الثلاثاء 6 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الرطراط الطائفي


عبدالله كمال 9  أكتوبر 2010 3:00 م
 
رسالة من د. يوسف زيدان وتعقيب من رئيس التحرير
"الرطراط الطائفي"
عندما يكون المثقفون دعاة للفتنة الدينية
في الأسبوع الماضي نشرت في افتتاحية روزاليوسف مقالا بعنوان (أمير المسيحيين وأمير المسلمين) تناولت فيه الأبعاد الطائفية لمشكلة التنابذ الديني الذي فجرته تصريحات الأنبا بيشوي والدكتور محمد سليم العوا واعتذار قداسة البابا شنودة وما اعتبرته نتائج له.. وقد تطرقت في مقالي إلي ما وجدت أنه ظاهرة مستحدثة في المناخ الثقافي المصري وتؤدي إلي إذكاء الطائفية.. وقصدت بذلك ما كتبه ويكتبه مؤلف (عزازيل) يوسف زيدان.. وبعد صدور المجلة تلقيت اتصالا تليفونيا من إيطاليا من الدكتور زيدان.. تلاه أن أرسل لي «ردا مطولا» تخطي الـ1500 كلمة علي الرغم من أني لم أكتب عنه في مقالي أكثر من 250 كلمة.

وتجاوزا مني لمواصفات «حق الرد»، وإكراما للدكتور يوسف زيدان حتي يشرح نفسه، وفي نفس الوقت لأني أريد أن أناقش أبعاد هذه القضية بأساليب مختلفة، فإنني أنشر الرد الذي أرسله كاملا، رغم ما فيه من تعال لا يليق بمثقف يفترض فيه التواضع، علي أن يتلوه تعليق مطول مني.. يتناول ما أرسل ومسائل أخري.

هنا نص الرد.. وقد عنونه كاتبه بـ: (مهلا يارئيس التحرير):

علي صفحات هذه الجريدة كتب رئيسُ التحرير، الأستاذ عبدالله كمال (يوم 2/10/2010) مقالاً نارياً وصلني صداه صباح اليوم ذاته في العاصمة الإيطالية روما، حيث أشارك كضيف شرف في المهرجان الدولي لأدب الرحلات، بمحاضرة عن الإسكندرية وسالونيك.. عبر الهاتف، أخبرني صديقي «تامر ثابت» بالمقال، وذكر لي ملخَّصه فقلت له علي الفور: هذا رأيه! وسألني إن كنتُ أعرفُ رئيس التحرير، فقلت: ليس بشكل شخصي، ولا أظنه يعرفني بشكل شخصي ولا موضوعي! استطلع نيَّتي في الردِّ علي المقال، فقلت: بالقطع لا، فالأستاذ عبدالله كمال كتب ما يراه صواباً، ولو رددت علي كل ما يكتبون، فلن أكتب إلا الردود.

وكنتُ أظن أن الأمر انتهي عند هذا الحد، حتي جاء المساء وعدتُ إلي الفندق منهكاً بعد يوم طويل، فوجدت أمامي شاشة الكمبيوتر تغويني بمتابعة أخبار ذلك الوطن، الذي ابتلانا الله بعشقه. وقد ورد في الحديث الشريف أن: حب الوطن من الإيمان!


تتالت أمامي الأخبارُ والموضوعات، مفزعاتٍ كالعادة ومؤرِّقات، ومن بينها المقالة المشار إليها، المنشورة تحت عنوان: أمير المسيحيين وأمير المسلمين.

وللوهلة الأولي صدمني العنوان، ثم توالت الصدمات التي استوقفتني منها اثنتان، أوجبتا ضرورة كتابتي هذا المقال التوضيحي (لا الدفاعي) اعتقاداً مني بأن رئيس التحرير كان «حَسَن النية» وهو يكتب مقاله هذا، أو هو علي أسوأ تقدير: لا يقصد الإساءة الشخصية.

النقطة الأولي التي استوقفتني، لا تخصني بشكل مباشر، وهي تتمثل في ذلك العنف اللفظي الذي دعا رئيس التحرير إلي استهلال مقاله بما نصه:

«هل انتهت الأزمة التي فجَّرتها التصريحات الطائفية لأسقف التطرف الديني في الكنيسة الأرثوذكسية، المعروف علناً باسم الأنبا بيشوي.. اندفاع الأسقف المتهوِّر والمغرور، الأنبا بيشوي.. تحامق بيشوي، فدفع قداسة البابا بل والكنيسة كلها الثمن، كما أن بقية أبناء الوطن دفعوا نصيباً من هذا الثمن.. اعتذر البابا، لكن المسلمين لم يسعدوا، وهم يرونه مدفوعاً بمسئولياته الوطنية، إلي ذلك (الاعتذار).. عوضاً عن أن ارتكاب الخطايا، ليس هو الأسلوب الذي كان لابد لبيشوي أن يلجأ إليه، حتي يلبي نرجسيته ويسدد شراهة طموحه ويمضي في غيِّه المنفلت».

