النصابون فى الأرض

سيد طنطاوي
عندما قابل رمضان العبد ضحية حفظ الله سليمان فى الترام وعلم أنه جاء للقاهرة لاستثمار أمواله قرر أن يكون هو ضحيته القادمة.. الواقعة تعود لأربعينيات القرن الماضى لأشهر واقعة نصب جسدها فيلم «العتبة الخضراء».
النصب الآن له طرق مختلفة، فمحترفوه يطلون من الفضائيات وينتحلون صفات رسمية، منهم من ادعى أنه دبلوماسى وآخر مستشار برئاسة الجمهورية.
الأسبوع الماضى أصدرت وزارة الخارجية بيانا تحذر فيه وسائل الإعلام من استضافة المدعو جلال الرشيدى بصفته المزيفة - مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة سابقا - وقالت الخارجية إنه لم يعمل فى السلك الدبلوماسى أبدا.
قبلها بأيام استضاف أحد البرامج الفضائية شابا على أنه المطرب الصاعد سيف مجدى، لكن تبين أنه ليس صاحب أغنية ابن الشهيد، وبعد الحلقة احتج سيف مجدى الحقيقى، وأكدت والدته أنها لن تترك الأمر دون اتخاذ الإجراءات القانونية.
منذ ما يقرب من عام ونصف العام ادعى طالب أزهرى فوزه فى مسابقة بماليزيا بجائزة أفضل قارئ ومبتهل، وتهافت المسئولون - آنذاك - على تكريم مولانا المزيف، إلى أن اكتشف الأزهر أن الطالب لم يفز بأى مسابقة ولم يسافر من الأساس.
إطلالات جديدة للنصابين، يظهرون على الهواء وكأنهم يثقون أنهم لن يكتشفهم أحد، وربما يكون ذلك نابعا من تفسير علماء النفس لـ «شخصية النصاب» الذى يرونه شخصًا حاد الذكاء ولديه ثبات انفعالى كبير.
الجرائم متعددة، فالعام الماضي، حضر مسجل خطر شقى عزاء عُمر عبدالرحمن الأب الروحى للجماعة الإسلامية، وقدم نفسه على أنه مستشار رئاسة الجمهورية وحضر مندوبًا عنها للعزاء.
التساؤلات كثرت: كيف تقدم مؤسسة الرئاسة العزاء فى رجل حرض على القتل والإرهاب؟، الجميع صدق كذب ذلك النصاب لأن أدواته كانت سلمية، فقد حضر العزاء مستقلًا سيارة ماركة تويوتا سوداء اللون، ومطبوع على الزجاج الخلفى لها شعار رئاسة الجمهورية، وزعم أنه موفد من رئاسة الجمهورية لتقديم واجب العزاء، ولم يسأله أحد عن هويته، لكن بعد ظهوره فى الإعلام اكتشفت حقيقته وأُلقى القبض عليه وأحيل للمحاكمة.
كما استولى أحد النصابين على 56 مليون جنيه من رجل أعمال بدعوى تسليمها كتبرعات لصالح المشروعات القومية، فيما استولى آخر على 450 ألف جنيه من طبيبة بنفس الطريقة، وانتحلت سيدة تُدعى داليا التهامى، صفة مندوبة رئاسة الجمهورية، فى مؤتمر انتخابى بالمنوفية.
فى نوفمبر الماضى، كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فضيحة كُبرى وهى أن حاتم الجمسى الذى تستضيفه قنوات فضائية ليطل منها محللًا للأحداث المتعلقة بأمريكا ويصفه الإعلاميون بأن خبيرا فى الشأن الأمريكى هو بائع سندوتشات «برجر وبيض» فى الولايات المتحدة الأمريكية.
قال حاتم الجمسي، لـ«نيويورك تايمز» إن بداية ظهوره كانت عندما استضافته إحدى القنوات على أنه مصرى يعيش فى الولايات المتحدة يبدى رأيه فى الانتخابات الأمريكية.
