الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«كوم دكة» سيد درويش كوم زبالة!

«كوم دكة» سيد درويش  كوم زبالة!
«كوم دكة» سيد درويش كوم زبالة!


آفة الإهمال الملعونة التى تفسد كل جميل فى هذا الوطن لم يسلم منها بيت لواحد من أهم فنانى مصر على مدار قرن كامل.. فنان الشعب (سيد درويش) . لم يكن يعلم (درويش) عندما غنى لحنه الشهير (أهو ده اللى صار وأدى اللى كان) أو لحنه الآخر (ليه تهدمونى وأنا لعزكم بانى) أنه يرثى حاله، وكأنما كان يستشرف ما سيفعله به الزمن، ويحدثه الإهمال فى منزله الذى كان من المفترض أن يكون مزاراً سياحياً ومعلماً فنيا مهماً من معالم مصر لواحد من أعظم فنانيها على مدار التاريخ.
 فى (النمسا)، وتحديداً فى مدينة (سالزبورج) مسقط رأس الموسيقار العبقرى (موتسارت) تحول بيته إلى متحف ضخم يليق باسمه وتاريخه، كما تم إطلاق اسمه على المطار الرئيسى للمدينة، بخلاف تخليد ذكراه بالهدايا والشيكولاتة والتماثيل التى تحمل صوره، وللعلم (درويش) لا يقل قيمة ولا أهمية عن (موتسارت)، فكلاهما أحدث ثورة كبيرة فى عالم الموسيقى، وكلاهما له أوبريتاته الشهيرة ومعزوفاته الخالدة.. فلا ننسى لـ(درويش) أوبريت: (العشرة الطيبة) ولا(شهر زاد).. ولا لـ (موتسارت) (ليلية صيفية).. الأكثر من ذلك أن الاثنين غنت لهما (فيروز) فغنت لـ(درويش): (زورونى كل سنة مرة) و(أهو ده اللى صار وأدى اللى كان) و(ياشط إسكندرية ياشط الهوى)، وغنت لـ(موتسارت): (يا أنا أنا أنا وياك).. كما أن أهمية الاثنين فى كونهما وضعا النشيد الوطنى لبلادهما.. فـ(موتسارت) وضع ألحان النشيد الوطنى النمساوى من تأليف (باولا فون بريرادوفيتش) الذى تقول كلماته (أرض الجبال الأرض التى على النهر.. أرض الحقول أرض القباب).. ودرويش زرع فينا الوطنية والانتماء بالنشيد الوطنى الخالد (بلادى بلادى لك حبى وفؤادى) من تأليف (محمد يونس القاضى).
(سيد درويش) الذى يعد واحداً من أهم فنانى العالم فى عصره وفى العصور التالية والخالد ذكره إلى يومنا هذا بيته - للأسف - يتحول إلى (حظيرة مواشى) و(مقلب للقمامة) بعد أن طالته أيدى الإهمال المتمثلة فى أجهزة ومؤسسات الدولة بداية من محافظة الإسكندرية مقر البيت الموجود - أو لنقل بقاياه - فى حى (كوم الدكة) الشعبى.
الغريب أن محافظ الإسكندرية الأسبق اللواء (عادل لبيب) منذ أكثر من خمسة أعوام وتحديداً عام (2010م) نزع ملكية البيت من الورثة ليقوم هو شخصياً بمتابعة تحويله إلى متحف ومزار سياحى ضخم يضم مقتنياته ومتعلقاته الشخصية والفنية ونوته وآلاته الموسيقية، إلا أن الرياح  تأتى دائماً بما لاتشتهى الأنفس فقد ضرب الإهمال بالمشروع عرض الحائط ،فلا هم حولوه لمتحف ولاتركوه على هيئته بيتاً تراثياً يحفظ ذكرى (درويش)، بل تم هدم البيت وتركوه مهجوراً ترتع فيه الأغنام والماعز والمواشى، بل الكارثة الكبرى أنه أصبح مقلباً لقمامة أهل الحى؟؟!!
