الإثنين 10 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصير السودان؟

هل تحبط الرباعية الدولية سيناريوهات التقسيم

مصير السودان؟

ربما انتبه المجتمع الدولى أخيرًا، إلى مأساة الحرب فى السودان، الممتدة على مدار أكثر من عامين ونصف العام، بَعد مَشاهد «الانتهاكات السافرة»، التى جرت خلال الأيام الأخيرة فى مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، من عناصر ميليشيا «الدعم السريع»، بعد أن ظلت الأوضاع فى السودان وكأنها «قضية منسية» دوليًا، بموازاة الحرب على قطاع غزة.



الواقع أن الأوضاع الإنسانية المأساوية فى الفاشر، ما هى إلى مشهد أخير، ضمن مسلسل «الجرائم» التى شهدها السودان فى مناطق عديدة، طوال أشهُر الحرب الدائرة، بين الجيش الوطنى السودانى، و«الميليشيا»، منذ منتصف أبريل 2023، للحد الذى بات يعيش فيه السودان أسوأ أزمة إنسانية فى العالم، بالنظر إلى أرقام التقارير الأممية عن معدلات النزوح الداخلى والخارجى التى تقارب 15 مليون سودانى، وخطر المجاعة الذى يهدد نحو 25 مليونًا.

 

 

 

والمراقب لتطورات الحرب الداخلية فى السودان، والتعاطى الدولى والإقليمى معها، يجد أننا أمام تحولات ميدانية جديدة، بعد سيطرة «ميليشيا الدعم السريع»، على مدينة الفاشر، فى وقت تسعى فيه «آلية الرباعية الدولية»، لإقرار هدنة شاملة، تقضى بوقف شامل لإطلاق النار، بما يمهد الطريق لإطلاق عملية سياسية شاملة فى البلاد.. وهى تطورات تستدعى التوقف أمامها؛ لتقييم ما آلت إليه الأوضاع فى السودان وتداعياتها وسيناريوهاتها.

 ماذا يعنى سقوط الفاشر؟

منذ بداية العام الحالى، بدأت سلسلة من التحولات الميدانية وتغيّر فى موازين القوَى العسكرية لصالح الجيش السودانى داخل السودان، بَعد نجاح القوات المسلحة السودانية، فى تحقيق مجموعة من الانتصارات، استعادت بها ولايات مهمة واستراتيجية، على رأسها ولاية الجزيرة، ثم العاصمة الخرطوم، ومن قبل ذلك منطقة جبل موية المهمة.

مع هذه الانتصارات، وسيطرة الحكومة السودانية على منطقة الشرق والشمال والوسط النيلى بالكامل؛ اتجهت ميليشيا الدعم السريع؛ للتمركز فى منطقة دارفور فى الغرب، بَعد مسلسل الهزائم المستمرة، وفى نفس الوقت بدأ الجيش السودانى التخطيط؛ لاستعادة ولايات دارفور تدريجيًا، وجنوب كردفان، وكانت نقطة الارتكاز الأساسية لها، هى «مدينة الفاشر»، عاصمة ولاية شمال دارفور.

واقعيًا؛ كانت معظم مناطق دارفور تحت سيطرة «الميليشيا»، باستثناء الفاشر، إلى أن تغيّر الوضع ميدانيًا بعد الهجوم الواسع الذى شنته «الدعم السريع»، على المدينة فى 26 أكتوبر الماضى، بعد حصار استمر لنحو 18 شهرًا، لتتحول ولايات دارفور الخمس، تحت قبضة «الميليشيا»، وهو فى حد ذاته تحوُّل نوعى، ربما كان متوقعًا بعد أشهُر الحصار، إلا أن تداعياته تمتد لأبعد من حدود الميزان العسكرى على الأرض.

بحصول الدعم السريع على مدينة الفاشر، بات السودان مقسمًا ميدانيًا إلى جزئين، الأول فى الغرب، ويشمل ولايات دارفور الخمسة، وأجزاء من ولاية جنوب كردفان، ويسيطر عليها ميليشيا الدعم السريع، والجزء الباقى، من ولايات السودان (الوسط النيلى، والشرق والشمال) تسيطر عليه الحكومة السودانية، وهذا فى حد ذاته تحويل يشكل نذير خطر على وحدة أراضى السودان، بالنظر إلى التطورات السياسية والتدخلات الدولية المصاحبة لتحولات الميزان العسكرى.

ونُذر الخطر هنا، تتعلق بمخاوف تحول تقسيم التمركزات العسكرية، إلى دعوات للتقسيم الجغرافى الداخلى؛ خصوصًا مع إعلان ميليشيا «الدعم السريع»، لتشكيل «حكومة موازية» فى شهر يوليو الماضى، فى المناطق التى تسيطر عليها، ورغم عدم وجود اعتراف دولى بتلك الحكومة؛ فإن هذا لا يمنع أن تكرار المشهد الليبى أو اليمنى، فى تقسيم البلاد داخليًا إلى جزئين ليس ببعيد.