واهتمت وسائل الإعلام به، بسبب رأيه المغاير فى الانتخابات الأمريكية، فى تلك الفترة، وتوقعه بفوز ترامب فى وقت لم يكن يتوقع أحد ذلك.
ورغم أنه ظهر فى المرة الأولى على أنه مواطن مصرى يعيش فى أمريكا، إلا أن القنوات الفضائية، بدأت فى استضافته، وتحول من مواطن مصرى يعيش فى أمريكا إلى خبير فى الشأن الأمريكى.
كل ذلك أعاد للأذهان أشهر واقعة نصب وقعت فى أربعينيات القرن الماضى حينما باع نصاب يُدعى «رمضان أبو زيد العبد»، الترام لشاب قروى هو حفظ الله سليمان، مُقابل 200 جنيه.
بعد اكتشاف الجريمة قال «رمضان» فى حديثه لجريدة «أخبار اليوم»: إنه كان يركب الترام بشارع قصر العيني، وبجواره رجل «غلبان» يبدو عليه علامات السذاجة المفرطة، فأيقن أن هذا هو فريسته، فأعطاه سيجارة، ومن ثم تبادلا الحديث، ومن هنا عرف منه «العبد»، جاء للعاصمة ليستثمر مبلغًا من المال فى عملٍ خاص يليق به، وأن معه بعض المال، الذى سيمكنه من البدء فى العمل.
وعندما أبدى القروى ملاحظة على ازدحام الترام، فقفزت الفكرة سريعًا إلى رأسه، فعرض عليه النصاب أن يشترى الترام، ليدر عليه ربحًا كبيرًا، فتحمس «حفظ الله» للعرض.
اتفقا سويًا على الصفقة، وطلب النصاب 200 جنيه ثمنًا للترام، وقال له: «المبلغ قليل لأننا بلديات»، وأنه لو باعه لغيره سيحصل على ألف جنيه.
لم يكن مع «حفظ الله» سوى 83 جنيهًا فطلب منه أن يأخذ 80 جنيهًا ويترك له 3 جنيهات ويكتب بالباقى كمبيالة، وهو ما حدث.
وفى ميدان العتبة، وقف «حفظ الله»، ينتظر بمنتهى اللهفة الترام رقم 30 ليتسلم أملاكه، واتجه النصاب إلى مُحصل التذاكر، وترك «حفظ الله»، مع زميله ليتولى مهمة إلهائه، وأعطى النصاب قرش صاغ كاملا للكمسرى.
كانت التذكرة حينها بمبلغ 8 مليمات، وطلب من الكمسارى أن يحتفظ بالباقى نظير الاهتمام ببلدياته؛ الذى سينزل فى آخر الخط، لأنه غريب ولا يعرف شيئًا.
وعند صعود «حفظ الله» نادى النصاب بأعلى صوته على الكمسارى، محصل التذاكر، قائلاً له: «خللى بالك»، فرد عليه: «خلاص فهمت»، فابتسم «حفظ الله»، وقال له النصاب بأعلى صوته أمام الكمسارى: «تطالبه بكل الفلوس وإلا نلغى البيع»، فهز «حفظ الله» برأسه موافقًا، ولم يفهم الكمسارى شيئًا، وظن أنهما يتحدثان عن صفقة فى البلد.
عند نهاية الخط نبه الكمسارى «حفظ الله» بأن عليه النزول، فطلب الأخير الإيراد فدهش الكمساري، وقال له: «أى إيراد»، فرد عليه: «آه .. فاكرنى عبيط»، وزادت دهشة الكمسارى حين قال له «حفظ الله»: «هو مش قال قدامك تطالبه بكل الفلوس وإلا نلغى البيع»، وسأل الكمسارى باندهاش أكبر: «أى بيع؟!»، فرد عليه «حفظ الله» منفعلاً وقد خرج عن شعوره: «إنت هتنصب عليا؟»، وتطور الأمر إلى خناقة انتهت فى قسم الشرطة.
