يوم له تاريخ فى الإسكندرية
احمد حمروش
روزاليوسف الأسبوعية : 13 - 08 - 2011
شاءت الظروف أن أقضى يوم الثلاثاء 26 يوليو فى الإسكندرية.. وهو يوم له تاريخ عند شعب مصر.. حيث غادر فيه الملك فاروق مصر إلى الأبد بعد الإنذار الذى قدمه له اللواء محمد نجيب.. وعادت بى الذكريات إلى هذا اليوم الذى قضيته فى الإسكندرية منذ 59 عاما، حيث كانت المدينة فى حالة ابتهاج شديد تلاحق مواكب الضباط بالهتاف.
وكانت الآراء تتباين حول الموقف من الملك.. هل يعدم أو يسجن ويحاكم أم يطرد فقط؟ سؤال لم تكن الإجابة قد اكتملت عليه حتى اليوم الذى تقرر فيه تقديم الإنذار.. وهذا يدل على أن تلاحق الأحداث، كان فى غير حسبان الضباط الأحرار.. وأن ضغط الوقت لم يسمح لهم بالتفكير الهادئ والتخطيط المتزن.
كانت كل مشكلة تحل فى وقتها.. وكل أزمة تعالج فى لحظتها. سافر جمال سالم بالطائرة حرصا على عدم الاتصال تليفونيا بأعضاء مجلس القيادة بالقاهرة تأكيدا للأمان لمحاولة إقناعهم بإعدام الملك.. وعاد فى الصباح الباكر يحمل الرأى المرجح وهو «يترك فاروق حيا ويحكم عليه التاريخ».
وكان الملك قد غادر قصر المنتزه إلى قصر رأس التين فى اليوم السابق مع الملكة والأميرات.. وكانت قوات الجيش التى وصلت من القاهرة قد حاصرت قصرى رأس التين والمنتزه.. وحدث اشتباك محدود بين قوات الحرس الملكى والقوات المحاصرة لرأس التين، اتصل بعده الملك بالمستر جيفرسون كافرى سفير الولايات المتحدة، وعلى ماهر الذى هرع لمقابلة الملك.
وعندما وصل محمد نجيب أبلغه سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة بالإسكندرية أن مستر «سباركس» مستشار السفارة الأمريكية قد حضر منذ مدة وأنه فى حالة اضطراب وانفعال شديدين ويقول إنه موفد من مستر كافرى للتحرى عن حقيقة إطلاق الرصاص فى قصر رأس التين، ومدى ما يترتب على ذلك من أضرار قد تسىء إلى مصلحة البلاد.
وهدأ محمد نجيب مستر سباركس قائلا له إن هذه القوات قد وزعت فى الإسكندرية كإجراء روتينى لحماية الأمن، وأنه قد أصدر أوامره بوقف الضرب الذى بدأ على أساس تصور خاطئ من الحرس الملكى بأن هذه القوات تريد أن تقتحم القصر.
وانصرف مستر سباركس وقد خف اضطرابه وهدأت حدة انفعاله وغادر على ماهر القصر بعد أن عاد الهدوء.
ولكن على ماهر فوجئ فى بولكلى بتقديم إنذار الجيش للملك بضرورة توقيع وثيقة التنازل عن العرش قبل الثانية عشرة ظهرا ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة مساء.. وارتجفت شفتا على ماهر وهو يسمع حديث محمد نجيب وشحب وجهه ولكنه تجلد وقال «زى ما تشوفوا» ثم غادر بولكلى إلى القصر مرة ثانية فى نفس الصبح بعد أن قرأ كلمات الإنذار التى تقول: من الفريق أركان حرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلالة الملك فاروق الأول: «إنه نظرا لما لاقته البلاد فى العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم إرادة الشعب حتى أصبح كل فرد من أفراده لايطمئن على حياته أو ماله أو كرامته - ولقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم فى هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون فى ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير.
لذلك قد فوضنى الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولى عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك فى موعد غايته الساعة الثانية عشرة ظهر اليوم «السبت الموافق 26 يوليو 1952 والرابع من ذى القعدة 1371» ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج».
توقيع: فريق «أركان حرب» محمد نجيب.
وفضل الملك أن يسافر بحرا على اليخت المحروسة وهو يخته الخاص مستصحبا زوجته ناريمان وابنه الطفل أحمد فؤاد وسائر أولاده.. وأن يودع على الصورة التى تليق بملك نزل عن العرش باختياره، وقع الملك وثيقة التنازل وهو فى حالة انفعال شديد.. ووجد أن توقيعه ليس منضبطا فوقعها مرة ثانية فى أعلى الكلمات التى تعلن تنازله عن العرش فى كلمات موجزة تقول:
أمر ملكى رقم 65 لسنة 1952 نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان
لما كنا نتطلب الخير دائما لأمتنا ونبتغى سعادتها ورقيها.
ولما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب قررنا النزول عن العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس الوزراء للعمل بمقتضاه. صدر بقصر رأس التين فى 4 ذى القعدة 1371 «26 يوليو 1952».
وطلب الملك تأجيل رحيل المحروسة نصف ساعة حتى تحضر بقية حقائبه، ووافق نجيب بلا تردد. وخرج وفى ذهنه كلمات الملك.
كان سباقا مع الزمن بين الملك وبين الضباط الأحرار.
لو كانت الحركة قد تأخرت أياما ربما كان بعضهم قد أصبح خلف قضبان السجون، والملك فى حياته اللاهية.
ولكن أحداث التاريخ شاءت أن يخرج الملك معزولا من مصر، وأن يصبح محمد نجيب قائدا لحركة الجيش.
وكانت عملية إخراج الملك قد تمت فى سرية تامة عن الجماهير التى لم تسمع شيئا مؤكدا عنها إلا فى السادسة والنصف عندما أذيع بيان تاريخى بصوت محمد نجيب يعلن فيه خروج الملك، ويطلب من المواطنين الذين غمرهم الفرح أن يلتزموا بالهدوء.
وبعد ساعة ونصف الساعة أى فى الثامنة مساء أذاع محمد نجيب بيانا آخر أعلن فيه على الشعب تنازله عن رتبة «الفريق» التى كان قد منحها له الملك عندما عينه قائدا عاما للقوات المسلحة يوم 24 يوليو، وقناعته برتبته الحالية رتبة اللواء.
ويقول محمد نجيب إن صدره قد استراح بإذاعة هذا البيان للأمة.. كان حريصا على أن يفهم كل مصرى أن المشاركة فى الحركة لم تكن لكسب شخصى مادى وإنما كانت لتحرير الوطن والمواطنين وأراد أن يضرب المثل بنفسه دون تردد.
هكذا سقط الملك فاروق، وغادر مصر، وطويت صفحة حكمه فى التاريخ. وأكتب هذه الكلمات يوم الأربعاء 3 أغسطس.. وهو اليوم الذى حددته ثورة 25 يناير2011 لمحاكمة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك.
وهو يوم لم يسجل التاريخ كل أحداثه بعد.