وتعليقاً علي ما سبق، أقول لرئيس التحرير ولعموم القراء: هب أن الذي تهاجمه أخطأ في حق الناس وحق نفسه، وانفعل لسبب نعلمه أو لا نعلمه، ولجأ إلي عنيف الأقاويل! فهل يؤدي ذلك إلي مقابلة العنف بالعنف، والانفعال بالانفعال، والهجوم بالهجوم؟.. فيا رئيس التحرير، قد دلت تجارب الأمم وخبرات التاريخ، علي أن العنف لا يولِّد إلا عنفاً، ولا يعالج الانفعال بالانفعال، ومواجهة الهجوم بالهجوم لا يخلِّف إلا فادح الخسارة.

ولو سمح لي رئيس التحرير، لدعوته إلي ما ذكرته الأسبوع الماضي في مقالتي بالمصري اليوم. أعني إهمال هذه الأقاويل التي أراها «فكاهات سخيفة» ليس الغرض منها إلا إطلاق الفقاعات الفارغة وبالونات الاختبار.. ولو تغاضي الناس عن سخيف الأقوال التي تستوجب غض النظر، فلن يقدح ذلك في مكانتهم، ولن يزعزع الواقع الفعلي الذي يستخف بساقط الأقاويل.

ولعل هذا الأسقف (المكتوب عنه) يكفيه ما فيه! فقد مسحت تصريحاته الأخيرة كل الآمال العريضة في أن يكون يوماً بطريركاً (بابا) للكنيسة المرقسية المصرية المسماة اليوم: الكنيسة القبطية.. وهو أمر يعني له الكثير، وإن أنكره لسانه في مناسبات سابقة! ولا أظنه سوف يعود إلي ذلك الإنكار، لأن الفكرة لم تعد أصلاً مطروحة.. ولن يختاره الله لذلك، علي الأقل قبل قيام القيامة.

لكن ذلك الأمر المشار إليه فيما سبق، لا شأن لي به (مباشرة) خاصة أن الكاتب لا معرفة شخصية بيني وبينه، والأسقف المكتوب عنه صرت أشك في أنني كنت يوماً علي معرفة به.. حسبما سيأتي بيانه.

النقطة الأخري التي استوقفتني، واستلزمت هذا التوضيح الواجب، هي قول رئيس التحرير ما نصه: «في طريقه إلي تحقيق الطموح العلني بأن يصبح بطريركاً، كان أن علقت في ذيل بيشوي، وصولاً إلي رقبته رواية (عزازيل) التي كتبها يوسف زيدان، وهو أديب كان علي علاقة وثيقة بأسقف التطرف. حتي إن هذه العلاقة، سمحت ليوسف زيدان بأن يحصل علي وثائق أدت به إلي تطعيم روايته بكثير من تراث الكنيسة. تلك الرواية التي لا شك أنها سببت قدراً ملموساً من التأذي للأقباط، وحظيت لأسباب غامضة وغير موضوعية، بصخب مهول. ومنحت جوائز، ونالت قدراً مهولاً من الدعاية. عملياً وواقعياً وتاريخياً، ليس هذا النوع من الأعمال الأدبية، يمثل أي فائدة ما، لمجتمع يريد أن يبقي موحداً.. باختصار، هو لم يحقق سوي فائدة لصاحب الرواية ودار النشر التي سوَّقتها علي نطاق واسع ومتعمد. ومن المزعج أن الروائي لم يتوقف عند حد نشر الرواية، بل إنه مضي إلي تسويق خطاب فكري محدد، يقوم علي انتقاد الكنيسة وتراثها.. لم تشفع لزيدان علمانيته، فهو في نهاية الأمر كاتب مسلم. وقد استخدم في عملية تسويق روايته، خلفية أنه كان علي علاقة وثيقة مع بيشوي، مما وضع أسقف التطرف الطموح إلي موقع البطريرك، في مأزق كبير، لم ينهه أنه أصدر رداً علي رواية عزازيل.. إلخ.. إلخ». هذا كلام رئيس التحرير، المنشور في جريدته، أو بالأحري: بعض كلامه.. ولو كنت قد قرأت مثل هذا الكلام، أيام الفتوة العلمية والميل إلي الانفعال، لأثارني أسلوب رئيس التحرير وتهوينه من شخصي، حتي أنه جرَّدني من لقبي العلمي! ولاندفعتُ بقولي لرئيس التحرير: لا يصح منك القول بأنني أسوِّق خطاباً فكرياً يقوم علي انتقاد الكنيسة، وإلا فإن مصر فيها عدة كنائس لا كنيسة واحدة، ونظرتي النقدية في تراثنا المسيحي والإسلامي، لا تهدف إلا لإلقاء الضوء علي المناطق المنسية في وعينا المعاصر، وتبديد «أوهام المصريين» التي تشبه المناطق المعتمة الرخوة الداعية إلي العطن الفكري..

