة الوعى بالفكرة لمنطقة القدرة على الفعل، أما مصطفى حمزة فقد كان واعيًا بحالة الاستسلام اللانهائية للراكب المغلوب على أمره، وظل أداؤه قادرًا على صناعة السخرية أكثر من العطف، لأن هذه الدرجة من السلبية الإنسانية لا يمكن معها حدوث التعاطف الكامل، ولذلك فمقاربته التمثيلية لشخصية تقترب أيضًا من المبالغة الضاحكة التى تدعمها التعليقات الموسيقية الساخرة، حيث أخذ المخرج عرضه فى هذا الاتجاه مما منحه حيوية خاصة، «مسافر ليل» تستعيد لنا عالم صلاح عبدالصبور، حيث المسرح بمعناه المعرفى والجمالى.
كما يمكن فهم العرض فى إطار قدرته على جعل لغة صلاح عبدالصبور الشعرية الفصحى سلسلة فى الأداء التمثيلى،ممكنة الفهم، ونجح فريق العمل فى الخروج بالإيقاع الشعرى المنتظم الحر إلى ما يشبه الحوار العادى حيث المقدرة الواضحة على إدراك مأزق الغنائية الرتيبة التى تحدث فى المسرح الشعرى والإفلات منه ببراعة، بل استخدام الموسيقى وتكرار بعض الجمل البسيطة للاقتراب بالفصحى الشعرية من إيحاءات ما يقابلها من مفردات عامية طازجة وجديدة، مما منح الفصحى الشعرية حضورًا خاصًا بمذاق اللحظة الآنية.
واقترب بها مما أراده صلاح عبدالصبور وهو طابع الكوميديا السوداء، كما منح الرؤية الإخراجية ظلالًا موحية بمأساة الفرد إزاء الحضور القوى للمجتمع الذى يضغط عليه لدرجة الاستلاب الذى يدفع الفرد العربى لشعور عميق بالاغتراب تجاه تعدد السلطات الضاغطة وعلى رأسها سلطة المجتمع ذاته، مما يمكن معه فهم العرض فى إطار ما يحدث من نزاعات مسلحة حادة فى عالمنا العربى الجريح.>