الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قانون «عفا الله عما سلف»

قانون «عفا الله عما سلف»
قانون «عفا الله عما سلف»


 
حكمت المحكمة ببراءة كل اللصوص لأن قانون الإجراءات الجنائية أراد ذلك، ولأن إخوان البرلمان ليست لديهم فكرة عن القصور القانونى فى العديد من القوانين لذلك لم يفكروا فى علاج هذا القصور، وسبحان الله!! كيف لمن لديه قصور أن يعالج القصور، فيسد القصور فى قوانين صنعها النظام السابق على عينه كى تحميه حين يحين الحين. والآن بعد القصور القانونى والقصور التى يعيش فيها من استفادوا بالقصور القانونى لم يبق لنا إلا أن نحوقل ونسترجع ونقول إنا لله وإنا إليه راجعون، بالقانون الكل سيحصل على براءة، والحل السهل هو انقضاء الدعوى الجنائية بمضى المدة.
 

 
ما حكاية الانقضاء هذه؟ ومن أى سماء هبطت علينا؟ الانقضاء هذه فكرة أوروبية، قامت على أن المتهم الأثيم الزنيم الذى ارتكب جريمة جناية مثلا، وسرق واختلس مال الدولة، وجعله غنيمة لنفسه، فإن المجتمع لا يستطيع أن يتهمه أو يحاكمه أو يعاقبه إذا مرت عشر سنوات على تاريخ ارتكابه الجناية، أو ثلاثة أعوام على تاريخ ارتكابه الجنحة، وللمتهم حينئذ أن يخرج لسانه للجميع فقد ربح من خلال القانون!!
 
عندما بدأت فكرة انقضاء الدعوى الجنائية تطل برأسها فى فرنسا كان الفقه القانونى الفرنسى الطيب يستند فى فكرته هذه إلى أمرين:
 
أولهما هو افتراض نسيان المجتمع للجريمة بسبب مضى مدة طويلة دون اتخاذ إجراءات فيها، وبنسيانها تتلاشى الحاجة إلى العبرة والموعظة فيسقط بذلك أحد ركنى حق العقاب.
 
أما ثانيهما فهو أن مرور الزمن يجعل إثبات الجريمة أو نفيها متعذرًا إما لموت الشهود أو لنسيانهم الواقعة أو لضياع معالم الجريمة.
 
ولأن القضاء المصرى للأسف الشديد قد أقام أركانه ومفاهيمه على مبدأ «من كل فيلم أغنية» فقد أخذ مفهوم الانقضاء هذا من القانون الفرنسى ونقله نقل مسطرة دون تصرف، وكانت المادة الشهيرة من قانون الإجراءات الجنائية التى تنص على هذا المفهوم ـ غير المفهوم ـ هى المادة الخامسة عشرة من قانون الإجراءات الجنائية، ولذلك أفلت «الإخوة كرامزوف» جمال وعلاء مبارك من العقاب على جريمتهما المالية، وكانت عبارات القاضى أحمد رفعت فى مقدمته الخطابية وإن كانت قد ألقت الرعب فى قلوب لصوص المال العام إلا أنها فى نهايتها نزلت بردا وسلاما على الأخوين جمال وعلاء وعلى كل من سرق معهما واغترف من مال الدولة حلالا بلالا.
 

 
طيب يا سيادة المستشار، كتر خيرك، لقد أوردت المال العام فى الدولة موارد التهلكة، ولعلك تكون قد فتحت الباب للصوص آخرين للولوج إلى البراءة من خلال هذا الانقضاء، وقد تقول لى: وما ذنبى والقانون ينص على ذلك، يا سيادة المستشار أنت رجل ما شاء الله عملت مع السيدة الجليلة «العدالة» سنوات عمرك وتعرف أن الكثير من نصوص القانون غير دستورية، فإذا ما أعضلتك مادة ووقفت فى حلقك بحيث لم يهضمها ذوقك القانونى ولم يبلعها حلقومك الدستورى فأنت سيد العارفين أن المحكمة الدستورية هى الحل، ما عليك يا سيدنا المستشار الفاهم للقانون الحريص على مصر، الذى بكى ألما وحزنا على ما فعله النظام السابق الأسود فينا وفقا لما جاء بخطبتك الحماسية إلا أن تحيل القضية فى هذه الجزئية إلى المحكمة الدستورية لتفصل فى مدى دستورية هذه المادة التى تخالف المادة الثانية من الدستور المصرى ومن الإعلان الدستورى، فهذا المبدأ القانونى يخالف بالثلث مبادئ الشريعة الإسلامية، كما يخالف القانون الطبيعى وقواعد العدالة، وقتها يا سيادة المستشار تكون قد برأت نفسك من الشكوك والشبهات وكان الله بالسر عليما.
 

