شيوخ يحاربون الله!

عبد المنعم شعبان
لم يستوصوا بهم خيرًا يا رسول الله.. لم يطبقوا فيهم قول ربك ورسالته السامية إليك ( ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).. استحلوا دماءهم، وحرّضوا على تدمير دور عبادتهم، ونادوا بفرض الجزية عليهم، وحرّموا تهنئتهم فى أعيادهم، وارتفع سقف فتاواهم المجنونة من التحريض إلى التكفير ثم إلى القتل.. زرعوا بذور الضغينة العمياء والحقد الدفين فى نفوس العامة والبسطاء.. أطلقوا نار الفتنة وأشاعوا خطاب التطرف والكراهية، وتحت أقدام النخاسة الفكرية والتعصب المذهبى شوّهوا إسلامنا.
إنهم شيوخ يحاربون الله.. يعادون الفطرة السوية والإنسانية الحقة.. يمزقون أوصال الوطن، وينسفون أول وأهم مبادئ الدستور وهو (المواطنة).. أفاعى يبثون سموم الخراب فى العقول والأوطان بفتاواهم الضالة المضلة للتحريض ضد الأقباط.. فتاوى تمثل غطاءً مناسبًا لتمرير الفكر الداعشى ونشر الإرهاب، وتكشف عن مستوى الاستهتار الإجرامى والعبثى بالحياة الإنسانية الذى انحدر إليه كل من قام ويقوم بتأصيل هذا المنهج المتدنى.. منهج يتعامل مع جزء أصيل من نسيج المجتمع المصرى على أنهم «ذميون لا مواطنون».. ينظرون لأقباط مصر ليس باعتبارهم مواطنين، بل ملة وحدهم، جماعة دينية مختلفة ومستقلة، وذات حدود معنوية فاصلة عن عموم المصريين، «أهل ذمة أو أهل ملة أو أهل كتاب»، وتلك هى المأساة.. وهذه هى الرسالة التى حانت: (باسم الدستور الذى يحكم والمواطنة التى ينبغى أن تسود فإن كل من يعيش على أرض هذا الوطن الغالى.. مواطنون مصريون فقط.. لمسمى آخر لهم).
الذين قتلوا «سمعان» بفتاواهم!
لم يكن حادث مقتل الكاهن سمعان شحاتة، راعى كنيسة عزبة جرجس ببنى سويف، فى منطقة مؤسسة الزكاة بالمرج. مجرد حادثة قتل عادية يمكن تمريرها دون الوقوف أمامها بالتحليل الدقيق والشرح الوافى والدراسة المستفيضة لأبعاد الحادث المؤلم والخطير، فالمتابع لتحقيقات نيابة حوادث شرق القاهرة الكلية برئاسة المستشار إسلام الجوهرى رئيس النيابة مع المتهم بقتل الكاهن سيجد أن المتهم - الذى حددت محكمة الاستئناف جلسة 11 نوفمبر كأولى جلسات محاكمته أمام الدائرة 2 جنايات بمحكمة شمال القاهرة بالعباسية، برئاسة المستشار أحمد الدقن- قد اعترف بارتكابه الواقعة، وأثبتت أقواله سلامة قواه العقلية، وقال أمام النيابة نصًا: «المسيحيون كفرة وقتلهم واجب شرعى». وأضاف المتهم أمام النيابة أنه لا يعانى أى مرض نفسى، وكان فى كامل وعيه أثناء قتل المجنى عليه، مشيرًا إلى أنه قبل يوم الحادث خطط لقتل أى كاهن يراه أمام الكنيسة، ومن أجل ذلك اشترى السلاح الأبيض «الساطور»، ونزل ووقف فى الشارع بالقرب من الكنيسة، وما إن لمح المجنى عليه حتى سارع إليه، وباغته بطعنات متفرقة.
يخطئ من يتصور أن من قتل «سمعان» هو هذا الشاب الساذج الأحمق فقط أو أن مثل تلك الحوادث البشعة غير قابلة للتكرار طالما تملأ الساحة العامة فى مصر بعض الآراء المتشددة والفتاوى التحريضية المثيرة للفتنة.. ويجب الاعتراف أن تلك الفتاوى موجودة فى بعض كتب التراث، وبين سطور المتشددين فى فهم الفقه الإسلامى من الشيوخ القدامى، كما أن حياتنا المعاصرة تضم عددا كبيرا من الشيوخ الذين يحملون فى عقولهم تطرفًا أشد خطورة من السابقين.
