الأربعاء 5 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
«قابيل» لم يشاهد أفلام البلطجة!‏

«قابيل» لم يشاهد أفلام البلطجة!‏

أى جريمة لها دوافع، وكلما كبرت الدوافع يمكن أن نتفهم أسباب الجريمة، دون أن نبررها ‏ولو بكلمة، فالجريمة فعل قبيح موجه ضد مصالح المجتمع ككل، صديد متراكم فى نفسية ‏مرتكبها ينتهك نظام الأخلاق السائد، لكن ثمة جرائم يتوقف عندها المرء متعجبًا، لضعف ‏دوافعها، إلى الدرجة التى تبدو فيها «نوعا» من الانتحار، أو إلقاء النفس على قضبان الأيام ‏المسنونة فى لحظة طيش عابرة.



 هل فيكم من يفهم كيف لطفل فى السادسة من عمره أن يقتل ‏صديقه بمنشار ويمزقه إلى ستة أجزاء؟ هل يمكن أن نستوعب أو نفهم كيف لزوجة عادية ‏جدًا فى الستين من عمرها أن تقتل زوجها الذى فى الثالثة والستين بعد زواج طويل أكل عليه ‏الزمان وشرب ولم يعد أمامهما إلا حسن الختام؟، كيف لزوج أن يذبح زوجته بعد زواج ثلاثة ‏أشهر فقط لمجرد خلاف حتى لو كان حادًا، ثم يفر هاربًا؟، ألم تكن هناك بدائل أكثر أمنًا مهما ‏كانت أوجاعها النفسية والمالية دون سفك الدماء وضياع العمر فى غياهب السجون؟

ويقدر عدد المسجونين خلف الأسوار فى العالم حاليًا بـ12 مليون مدان، وأتصور أن الرقم ‏الصحيح أعلى من ذلك بكثير، بسبب عدم دقة البيانات أو قلتها فى دول العالم الثالث، ‏فالولايات المتحدة والصين فقط بهما أربعة ملايين سجين، وعدد سكانهما معًا يمثل 2 %1 من ‏إجمالى سكان العالم، ويتعجب المرء كيف لدولة مثل الولايات المتحدة بها مليونان ومائتى ‏ألف سجين، من 330 مليون نسمة، وهى أغنى دولة على كوكب الأرض!‏

نعم الإنسان أعقد ألغاز الكون، لا الجبال ولا المحيطات، ولا الكائنات ذات الأشكال العجيبة ‏والألوان البديعة، ولا النجوم السابحة فى فضاءات نائية، ولا الاختراعات المذهلة التى تنهال ‏علينا كل يوم، الإنسان هو «أعجب الألغاز»، بقدر عدد سكان الأرض البالغ ثمانية مليارات ‏ومائتى مليون نسمة، من أول ماسح أحذية بسيط على باب الله فى زقاق صغير بدولة فقيرة ‏إلى رئيس أقوى دولة فى العالم تحت إمرته جيوش وقوات وأسلحة لا أول لها ولا آخر!‏

وأى مراجعة لتصرفات وسلوكيات بعض رؤساء دول وحكام، من حروب وقتل أبرياء ‏وتدمير وسائل الحياة، لن تختلف فى جوهرها عن تصرفات «مجرمين» عتاة، كيف نصف ما ‏يقترفه جيش الإبادة الإسرائيلى فى غزة؟، أو ما حدث فى العراق من سفك دماء أكثر من ‏مليون عراقي؟، أو ما يجرى فى السودان الآن؟، تخيلوا أن 92 دولة حاليًا تشارك فى ‏صراعات خارج حدودها!،  الفارق أن هؤلاء «السياسيين» يتمتعون بـ«حماية» خاصة ‏لجرائمهم تحت لافتات براقة يمر عليها المجتمع الدولى مرور الكرام دون حساب!‏