إنسانيًا؛ ارتكبت «الميليشيا»، جرائم حرب وانتهاكات ممنهجة، فى الفاشر، شملت القتل الجماعى والتجويع والنهب والاغتصاب والتدمير المتعمد للبنية التحتية، ما أدى لمقتل الآلاف وتشريد عشرات الآلاف، وفق ما أعلنه السفير السودانى بالقاهرة، السفير عماد الدين عدوى، فى مؤتمر صحفى له الأسبوع الماضى، أشار فيه إلى أن «التقارير الميدانية وتقارير المنظمات الدولية، تثبت وقوع مجازر وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بحق سكان الفاشر».

البعد اللافت أيضًا، ما أشار إليه السفير عدوى، بأن «الدعم السريع، تستهدف مكونات بعينها على أساس عنصرى وعرقى، فى تكرار لمآسى الإبادة الجماعية فى رواندا، ما يستوجب تدَخُّل المجتمع الدولى ومجلس الأمن لتحمُّل مسئولياتهم القانونية والأخلاقية لوقف هذه الجرائم».

 حلول «الرباعية الدولية»

تتزامَن التطورات الميدانية، مع مسار جديد للتدخل الدولى فى الأزمة السودانية، من خلال آلية «الرباعية الدولية»، وهى مبادرة تجمع الدول المعنية بالشأن السودانى، وهى (مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة الأمريكية»؛ بهدف وضع حلول لأزمة الحرب.

والواقع؛ أنه منذ اندلاع الحرب فى السودان، فى منتصف أبريل 2023، تعدّدت المبادرات والجهود الدولية للتدخل لإيقاف القتال، وتنوعت التدخلات الدولية، ما بين مبادرات من دول الجوار المباشر، وما بين مسارات على الصعيد الإقليمى والقارى، من الاتحاد الإفريقى ومنظمة «الإيجاد»، إلى جانب مسارات أخرى من قوَى دولية وإقليمية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية.

والفارق فى مسار تدخُّل «الآلية الرباعية»، أنها تقريبًا تجمع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية الذين بادروا بحلول ورؤى لوقف الحرب السودانية، فى (مسار واحد)، إلى جانب قدرات التأثير التى يمتلكها كل طرف، ما يجعل هذه الآلية، مقاربة جامعة للحل فى السودان، وذلك من منطلق أن نجاح مسار التسوية فى السودان؛ مرهون بتوحيد جهود أطراف الوساطة، وقدرتها على التأثير فى وقف الحرب.

من هذا المنطلق؛ جاء تحرُّك «الرباعية الدولية» منذ ما يقرب من عام، مع أول اجتماع تشاورى جرى عقده فى شهر نوفمبر من العام الماضى، على هامش اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع «G7»، فى إيطاليا، وتوالت اجتماعاتها على مستوى المسئولين، وصولاً للاجتماع الوزارى لها فى 12 سبتمبر الماضى، الذى وضع مجموعة من المبادئ المشتركة لإنهاء الصراع فى السودان، لعل من أهمها، «الحفاظ على سيادة السودان، ووحدته وسلامة أراضيه، كضرورة للسلام والاستقرار»، إلى جانب التأكيد على أنه «لا يوجد حل عسكرى للصراع، وأن استمرار الوضع الراهن يسبب معاناة غير مقبولة ومخاطر على السلم والأمن».

وأعلنت الآلية أخيرًا عن خارطة طريق لإنهاء الصراع فى السودان، تتضمن وفق ما أعلن كبير مستشارى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لشئون الشرق الأوسط، مسعد بولس، إقرارَ هدنة شاملة تمتد لمدة ثلاثة أشهُر، ووقفًا لإطلاق النار فى جميع أنحاء السودان، بما يمهد الطريق لإطلاق عملية سياسية شاملة فى البلاد، مع زيادة حجم المساعدات الإنسانية وضمان وصولها لجميع أنحاء السودان.

وبالنظر إلى خارطة الطريق المطروحة؛ نجد أنها تركز بالأساس على ثلاثة مسارات أساسية، الأول أمنى يتعلق بوقف الأعمال العدائية والقتال، والثانى إنسانى، مرتبط بنفاذ المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب، والثالث، معنىّ بالتأسيس للمسار السياسى الداخلى.

ويبقى السؤال الذى يطرح نفسه، وهو إلى أى مدَى سينجح تدخُّل الرباعية الدولية، فى وقف العدائيات الداخلية، وتجنب ترسيخ مسار التقسيم الذى يسير فى السودان داخليًا، وهذه جوانب مرتبطة بشكل أساسى بمدى قدرة دول الرباعية الدولية، فى التأثير على طرفَىّ الصراع من أجل تنفيذ خارطة الطريق المقترحة؛ خصوصًا مع تمسُّك الطرفين، بخيار الحسم العسكرى طوال أشهُر الحرب.