 
طيب، هل أزيدك من الشعر بيتا؟ يا فضيلة المستشار هل أتاك نبأ محكمة النقض عندما أهدرت فى العديد من أحكامها نصوصا قانونية رأت أنها غير دستورية، واستندت فى ذلك إلى فكرة قانونية لطيفة وسهلة وسلسة، قالك: أنا محكمة النقض ليست لى سلطة الحكم بعدم دستورية مادة قانونية، عظيم، ولكن أنا وأى محكمة أخرى لى ولنا الحق فى أن نطبق قواعد التدرج القانونى، بمعنى أن المحكمة إذا ما وقف أمامها نص فى لائحة يخالف نص قانونى فما عليها إلا أن تحترم النص الأعلى ألا وهو نص القانون، وتهدر بطبيعة الحال نص اللائحة لأنه من طبقة أدنى من القانون، والقوانين مثلها مثل البشر تعرف الفوارق الطبقية!! وبالتالى إذا وجدت أمامها نصا قانونيا يخالف الدستور الذى هو من طبقة أعلى من طبقة القانون فما عليها إلا أن تهدر نص القانون من أجل أن تطبق نص الدستور، وقتها ستكتب المحكمة الحريصة على العدالة والمحبة لوطنها حكما «لا يخر الميه» تضع فيه المبادئ التى ترتئيها وتشرح لنا كيفية مخالفة هذه المادة القانونية لنص الدستور، وطبعا نص انقضاء الدعوى الجنائية هذا فيه العديد من الأخطاء الدستورية دون أن نصدع دماغ حضرة القارئ فى ألغاز القانون.
 

 
ولكن دون ذلك سندخل فعلا فى ألغاز القانون، لماذا؟ المادة الخامسة عشرة هذه عندما أرادت أن تتناصح على المتهمين قالت إن الانقضاء بالنسبة للموظف العام الذى يرتكب جريمة متعلقة بالمال العام لا يسرى ـ بالنسبة لمدة العشر سنوات ـ إلا من تاريخ ترك الموظف العام للوظيفة أو زوال صفته، أى إنك أيها الموظف سواء كنت وزيرا أو خفيرا لن تستفيد من العشر سنوات الخاصة بالانقضاء إلا عندما تبدأ الحسَّابة فى العد، عشر سنوات يا موظف من تاريخ تركك للوظيفة، وقتها ستستطيع أن تهنأ بالمال الحرام الذى سرقته، فالدولة التى غفلت عن محاكمتك طوال هذه المدة أصبحت دولة كريمة ومسامحة والسماح من شيم الكرام، لذلك فإن فوات هذه المدة يشير إلى أنها عفت عنك!
 
ولكن هل هذا يكفى؟ بالطبع لأ، فالدكتور عاطف عبيد الذى اتهم ببيع مصر مفروشة للأجانب وبيع القطاع العام بدراهم معدودة حينما كان وزيرا لقطاع الأعمال، ومن قبلها حينما كان وزيرا للتخطيط ووزيرا للتنمية المحلية والذى قضى فيها على كل تنمية محلية أو دولية، والذى وصل حجم الكسب غير المشروع فى عهده إلى100 مليار جنيه، حسب ما جاء فى إحصائيات الجهاز المركزى للمحاسبات فى ذلك الوقت، كما وصل حجم أموال الرشاوى عبر سنوات قليلة من رئاسته للوزارة إلى 500 مليون جنيه وحجم أموال غسيل الأموال أكثر من خمسة مليارات جنيه، الدكتور عاطف عبيد من الممكن أن يفلت من العقاب وأن تغلق ملفاته وفقا لمادة انقضاء الدعوى الجنائية بمضى المدة إذ إن صفته كوزير لقطاع الأعمال زالت منذ عام 1999 احسب معى، فالساعة بمليون جنيه والحسَّابة بتحسب!
 