لكنني لن أخوض في تلك الأمور، مكتفياً بما سيأتي إجلاءً لحقيقة الحال. حتي لا يتطرق إلي أوهام الناس وظنون القراء، ما هم في غني عنه. فأقول ما يعلم الله أنه الحق، وأجعل ذلك ملخصاً ومرتباً علي النحو التالي:

أولاً: إن ما أشار إليه رئيس التحرير، كأنه يقرر حقيقة، بقوله إنني «علماني» ولم تشفع لي «علمانيتي».. إلخ، يدل علي أن الأستاذ عبدالله كمال يضعني في موضع لا أعرفه، ولا يعرف هو أنني تناولت مسألة العلمانية في كتابي (اللاهوت العربي وأصول العنف الديني) حيث عرضت للصلة بين الدين والسياسة، وانتهيت من مناقشة هذه المسألة إلي أن العلمانية (خرافة) واستعرضت مواقف تاريخية كثيرة تثبت عمق الصلة والارتباط بين الموضعين، وأنهيت هذا الجزء من الكتاب بقولي: فكيف لنا من بعد ذلك كله أن نزعم مع الزاعمين أن الدين قد ينفصل عن السياسة وأن السياسة قد لا يكون لها شأن بالدين!

ولعل رئيس التحرير كان يقصد بصفة (العلمانية) الاتجاه الذي يقول بالدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية، ويؤكد حرية الأفراد في المجتمع.. وإذا كان ذلك مقصوده، فالأوفق في هذه الحالة أن يقول (الليبرالية) وليس العلمانية.

ثانياً: إن صلتي السابقة بالأسقف المكتوب عنه، كانت بعد انتهائي من تأليف رواية (عزازيل) وبدأت بطلبٍ منه ومبادرة إلي اللقاء بي في الإسكندرية، فاستضفته في مكتبي لعدة ساعات قضيناها في مناقشة الموقف التاريخي بين النساطرة واليعاقبة (الكنيسة الآشورية، والكنيسة المسماة اليوم المرقسية) ولما رأيته منهمكاً في عدائه لنسطور، قلت له مازحاً: إن الخلاف الذي نتحدث عنه هو شأن تاريخي، ونسطور مات منذ قرون طوال، فلا تتحدث عنه باعتباره اليوم معاصراً يقيم في فندق الشيراتون.

ثالثاً: إن الزعم بأن المكتوب عنه أمدني بالوثائق التي اعتمدت عليها في كتابة الرواية، هو زَعْمٌ يعلم الله وكثير من الناس أنه غير صحيح. وكل ما في الأمر أنني، علي العكس مما أشاع الزاعمُ، زُرته في الدير الذي يرأسه، وقدَّمتُ محاضرة للراهبات عن التصوف، ثم قمت بناءً علي طلبه بفحص الكتب والمخطوطات المحفوظة بمكتبة الدير.. وها هي الصورة المرفقة، إذا تأملناها جيداً تؤكد ما أقول.

وليس صحيحاً أن «المكتوب عنه» أصدر كتاباً للرد علي (عزازيل) للخروج من مأزق العلاقة الوثيقة، المزعومة، مع كاتب هذه السطور. وإلا، فقد أصدر «المكتوب عنه» كتاباً للرد علي رواية (شفرة دافنشي) قبلها بعام، وأظنه كان ينوي أن يتخصص في مجال الرد علي الروايات الأدبية التي تنال من الشهرة، ما يسمح لمهاجميها بشهرة مماثلة.. وكان الأولي بالمكتوب عنه، ما دام يزعم أنه متخصص في اللاهوت، أن يرد علي كتابي (اللاهوت العربي) وليس علي الرواية التي أصدر ردَّه عليها، بعد صدور عدة طبعات منها.

رابعاً: ليس صحيحاً، بالمرة ما ذكره رئيس التحرير من أن الخلاف حول رواية عزازيل كان بهدف الربح المادي للمؤلف والناشر! فالمؤلف قد عافاه الله من مئونة السعي وراء الكسب المادي، ولم تعد الدنيا تساوي في عينيه الكثير.