القائمة السوداء للمحرضين
التحريض على قتل الأقباط هو أحد أهم روافد ماخور الدعارة الفكرية التى يمارسها عدد ممن يسمون أنفسهم «علماء» باسم الدين.. ويأتى الشيخ القطرى المصرى يوسف القرضاوى، على رأس قائمة الشيوخ مشعلى الفتنة، بعد انتشار فيديو له يجيز الهجمات الانتحارية، إذا كانت فى مصلحة «الجماعة»، على حد وصفه. وذلك ردا على سؤال حول حكم التفجيرات الانتحارية التى يسقط على إثرها مدنيون، وقال أيضا فى سياق الفتوى ذاتها «لا يصح لفرد أن يتصرف بمفرده إذ لا بد له من التزام الجماعة والانقياد لها». وجاءت تلك الفتوى الصادمة لـ«القرضاوى» لتحسم الجدل حول مصدر ومبررات الفكر الذى يعتنقه الانتحاريون فى تفجير الكنائس، إذ يقول الشيخ الإرهابى يوسف القرضاوى: «يجوز للفرد أن يقدم على تفجير نفسه بغرض استهداف تجمع تابع للنظام، أو مؤسسات الدولة التى يعيش فيها حتى لو نتج عنه ضحايا فى صفوف الناس، شريطة أن يكون هذا العمل موافقا لما تراه الجماعة».
ويأتى عدد من رموز الفكر السلفى فى مصر وشيوخه فى المرتبة الثانية بعد القرضاوى فى التحريض ضد الأقباط.. ومنهم المتحدث باسم الجبهة السلفية الدكتور خالد السعيد، الذى طالب بفرض الجزية على الأقباط، كما اتفق مع باقى شيوخه وزملائه فى ضرورة منع بناء أو ترميم الكنائس. بل ويرى أيضا، أن كراهية المسيحيين فريضة واجبة على المسلم؛ لأنهم كفار حتى أنه أفتى بأن المسلم الذى يتزوج من مسيحية فإنه مطالب ببغضها على دينها، حتى تقبل الإسلام.
ولا يمر عام دون أن يتحفنا منظر الدعوة السلفية ومفتيها الأكبر ياسر برهامى، بإطلاق فتاوى تكفر المسيحيين وتحرم تهنئتهم بأعيادهم، فضلا عن فتواه المتشددة فيما يتعلق بالحذر من علاقة المسلمين بهم، ويأتى صديقه فى تهديد السلام الاجتماعى المهندس عبدالمنعم الشحات، ليجيز الدعاء على المسيحيين. أما القيادى السلفى رفاعى سرور، فذهب لأبعد مدى ممكن فى الانحطاط والإرهاب بعدما أباح ذبح الأقباط بل ومؤيدى الرئيس عبدالفتاح السيسى، معتبرا أن «هؤلا جميعا من الكفار والمرتدين عن الدين»(!).
كما أفتى الشيخ أبوإسحاق الحوينى أحد قيادات كبار السلفية، بتحريم بناء الكنائس، فقال فيها: «فى ميثاق عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه إذا هُدمت كنيسة وسقطت لا ينبغى لها أن تجدد». كما أفتى محمد إسماعيل المقدم، الأب الروحى للدعوة السلفية، بألا يبدأ المسلم السلام على النصارى، قائلاً: «لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم فى طريق فاضطروهم إلى أضيقه».
تتبع ورصد الفتاوى التى أصدرها عدد من مشايخ وقيادات، ومنتمون للتيار السلفى، تستهدف أقباط مصر سواء بالتحريض أو التكفير أو الدعوة للعزل والمقاطعة، يجب أن تقودك إلى موقع «أنا السلفى» الذى نشر فيديو عام 2012 وصف خلاله الشيخ ياسر برهامى، نائب رئيس الدعوة السلفية، الأقباط بالأقلية المجرمة الكافرة، قائلاً: «إخواننا النصارى الكفار إن بقوا على كفرهم فهم فى النار»، وفى أكتوبر 2010 أشاد ياسر برهامى عبر موقع «أنا السلفى» بحملة تدعو لمقاطعة المسيحيين، خاصة مصالحهم الاقتصادية، وأفتى بألا يشترى المسلمون دواء منهم ولا يدخلون مستشفياتهم.
وفى فيديو شهير للقيادى السلفى أحمد محمود عبدالله، الشهير بأبو إسلام، هدد المسيحيين بالقضاء عليهم خلال يومين بسبب ممارسة الكنيسة التنصير فى صفوف المسلمين. وقال فى برنامجه على قناته «الأمة»: «لسنا نحن من فتح باب الاعتداء عليهم، لكن هم من يمارسون التنصير فى صفوف المسلمين منذ خمس سنوات». وأضاف: «تحدثت معهم كثيرًا، محذرًا من الفتنة، وقلت هذا الكلام لرفعت فكرى، وهو قس مصرى، وزدت: لو أنتم خمسة ملايين لن تستطيعوا تنصير إلا خمسة ملايين آخرين، ولكننا 80 مليونًا يمكننا نخلص عليكم خلال يومين».
الخطير فى الأمر أن التيارات التكفيرية والمسلحة وبعض الشباب من البسطاء والسذج الذين يتم تجنيدهم فى هذه التيارات قد اعتمدوا فى جرائمهم ضد المصريين على هذه الفتاوى، بل اعترف كثير من قياداتهم بذلك، فالمتتبع للاعترافات والتحريات مع كثير من المقبوض عليهم من جماعات «أنصار بيت المقدس»، و«ولاية سيناء»، وحركة «حسم الإخوانية» سيجد أنهم أكدوا تلقيهم ما يسمى «العلم الشرعى» على يد شيوخ سلفيين وإخوان مشاهير(!)