تم إلقاء القبض على «النصاب» وصدر ضده حكمًا سنتين و6 أشهر حبس، وتحولت قصة حفظ الله ورمضان فيما بعد إلى فيلم «العتبة الخضراء».
د. سوسن فايد أستاذ علم النفس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية قالت إن النصاب يتمتع بدرجة كبيرة من الذكاء، وبعضهم يُحسب على المُثقفين، ويعرف كيف يختار ضحاياه، وله مع كل ضحية أسلوب خاص، وفى كل الأحوال هو شخص شديد الاحتياج للمال.
وأضافت: «النصاب يخاطب النقطة التى تكون ضحيته بها داء الطمع فيها، ويعطيه ضمانات وهمية.
ونفت «فايد» أن يكون النصاب مصابًا بمرض نفسي، وأكدت أنه لو كان مصابًا بمرض نفسى فستكشفه ضحيته على الفور، لكنه شخص لديه ثبات انفعالى ويستطيع بكل سهولة أن يكون محل ثقة لضحيته.
وأوضحت أن الضحية فى الأغلب هى التى تعانى من مرض نفسى يستغله النصاب، لكن النصاب قد يكون لديه بعض العُقد التى تبرر جرائمه، فمثلًا النصاب قد يرى أنه من حقه الحصول على أموال الأغنياء باعتبارها حقًا له وهم استولوا عليه، ويصدق هذا الأمر بكل سهولة نتيجة الفروق الطبقية وغياب العدالة الاجتماعية، وهناك يحركه الحقد الذى قد يرتبط به منذ الطفولة، والفريسة التى تعانى من الاضطراب النفسى تفقد القدرة على التوازن، ولا يكون لديها حكم جيد على الأمور.
وأوضحت أستاذ علم النفس، أن سبب خروج هؤلاء النصابين على الهواء ومخاطبة الجمهور أنهم لديهم شيء من الجرأة والثقة الزائدة فى النفس، وأنه على وسائل الإعلام التواصل مع الجهات المعنية لمعرفة حقيقة الأشخاص الذين يتحدثون إليها.
أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسى بجامعة الزقازيق، قال إن النصاب يتمتع بالجرأة وقادر على جذب الناس إليه بهدوء الأعصاب ولديه موهبة الحديث إلى الناس بأن يهيئ لهم ما يريدونه.
وأوضح «عبدالله» أن النصاب يحتاج إلى جمهور يقبل الإيحاء بسهولة ويسر، ولذلك يختار الفئات التى يتأكد أنها ستصدقه، وفى المجتمعات التى ترتفع فيها نسبة الأمية يكثر فيها النصابون، وكثرة الكلام بين الناس فى مصر تحديدًا تجعل سيرة النصاب سريعة الانتشار وهو ما يستغله الجانى فى سهولة إقناع الناس بأن ما يقوله هو الصدق.
وأشار أستاذ الطب النفسى إلى أنه ليس شرطًا أن يعانى النصاب من اضطراب نفسي، كما أن ممارسته للنصب لا تصيبه بالاضطراب النفسي، والتوصيف الدقيق للنصب أنه انحراف أخلاقى، ولذلك ليس كل انحراف أخلاقى يُصنف أنه اضطراب نفسي، لكنه هناك من يستغل التأثيرات النفسية وبصفة خاصة ورقتا الدين والوطنية وهما ورقتان يقبلهما المصريون سريعًا.
علاء المهدى أستاذ علم النفس قال إن النصاب يستخدم أسلوبًا مُهذبًا فى إقناع ضحاياه، ويوهمهم بأنه قادر على القيام بمهام ووظائف يرونها صعبة من وجهة نظرهم، كما أن النصاب لديه القدرة على معرفة نقاط الضعف فى الضحية واللعب عليها واستغلالها، خاصة أن إجادة الإغراء صفة ملازمة للنصابين.