وأما الناشر الذي أصدر (عزازيل) وهو المهندس إبراهيم المعلم، فلو كان الربح هو هدفه لاستغني عن نشر الكتب تماماً، لأن لديه من الأعمال الأخري والمشروعات الكبري، ما يدر عليه من الأرباح الوفيرة، التي تسمح له بتعويض خسارته المالية في مجال نشر الكتب والروايات.
خامساً: كان الغرض من هجوم المكتوب عنه، وهجوم الكاهنين اللذين يتبعانه، هو صرف أنظار الناس عن (عزازيل) كنص أدبي روائي، وتحويلها إلي مجال الجدال اللاهوتي. ولو كنت سعيداً بالهجوم المزعوم، أو ساعياً له، لانهمكت في الجدل! لكنني بقيت قرابة عام كامل أتحاشي الاشتباك معه، ثم رددت علي مزاعمه وتهويلاته وتهويماته، في سبع مقالات نشرتها العام الماضي بالمصري اليوم، وقلت في المقالة الأخيرة منها إنني لن أتحدث ثانيةً معه في هذا الأمر، لأن الجدال الذي طال أظهر لي أنه لا يهدف إلي ما يرضاه الله والناس.. والتزمت من يومها بما قطعته علي نفسي من عهود.

سادساً: لو كان الجدل الوهمي الذي أثير حول (عزازيل) هو السبب في نجاح الرواية، فما الذي أنجح أعمالي الأخري؟ وما الذي يجعل كتابي (اللاهوت العربي) الذي أسكت المعارضين والمعترضين يتصدر قوائم الكتب الأعلي توزيعاً، منذ صدوره.. وما الذي جعل (عزازيل) ناجحة في لغات أخري لا يعرف أهلها شيئاً عن الهوس والصخب الذي نعاني منه في مصر؟ وقد عرضت في مجلة «روزاليوسف» ذاتها، ما أراه صواباً، في مقالتي التي تفضلتم بنشرها وكانت بعنوان: الدين والتدين والمديونية.

سابعاً: أعتقد أن «رئيس التحرير» لم يكن يهدف بالأساس، إلي الإساءة لشخصي أو روايتي. وإنما اختلطت عليه بعض الأمور، أو تداخلت، ولذلك رأيت لزاماً علي أن أوضح ما سبق، سعياً لسكب بعض الماء علي النيران، لإطفائها، بدلاً من سكب الزيت والبنـزين والجاز، في زمنٍ صار فيه (حسبما قال الشاعر حسن طلب، صاحب: زبرجدة الخازباز) ما لم يكن سيجوز، جاز..

وتعليق من رئيس التحرير :

وفي التعليق علي هذا الرد المرسل من الدكتور يوسف زيدان أقول ما يلي:

يمثل صاحب الرد (حالة ثقافية) مشكلة في الساحة المصرية، عنوانها وفق ما أري هو (تأصيل الطائفية)، والمشكلة تكمن في أنه كنا قد اعتدنا من المصنفين علي أنهم (متطرفين) أن يرددوا الأفكار والرؤي الطائفية، إلا أن الجديد هو أنه قد ظهر في الساحة بعض من الأصوات المنسوبة للمثقفين راحت تتبني الخطاب الطائفي.. تخلطه بسمت العلماء وتضفي عليه منهجية العلم وتلبسه العقلانية، في حين أن عمق رسالتها ينطوي علي تفتيت وتفرقة وتبنٍّ لخطاب التطرف وتأصيله.. وليس الدكتور زيدان سوي نموذج متكامل لهذه الحالة..

كما أن الدكتور محمد سليم العوا قد اقترف بعض مظاهر تلك المشكلة حين راح يردد (كلام العوام) غير المدقق عن وجود أسلحة في الكنائس.. وهو معني قد يمرر لـ (متطرف معلن) وإن كان مرفوضا لكنه حين يأتي من شخصية بقيمة صيت الدكتور العوا فإنه يكون خطيرا جدا.. خصوصا حين يتبعه بمقالات تكرسه وترسخه.

إن هذا لا ينفي بالتأكيد موقفي المعلن من الأنبا بيشوي الذي وصفته في مقال الأسبوع الماضي بأنه (أسقف التطرف).. بل إن ما أقوله هنا يمثل تأكيدا علي ما وصفت به (بيشوي) لكن الذي يصدر عن رجل دين له وضعية كنسية لا يمكن أن يكون متوقعا علي الإطلاق من مثقف يفترض فيه أن بنيته العقلية - لكي يكون مثقفا - لابد أن تكون ضد الطائفية .. أقول هذا وأنا أؤمن بأنه علي رجل الدين أن يكون نبراس تسامح.. وليس موقد نار وحريق.