الإهمال لم يدمر فقط جدران البيت، وإنما الأهم من ذلك كله أنه دمر ذكريات وتاريخ وقصص وحكايات جرت بين جدران هذا البيت وسجلت تاريخاً عظيماً سواء على المستوى الفنى أو على المستوى السياسى، فكل لحن عزفه (درويش) وشارك فيه (بيرم التونسى) يحكى قصة وطن مر بأحداث هامة منها الحلو ومنها المر! ومعظم هذه الأعمال التى بدأت مع بزوغ فجر فن (سيد درويش) فى أوائل القرن الماضى وتحديداً عام (1917) شهدتها أروقة بيته الذى تعدى عمره المائة عام، وهو ماكان من المفترض أن يمنحه حصانة عدم الهدم ككل البيوت التراثية التى تتعدى أعمارها (100) عام.. ففى هذا الركن لحن أغنية (قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك)، وفى الركن الآخر جلس إلى (بيرم التونسى) ليصنعا مجداً بأوبريت (شهر زاد) ونشيد (أعظم جيوش فى الأمم جيوشنا) و(أنا المصرى كريم العنصرين) ، وهكذا يشهد كل ركن من أركان بيته الذى كان شاهداً ليس على تاريخ (درويش فقط) بل كان شاهداً على تاريخ أمة، حيث تزامن وجود (درويش) مع (ثورة 1919) التى غيرت مجرى التاريخ والتى أرخها (درويش وبيرم) بإبداعهما حباً فى الوطن والدفاع عنه بالإبداع ضد الاستعمار الإنجليزى.. حيث تفاعلا عندما هبت الثورة تأييداً لها ولإثارة الحماس الوطنى داخل وجدان الشعب من خلال أغانيهما التى تتطرق إلى تمجيد الجيش المصرى والاعتزاز بالجنسية المصرية.
فهل يعقل أن يكون هذا مصير بيت (سيد درويش) الذى تأثر بشدة عندما نفى (سعد زغلول) إلى (جزيرة سيشل) حيث جرم الإنجليز نطق اسم (زغلول) على أى لسان ومن يخالف التعليمات ويثبت عليه الجرم يعاقب بالجلد، وخروجاً من هذا المأزق ووقوفاً بجانب (سعد) معنوياً وفنياً راح (درويش وبديع خيرى) يصنعان أغانى تتغنى باسم (سعد) من باب التورية والرمزية.. فخرجت أغنية (يابلح زغلول) ياحليوة يابلح.. يازرع بلدى عليك ياوعدى يابخت (سعدى) (زغلول) يابلح.. المؤسف أن هذه الأغنية لحنها (درويش) ليغنيها بنفسه لـ(سعد زغلول) عند استقباله من عودته من النفى، بعد أن تقرر الإفراج عنه وعودته للبلاد عام (1923م) إلا أن القدر لم يمهل لـ (درويش) ذلك، حيث توفى قبل عودة (سعد) بأيام، فغنتها بدلاً منه (نعيمة المصرية)، ولكن يظل لحنها تفوح منه رائحة (درويش) الذى يعتبر دوره الوطنى لايقل أبداً عن دور الجنود على الجبهة وفى مواجهة جنود الاحتلال الإنجليزى، إن لم يكن التأثير أقوى.
صحيح أن الدولة كرمت (سيد درويش) عندما أطلقت اسمه على (أوبرا الإسكندرية) ووضعت تمثالاً نصفيًا له فى مدخل الأوبرا، ولكن تظل الأوبرا رغم عظيم شأنها مفتقدة لروح (درويش).. فهى ليست كبيته الذى يتحدث فيه كل ركن من أركانه وكل حجر من أحجاره عن مواقفه الإنسانية والوطنية وحركاته وسكناته وإبداعاته.. راح البيت كما راح صاحب البيت ولم يبق منهما سوى ذكرى ويافطة على أول الشارع كتب عليها (شارع سيد درويش)!!