 مصير السودان

إذن ما نطرحه، مرتبط بأسئلة المصير فى السودان ومستقبله، وهى تساؤلات تفرض نفسَها على كل سودانى وعلى كل مراقب ومتابع، بسبب تشابكات وتعقيدات المشهد الداخلى، ولكن قد لا نستطيع بدقة، التنبؤ بأى مسار تسير فيه أزمة السودان، وبينما مسببات اشتعال الصدام المسلح حاضرة وقائمة، لكن عند الحديث عن المستقبل والمصير يجب الوضع فى الحسبان مجموعة من الاعتبارات المهمة، وهى:

 أولاً: إن خبرة النزاعات المسلحة فى السودان، لم تحسمها الخيارات العسكرية واستخدام القوة المسلحة، مَهما امتد أمد الصراع ورقعته فى مناطق عديدة بالداخل.. هكذا كانت كلمة الفصل فى صراع الجنوب، الذى لم ينتهِ إلا بتوقيع اتفاق السلام الشامل بنيفاشا 2005، وكذلك الوضع مع بعض الحركات المسلحة فى دارفور مثل اتفاق أبوجا 2006، واتفاق أسمرا 2006؛ لإنهاء التوتر مع جبهة الشرق.

 ثانيًا: لم تُعقَد مفاوضات مباشرة بين طرفىّ الصراع؛ فقد كانت هناك مساعٍ عديدة، إقليمية وقارية ودولية؛ لجمع طرفىّ الحرب، (قائد الجيش السودانى، وقائد ميليشيا الدعم السريع)، على مائدة تفاوُض مباشرة، ولم تؤتِ ثمارها فى جمع الطرفين، سواء فى مفاوضات «منبر جدة»، وفى مسار مبادرة «الإيجاد»، أو فى مفاوضات «جينيف» العام الماضى.

 ثالثًا، تمسُّك طرفىّ الصراع بخيار الحسم العسكرى، ما يعكس عدم وجود إرادة حقيقية للتفاوض لوقف الحرب، ولعل خير برهان على ذلك، بيان مجلس السيادة السودانى الأسبوع الماضى، الذى يؤكد فيه رفضَه أى تفاوُض مباشر أو غير مباشر بين القوات المسلحة السودانية وبين ميليشيا الدعم السريع، وأكد فى نفس الوقت أن موقف السودان تجاه أى مسار تسوية؛ هو الالتزام بالحل الوطنى الذى يحفظ سيادة البلاد.

 رابعًا، إنه لا يمكن النظر للصراع المسلح الداخلى بالسودان، عن جملة الإشكاليات الهيكلية التى يعانى منها السودان، منذ استقلاله؛ خصوصًا أزمة غياب الاندماج الوطنى الداخلى، بين مكونات المجتمع السودانى، وغياب الهوية السودانية الجامعة للثقافات والأعراق والقوميات المختلفة بداخله، إلى جانب شعور التهميش وغياب العدالة فى توزيع السُّلطة والثروة المتجذر لدى نخب عديدة بالسودان.

هذا بالإضافة إلى كثرة وشدة الانقسامات فى صفوف النخبة السياسية السودانية، فرغم أن التناقضات والاستقطابات الداخلية، وتصاعد الخلافات والتخوين؛ كانت الشرارة التى اندلعت منها الحرب الداخلية، والأصعب من فاتورة الحرب الطويلة، وحجم الدمار فى البنية التحتية ومعاناة الملايين منها، هو استمرار الانقسام والتخوين بين القوَى والنخب السودانية، حتى إن مساعى ومبادرات الوفاق بين الكتل السياسية، لم تفلح فى تحقيق أى تقدُّم، يجمع الفرقاء السياسيين على كلمة سواء؛ إنقاذًا لبلادهم.

هذه الأبعاد، من المهم أخذها فى الاعتبار، عند التفكير فى أسئلة المستقبل داخل السودان.. والواقع أن سيناريوهات المستقبل لا تقف عند حدود الحرب الداخلية، ولكن هى نظرة أوسع لواقع قضايا السودان وإشكالياته، ومصير هذا البلد، من واقع ما أفرزته وأنتجته، سنوات الصراع الممتد بداخله، وأطماع التدخلات الخارجية بداخله.

وخلاصة الأمر؛ أن تدخُّل «الآلية الرباعية» لن يكون سهلاً، ذلك الواقع الذى آلت إليه الأزمة السودانية بعد الحرب على «الدعم السريع»، تجعل من الخيارات المستقبلية أكثر صعوبة على السودان وشعبه، لا سيما أن مسارات الحل باتت مرتبطة بموقف شعبى، للسودانيين الذين تضرروا كثيرًا من الجرائم التى ارتكبتها «الميليشيا».

وفى تقديرى؛ أن السيناريوهات المتفائلة داخل السودان، ضعيفة الاحتمال، فى ضوء تعقيدات المشهد الداخلى، وغياب أفق التوافق، ولكن يبقى الحديث عنها مجرد آمال، فى مواجهة واقع متأزم ومعقد.