ولقد آلي الدكتور زيدان علي نفسه في السنوات الأخيرة، وخصوصا منذ صدرت روايته (عزازيل) تأصيل وتسويق الخطاب الطائفي الساخر من عقيدة الآخر، بحيث أصبح الأمر قضيته، ومنهجه، وعلامة إنتاجه، وهو ما أشرت إليه في الأسبوع الماضي.. وبغض النظر - مؤقتا - عن الرد المغرور الذي أرسله ونشرته كاملا فإنني أعود إلي مقاله الأخير المنشور في جريدة المصري اليوم تحت عنوان (الخلافة والباباوية).. لكي أقدم دليلا جديدا ومؤكدا علي تفرغ زيدان لهذا.. ناهيك عن تصريحاته الصحفية التي وصلت حد التطاول الساخر علي عقائد الآخرين.

في مقاله المذكور تستر يوسف زيدان خلف مقارنة مغلوطة بين تاريخ ومعني الخلافة الإسلامية والباباوية المسيحية، حيث قارن بين ما لا يقارن بينهما.. بل إنه لوي عنق الحقائق وقفز علي التاريخ لكي يربط بين متناقضات ويصنع تشابها بين مختلفين.

وبعد أن انقضي نصف مقاله الأول فإنه راح يتناول كتاب (ساويرس ابن المقفع)، كما لو أنه يكتب مقالاً ثانيا، لكي يرد علي مقولة «أصحاب البلد»، وبالمرة فإنه يمضي في إثارة جدل غريب الهدف بشأن تعدد الزوجات في المسيحية وبشأن أنه يمكن للأسقف أن يكون متزوجا، وبشأن أنه لم يكن معروفا عن المسيحيين في مصر أنهم أقباط وإنما فقط لغة قبطية، وقضايا من هذا النوع الذي لم يكن المقال قد خصص لها أصلا.

في مقاله هذا ينهي الدكتور يوسف زيدان ما كتب بمقولة أنه سوف يتوقف لأن المقال قد استطال علي المساحة المخصصة له ويقول (فلنتوقف هنا)، وهي عبارة لا يمكن أن تصدر عن مثقف صاحب منهج يعرف ماذا يريد وإلي أين يتجه، وإنما تصدر عمن يمارس (الرطرطة) العابثة التي تبدأ من نقطة وتصل إلي نقطة لا علاقة لها بالأولي.. كما لو أنه (يكتب وخلاص).

ويبدو أن أسلوب الدكتور يوسف قد عاني من هذا المرض بحيث إنه لايمكنه العلاج منه، ويثبت ذلك رده المبعثر الذي وصلني، فلم يقتصر فيه علي ما يخصه، وإنما راح يعلق علي أمور لم تتعلق به ومنها انتقادي لبيشوي ووصفي له بأنه أسقف التطرف، وهو ما سوف أعود إليه، ناهيك عن إقحامنا في مسألة مؤتمرات يحضرها وابتلائه بوطنه وأمور من هذا النوع التي لو حذفت من الرد ما أخلت بما يريد أن يقول الدكتور يوسف.. ولو كان كاتب هذا الرد محررا في روزاليوسف وارتكب هذه الخطايا المهنية لانتقده زملاؤه وشطب رؤساؤه نصف ما دون علي الأقل.. لأنه يمارس استعراضا لا معني له.. ويلهو حيث لا يجوز المقام.

لعل هذا نوع من (العشم)، تلبس الدكتور يوسف، وهو يرسل رده، مقحما نفسه في أمور لا تعنيه، ولعله رأي أن من حقه كقارئ أن يصف أسلوبي بالعنف اللفظي، من فوق مقعد الغرور، في حين أنه لو أولي جهدا لما يريد أن يقول ويرد لكان قد تجاوز أخطاء معيبة لا يصح أبدا أن تصدر عن شخص في مكانته.

من ذلك أن الدكتور يوسف زيدان كتب الرد دون أن يعرف أن ما ورد عنه قد جاء في مقالي بالمجلة وليس مقالي في الجريدة، الصحيح بالطبع أنه اتصل بي بعد أن أرسل الرد مقرا بأنه قد قرأ المقال في موقع روزاليوسف علي الإنترنت، وأنه طلب مني تصحيح كلمة الجريدة إلي المجلة في رده، ولكن هذا في الوقت ذاته يعطينا فكرة عن مستوي الدقة التي يلتزم بها وهو يمارس (الرطرطة) اللغوية والفكرية.