 
وطبعا سينجو الدكتور كمال الجنزورى هو الآخر من أى اتهام أو شبهة اتهام بخصوص أى مخالفات حدثت فى عهده يكون قد تسبب فيها، وسيقف القضاء عاجزا حياله ولن يستطيع النائب العام أن يقول له «بم» أو «تلت التلاتة كام» إذ أنه لم يعمل فى عهد مبارك إلا لحد عام 1999 ثم انكمش فى بيته لا يستطيع أن يفتح فمه أو يعترض أو يسجل موقفا وطنيا يوحد به الوطن ويعبد به الله، فهل كان أولئك الأشرار يهددونه بفتح ملفات ما!! مثل ملف مفيض توشكى أو مترو الأنفاق أو غيرهما من الملفات!! أى أنه بالعربى الفصيح سيكون موقف كمال الجنزورى شبيها بموقف عدلى يكن باشا وعبدالخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقى باشا وحسين سرى باشا، رأسه برأسهم، هم انقضوا وبقيت آثارهم، أما الجنزورى فلم ينقض ولكن الدعوى الجنائية بالنسبة له انقضت وإن ظلت آثارها بادية للعيان.
 
أما الدكتور على لطفى الذى قضى على سمعة الجنيه المصرى حينما كان وزيرا للمالية والذى أشار البعض إلى ضلوعه فى تهريب المرأة الحديدية هدى عبدالمنعم من مصر بأموال المصريين حينما كان رئيسا للوزراء، والذى اتهمه البعض بتمكين هذه الحديدية من سرقة أموال بنك التجارة والتنمية التجاريين، بإعطائها تسهيلات ائتمانية مشبوهة فإن أحدا لن يستطيع مواجهته، لماذا، انقضاء!! أى مواطن سيقابله سيقدم له الكارنيه وسيقول له: انقضاء يا مواطن، عد أدراجك فإن القانون فى صفى فقد مضى عهد العقاب منذ زمن بعيد.. ألم أخرج من الوزارة عام 1986 انقضاء يا مواطن.
 
أما قضايا الاستيلاء على أراضى الدولة وتسهيل الاستيلاء عليها والإضرار العمدى بالمال العام فلن ينجو منها إبراهيم سليمان، ولم ينج، ولن ينجو منها المغربى، ولم ينج، ولكن سينجو كل رؤساء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة ورؤساء المدن الذين ساهموا فى ارتكاب هذه الجرائم طالما أنه مر عشر سنوات على خروجهم من الوظيفة!
 

 
الذين يحملون كارنيه «انقضاء» تنوء بحملهم مدينة القاهرة حتى إن البعض فكر فى أن يشكل لهم نقابة خاصة تسمى «نقابة الانقضاء» من أجل الحفاظ على مصالحهم، فالوزير إسماعيل سلام الذى كتب عنه إبراهيم سعدة أنه «وزير انتهت صلاحيته» والتى حامت الشبهات ومازالت تحوم حول علاقته بالكثير من المقاولين الذين أسند إليهم الوزارة ذات نفسها، هو عميد الانقضائيين وعمدتهم، وسيدخل فى هذه النقابة عشرات المحافظين الذين أفسدوا فى الأرض وسرقوا ونهبوا ثم خلدوا إلى الراحة فى قصورهم بالساحل الشمالى، أى أن كل لص فى مصر سبق وأن خرج من وظيفته منذ أكثر من عشر سنوات فيا سعده ويا لهنائه.
 
إذن كيف نواجه هذا النزيف الكبير؟ الأمر بديهى جدا لو كنا نبتغى مصر جدا «بما لا يخالف شرع الله»!! المشرع المصرى منذ زمن جعل جرائم التعذيب مستثناة من الانقضاء، أى أن المجرم الذى يعذب مواطنا لا تنقضى جريمته مهما طال الزمن، لأن التعذيب آفة تستهدف القضاء على كرامة الإنسان قبل أن تستهدف المساس بجسده.. كلام عظيم.. وطالما أن الشىء بالشىء يذكر فإننا وفى أيامنا السعيدة هذه، وبعد أن أصبح البرلمانيون هم حماة المال العام، وعدونا بذلك، وأقسموا إيمانا مغلظة بصيانة العرض والمال، إذن ليست هناك مشكلة ولا يحزنون، مجرد واحد تشريع من واحد برلمانى يقدمه لواحد لجنة تشريعية، كى توافق عليه وتعرضه على واحد مجلس شعب، ليصدر فورا مثله مثل تشريعات عديدة، فى واحد ساعة، بما لا يخالف شرع الله، مطلوب يا برلماننا العزيز إصدار قانون يجعل جرائم الاعتداء على المال العام بكل صورها غير خاضعة لانقضاء الدعوى الجنائية، فإن فعلت ذلك ستكون على الأقل كفيتنا شرك عندما فشلت فى استعادة أموالنا المهربة للخارج، وكفى الله المؤمنين شر مجلس الشعب الإخوانى بما لا يخالف شرع الله.