الإخوان فى قلب التحريض
لم تغب جماعة الإخوان الإرهابية لحظة عن مشهد التحريض ضد الأقباط، بل واعتبرته جزءًا من خطتها الكبرى فى التحريض ضد الدولة المصرية، وبالعودة لتاريخ الجماعة فى هذا السياق سنجد أن مصطفى مشهور، المرشد الخامس للإخوان المسلمين وأحد منظريها ومفكريها أفتى بأن «مرجعية الحكم هى الشريعة الإسلامية، وأن على الأقباط أن يدفعوا الجزية بديلاً عن التحاقهم بالجيش حتى لا ينحازوا إلى صف الأعداء عند محاربة دولة مسيحية».. ويبدو أن مشهور لم يكن يعلم أن صاحب فكرة تحطيم خط بارليف فى حرب 1973 هو اللواء القبطى المصرى «باقى زكى».
كما أصدر تنظيم الإخوان فتوى رسمية فى برنامج حزب الحرية والعدالة المنحل بعدم جواز تولى رئاسة الدولة القبطى والمرأة. وقال محمد مهدى عاكف مرشد التنظيم- آنذاك- إن الإسلام يحرم تولى غير المسلم (فى إشارة إلى الأقباط) رئاسة الدولة. كما حرض عاصم عبدالماجد، القيادى بالجماعة الإسلامية، ضد الكنيسة المصرية كثيراً، زاعماً أنهم يسعون للإضرار بالمسلمين فى مصر. وقال عبدالماجد «أن النصارى يخططون لاستعادة الأندلس ولم ييأسوا طيلة ثمانية قرون. كما هاجم محمد سليم العوا الكنيسة القبطية المصرية واعتبرها فى حوار له مع «الجزيرة» أحد العوامل المؤججة للفتن الطائفية بالمجتمع، واصفاً إياها بأنها «دولة» داخل الدولة المصرية، مؤكداً أنها تحتجز النساء الراغبات بالإسلام - كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين- بالأديرة التى تحوى أسلحة وذخائر، على حد زعمه. أما وجدى غنيم فقد اشتهر بالتحريض ضد الكنيسة وبدأ ذلك بتصريحه الشهير بأن الكنائس المصرية مليئة بالأسلحة والذخائر، وأفتى لأنصاره بضرورة مهاجمة الكنائس وقتل المسيحيين لكونهم كفاراً بحسب قوله وأنهم قاموا بتدبير انقلاب ضد المعزول محمد مرسى.
هل يقتل المسلم بالذمى؟!
أحد المداخل الشيطانية لشيوخ الدم والفتنة والتحريض هو حديث ورد فى صحيح البخارى يقول «لا يُقتل المسلم بكافر»، والكافر فى تعريف بعض المشايخ تطلق على جميع من كفروا بالديانة الإسلامية، وهم غير المسلمين، والخلاف فى هذه المسألة لا يقع على غير المسلم المحارب، الذى تدخل بلاده فى حرب مع البلاد الإسلامية، إذ إن المشايخ أجمعوا على عدم قتل المسلم بقتله، واتفقوا أيضا على عدم تسديده دية لقتله. أما غير المسلم الذمى، وهم أهل الكتاب الذين يعيشون مع المسلمين، وكذلك غير المسلم المعاهد كاليهودى والمسيحى الذى وقعت بلاده معاهدة مع المسلمين، فقد اختلف الشيوخ حول قتل المسلم لأحدهم. واعتبروا للفارق بين المسلم والكافر، والحر والعبد، فلم يجعلوهم متكافئين فى الدم، فلو قتل مسلم كافرًا أو قتل حرا عبدا فلا قصاص على أيٍ منهما، واستندوا لتلك المفاهيم لبعض النصوص القرآنية والأحاديث المذكورة فى عدد من كتب التراث، لكن تبقى الأسئلة البديهية والمنطقية هنا هى: هل هذا من دين الله؟. هل هذا يوافق الفطرة السوية ومناهضة العنصرية التى جاء بها دين الإسلام؟ كيف لا تتكافأ الدماء لمجرد أن شخصًا مخالفًا لى فى الدين؟! كيف استخف هؤلاء بدماء الخلق وتجاهلوا رسالة الإسلام الحنيف فى القضاء على التمييز بين الناس باعتبار الدين أو الجنس، أو السلالة، أو النسب، أو الوطن، أو اللون، أو الوظيفة والمركز الاجتماعى، كيف لم يدركوا أن الله لو أراد لخلق الناس أمة واحدة وعلى دين واحد وبلغة واحد ولكن الاختلاف سنة الله فى خلقه وكونه؟ كيف لم يلتفت هؤلاء لقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).