ومن ذلك مثلا أنه قال (عني) لمن حادثه عن مقالي: (لا أظنه يعرفني بشكل شخصي ولا موضوعي!)، ثم وضع علامة التعجب التي يرمي بها فيما بين كلماته دون ضابط أو رابط، والمؤكد أنني لا أعرف الدكتور زيدان شخصيا.. لم يحدث لي هذا الشرف.. وإن كنت قد نشرت له في صفحات المجلة عبر آليات عمل يقوم بها الزملاء الأعزاء.. ولكن من الذي أعطي صاحب الرد الحق في أن يقول أنني لا أعرفه موضوعيا.. هل قلت له أنني لم أقرأ ما يكتب؟.. كيف تأكد من عدم اطلاعي علي ما يرطرط به حتي يصدر هذا الحكم العابث، بل يكتبه في رد يبعثه لي لكي أنشره.

ومن ذلك أنه راح يستند إلي ما أسماه حديثا عن الابتلاء بعشق الوطن.. والنص الذي استخدمه واصفا إياه بأنه حديث شريف هو (حب الوطن من الإيمان).. وهو قول مأثور لا أصل له في الأحاديث النبوية.. ولم يقل عنه حتي في الروايات أنه حديث ضعيف.. وله أن يعود إلي عشرات من الكتب في ذلك.. وحتي يعود فإن اقتباسه هذا يعطينا فكرة جديدة عن مدي الدقة التي يتصف بها ومستواها.. ناهيك عن أنه ألقي بعلامة تعجب وراء النص الذي استخدمه لكي يقول عنه أنه حديث شريف كما لو أنه يسخر من العبارة التي أوافق علي مضمونها ولا أقر بكونها حديثا نبويا.

لقد لاحظت في رد الدكتور يوسف زيدان تقصيه (حسن نيتي) وسعيه للتأكد من أنني لا أقصد الإساءة الشخصية له، وهو أمر يجب أن يطمئن إليه، فكما قال هو وأؤكد أنا ليس بيننا أمر خاص، ولم تسبق لي معرفته، ولكني أستهدف خطابه ومنتوجه المعلن الذي لا أعتقد أنه قد أصدره لكي يبقي بعيدا مقدسا.. إذ كيف يقبل لنفسه أن ينتقد ما يؤمن به فريق من أبناء البلد ولايقبل أن يناقش فيما يكتب.

و(الذات) هي التي تحرك هذه «الرطرطة» الفكرية كما يبدو واضحا لنا من الرد وصاحبه، ولذا تجده يصف ما أرسل بأنه (توضيحي) وليس (دفاعي)، مرة جديدة لو أنه حذف تلك العبارة من رده ما كان قد اختل، ولكنها ذاته التي تأسره وتلهيه عن أن ينتبه إلي ما هو أهم في عمق ما يكتبه.. ولو كانت لدي الدكتور يوسف نفس الخشية علي أجواء البلد بنفس خشيته أن تمس ذاته لزاد احترامنا له.

غير أني أستعير من رده ما ينبغي أن يقال في هذه الأمور (لو تغاضي الناس عن سخيف الأقوال التي تستوجب غض النظر فلن يقدح ذلك مكانتهم).

من المهم هنا أن نقف عند وصفه لكلام بيشوي عن المصحف الشريف بأنه (فكاهات سخيفة)، واصفا إياه بأنه (فقاعات فارغة وبالونات اختبار).. ولست أدري كيف بمثقف أن يقول هذا عن كلام أثار لغطا طائفيا وكاد يسبب فتنة، وكيف به لا يعلن موقفا منهجيا، بينما هو منشغل (ذاتيا) في أن يقدح (عمليا) في بيشوي.. وبينهما ما هو معروف وأشرت إليه من قبل وهو أحد أسباب مقالي السابق.. ولذا تجده بعد أن يتهمني بالعنف اللفظي يمارس ثأره من بيشوي قائلا: (لعل هذا الأسقف المكتوب عنه يكفيه ما فيه فقد مسحت تصريحاته الأخيرة كل الآمال العريضة في أن يكون يوما بطريركا للكنيسة المرقسية المصرية المسماة بالكنيسة القبطية).

إن تلك بالفعل أحد أهم النتائج التي أسفرت عنها تصريحات بيشوي، وقد قلت ذلك في الأسبوع الماضي عرضا، ولكن هذا ليس هو الموضوع الذي يجب أن نقصر الأمر عليه.. غير أن الأمر الشخصي وغير الموضوعي فيما بين بيشوي وزيدان هو الذي أسر زيدان.. متجاهلا النتائج المجتمعية الخطيرة لما قال بيشوي فركز علي الشخصي وتجاهل الوطني.

وفي تعليقه علي ما كتبت فإن الدكتور زيدان - الذي لم أتعمد تجريده من لقبه العلمي وليس هذا وقت مناقشة تاريخه العلمي وتدرجه الجامعي وأقر بأنه كان علي أن أقرن اسمه بلقب دكتور ولم أفعل - في تعليقه يلوح لي بأنه لو كان قد قرأ مثل كلامي في أيام فتوته العلمية والميل إلي الانفعال (لأثارني أسلوب رئيس التحرير وتهوينه من شخصي).. وإذا كنت من جانبي أؤكد أنني لم أسع إلي التهوين من شخص الدكتور زيدان بل إنني أعتبره ولهذا أتناول ما يقوم بنشره، فإنني أدعو الله له بأن يستعيد فتوته العلمية لكي يفجر ما فيه من طاقة يمكنه أن يرد بها علي ما لم يثره بعد أن أتته الحكمة.

عموما لم نسع إلي توتيره، ولم يكن الهدف -كما أكرر - شخصيا، وإنما الهدف موضوعي، ولو لم يكن الدكتور يوسف قد ورط نفسه في انشغالات ذاتية في رده المرسل المسترسل لكان قد رد علي النقطة الجوهرية التي وجهتها إليه في مقالي السابق وهي أن عمله (عزازيل) سبب قدرا ملموسا من التأذي للأقباط وأنه مضي إلي خطاب فكري محدد يقوم علي انتقاد الكنيسة وتراثها.

إن الدكتور زيدان يقول إنه لديه (نظرة نقدية في تراثنا المسيحي والإسلامي لاتهدف إلا لإلقاء الضوء علي المناطق المنسية في وعينا المعاصر).. ولو كان ذلك صحيحا لأشدنا به..

وساندناه.. لكن الدكتور زيدان عمليا لديه مشروع فكري يقوم بالأساس علي النظرة المتربصة لا النقدية في التراث المسيحي، بغض النظر عن التطعيمات الإسلامية، ويكتب حول كتبه مقالات ويدير حولها حوارات وينشر أحاديث تندفع كلها في اتجاه التراث المسيحي والطعن في أسس الكنيسة الأرثوذكسية، ولست أريد أن أعيد هنا ما ذكره في حوار في جريدة اليوم السابع بشأن المسيح والمسيحية.. إذ أنني لا أرغب في أن ألهب حريقا انطفأ.

لكني أعود إلي ما جاء في رده المسترسل لكي أدين حديثه المستخف عن الكنيسة، التي يقول عنها «المسماة بالكنيسة القبطية».. تلك لغة لا تجوز.. ناهيك عما سمعته منه في التليفون ولا يجوز نشره لأنه غير موثق.

نأتي الآن إلي بعض النقاط المحددة التي وردت في رد الدكتور زيدان.. وهي:

إنه ينكر وصفي له بالعلمانية علي أساس أنه يري أن العلمانية (خرافة).. وبدلا من أن يدخلنا في جدل لا لزوم له بين معني العلماني والليبرالي والدولة الدينية والدولة المدنية.. فإنني أقول له حسنا أنت حر في وصف نفسك بما تريد وفي تعريف توجهك من الدين كيفما تشاء.

إن الدكتور يوسف زيدان ينكر صلته السابقة بالأسقف بيشوي وأنه لم يمده بالوثائق التي استند إليها في رواية عزازيل.. وأترك للصور التي أرسلها هو بنفسه أن تعبر عن عمق العلاقة فيما بينهما.. وأطلب منه أن يعود إلي أچندته لكي يعرف عدد اللقاءات والاجتماعات التي عقدت بينه وبين بيشوي.. ولو كان ما بينهما ليس شخصيا كما يقول الدكتور زيدان فكيف يبرر هذه اللغة التي يكتب بها عن بيشوي وفيها ما هو واضح من شخصانية وذاتية.. خصوصا تعبيرات من نوع (المكتوب عنه) تلك التي كررها في الإشارة إلي بيشوي.

- الأمر المهم هنا هو أن يحدد لنا الدكتور يوسف زيدان هوية عمله (عزازيل) وماهيته.. أهي رواية أم أنها بحث.. أهي عمل أدبي أم عمل تاريخي.. هل هي شفرة دافنشي المصرية.. وأنا أصر علي (عزازيل) تحديدا لأنها تقريبا الرواية الوحيدة للدكتور زيدان المعروفة بهذا الصيت ناهيك عن رواية أخري لم يسمع بها الكثيرون.. ولأنها محور الجدل حول منتوجه العلمي.. ولأن الصخب الذي أحاط به انطلق منها.. بغض النظر عن محاولاته أن يلفت الانتباه إلي مؤلفاته الأخري.

؟ نفي الدكتور زيدان لمسألة أن الخلاف علي رواية (عزازيل) كان بهدف الربح ودفاعه عن الناشر إبراهيم المعلم بقوله أنه لو كان الربح هدفه لكان قد استغني عن نشر الكتب تماما، هذا النفي هو أمر متروك للتقدير.. إذ بالطبع لن يقول الدكتور يوسف أن من بين أهدافه المال.. ونحن نحمد الله أنه قد أغناه عن مئونة السعي وراء الكسب المادي.. فالعمل في مجال (فحص) الوثائق له فوائده.. وأما الناشر فله أن يقول ذلك عن نفسه.. وأن يشرح لنا هل يقوم من خلال نشر الكتب بعمل خيري.. وتطوعي.. ولماذا يصر علي النشر إذا لم يكن كما يقول من يرد عنه هدفه هو الربح.. وكيف يتوسع في تأسيس المكتبات ولماذا يتوسع في نشر كتب بعينها ذات خطاب محدد ليس غيره ومنه رواية (عزازيل) والصخب الذي افتعل حولها.

يهمني ختاما أن أطمئن الدكتور يوسف زيدان إلي أنني بالتأكيد لم أكن أهدف بالأساس إلي الإساءة لشخصه.. ولست أدري كيف تطلب النخبة من الدولة أن تحتمل وتتحمل عنف النقد.. وأن يصف د. يوسف زيدان المصريين بأنهم يعيشون في أوهام.. ثم لا يقبل هو أن ينقد.. عموما، المؤكد أنني كنت أقصد الانتقاد لروايته فهي ليست كتابا مقدسا.. ولم تختلط علي الأمور ولم تتداخل.. وإذا كنت قد نشرت رده كاملا وعلقت عليه مطولا.. فإنني أود أن أسجل مجموعة من النقاط الأخيرة مرحبا بأي جدل أو أي تعقيب من أي نوع.. سواء تميز بالفتوة العلمية أو بالانفعال أو غطاه الغرور أو دخل فيما لا يتعلق به.. أيا كان صاحب الرد:

- أولا: أخطر ما في الطائفية التي نواجهها أن تجد من يمكن أن يدعمها منهجيا وفكريا وألا يدرك أصحاب تلك التوجهات أنهم إنما يبلون البلد بكوارث الفتنة ويرسخون في ثقافة الناس ما يعمق الاختلاف ويقضي علي التسامح.. وليس ما يدعون أنه نزع لأوهام المصريين.

- ثانيا: إن المساعي الشخصية والمطامح الذاتية لعدد من المثقفين تجرف في طريقها قيما ثابتة وتراثا من الأخوة.. ويحلو للبعض وهو يبني سيرته وسمعته وينمي شهرته لكي ننسي مساراته أن يمضي قدما في اتجاه خطر.. يستمرئ الشهوة وتلهيه الإغواءات متجاهلا النتائج الخطيرة لفعله.

- ثالثا: إنه يجب أن نقف جميعا ضد مثل تلك التوجهات والاتجاهات، لما لها من تأثيرات خطيرة علي البلد، ليس وصاية علي الفكر، ولا رقابة علي التفكير، ولكن تصويبا وانتقادا، وتقييدا لمطامح شخصية لاعلاقة لها بنوافع وطنية، ودافعنا في هذا هو حب الوطن الذي هو من عمق الإيمان.. حتي لو لم يكن هذا المعني المأثور حديثا نبويا شريفا.

- رابعا: إن المسائل الجدلية تحتاج مناخا مناسبا لكي تثار فيها، فإذا كان الجو المحيط لايسمح بنقاش عاقل ومفيد، ويؤدي إلي عكس غرضه، فإن علينا أن نؤجل كنخبة مثقفة الجدل الذي قد يثير فتنة، وإلا نكون نحن من بين من يستغل «الهوس»، خصوصا إذا لم تكن ضرورته حالة ولم تكن موجباته لازمة.

وفي النهاية أقول للدكتور زيدان: (مالم يكن سيجوز لاينبغي أن يجوز أبدا).
 
 
عبد الله كمال

يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الآراء المتنوعة على موقعه الشخصى

www.abkamal.net

أو موقع روزاليوسف:

www.rosaonline.net

أو على المدونة على العنوان التالى:

http//alsiasy.blospot.com

أو على صفحة الكاتب فى موقع الفيس بوك أو للمتابعة على موقع تويتر:

twitter.com/abkamal

البريد الإلكترونى

Email:[email protected]