نعود إلى عالم البشر العاديين.. وبالطبع لا يوجد مجتمع يخلو من الجريمة، وإن تختلف فى ‏شكلها وتنوعها وأدواتها وأساليبها ووسائل مكافحتها وإنزال العقاب بمرتكبيها من مجتمع ‏لآخر، وقد تطورت من عصر إلى عصر، ومن حالة إلى حالة، ومن نظام عام إلى نظام عام، ‏بسبب ارتباطها بنمط الإنتاج وتوزيع الثروة والثقافة السائدة وسياسات المجتمع فى إدارة ‏شئون حياته، ولا يوجد نظام اخترعه البشر وعاشوا به ليس له «عوادم» أو آثار جانبية تمضى ‏عكس التيار العام المنضبط والملتزم بقواعد ذلك النظام.‏

قد نؤمن أن الإنسان لا يولد شريرًا ولا جشعًا، والانحراف لا يرجع إلى نقص فى طبيعة هذا ‏الفرد أو إلى نزاعات داخلية فى  نفسه البشرية، وإنما تسببه فى الغالب نواقص ومثالب فى ‏البيئة المحيطة به، وعدم تهيئة الجو النفسى والمناخ الملائم لتربيته وتوجيهه ورعايته بطريقة ‏سليمة.‏

لكن بعضًا من علماء الاجتماع يصفون الجريمة بأنها مثل جنين عشوائى يقتات على كل ‏العيوب الجينية والاجتماعية التى يتوارثها الفرد عن أجداده وأبيه، جنين ينمو بالتدريج كائنا ‏مشوها فى أحكامه وردود أفعاله.‏

وقد نتوقف كثيرًا عند نظرية الخلل الجينى الذى يصيب بعض البشر، وهو خلل مجهول ‏الأسباب علميًا، وتبدو نظرية لها منطق ممتد فى الزمن، ويمكن قبولها فى تفسير جريمة ‏الطفل الذى مزق جسد صديقه بالمنشار إلى ست قطع، ولنا فى جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل ‏عبرة متوارثة، فهى أول جريمة مسجلة فى الكتب السماوية، قد نعرف دوافعها ولكن لا نقبلها ‏ولا نفهمها، وقد لا يستسيغ بعضنا هذه الدوافع، فكيف لأخ أن يقتل أخيه لسبب كان يمكن أن ‏يجد له حلًا بسيطًا وأفضل، أن الله قد قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه، كان عليه، أن يعدل من ‏سلوكه  بالتقوى والعمل الصالح، لكنه استسهل قتل أخيه، كما لو أن اختفاءه من الوجود يمنحه ‏فرصة التفرد، أما الإسرائيليات فقد اخترعت سببًا إضافيًا للجريمة، أن قابيل أراد أن يتزوج ‏من أخته التوأم الجميلة ويستأثر بها، بينما كان من المقرر أن يتزوج هابيل منها حسب أمر ‏آدم عليه السلام، وهذا التعارض فى قصة الزواج هو الذى أدى إلى قبول قربان هابيل دون ‏قابيل، وهى حكاية تستحق التأمل، فهل الغيرة والحسد من أخيه  يؤديان بالضرورة إلى القتل، ‏الجريمة تبدو كما لو أن قابيل ولد مجرما أو وارثا للعنف «والإجرام»، وهنا نسأل: متى حدث ‏الخلل الجينى فيه وكانت الحياة على الأرض فى باكورتها؟، خلل دفعه لأن يقتل دون أن ‏يحرضه إنسان آخر أو تزن فى أذنيه أنثى ساحرة، أو يقلد بلطجيا رأه فى أفلام السينما ‏ومسلسلات التليفزيون..قتله والسلام حتى لو لم يقصد، لأن العنف مثل الجنون حين يتلبس ‏الإنسان لا يستطيع السيطرة على حدود تصرفاته.‏

والجريمة فى نظر «دافيد إيميل دوركايم»  عالم الاجتماع الفرنسى الأشهر هى ظاهرة ‏اجتماعية طبيعية تشيع فى كل المجتمعات على اختلاف درجة تطورها وحجمها، وهى فعل ‏طبيعى وليس شاذا، إذ لا يخلو منها أى مجتمع  سواء كان صغيرا أو كبيرا، متقدما أو متخلفا، ‏ريفيا أو حضريا، فهى حتمية واعتيادية، لكنها حين تتجاوز المستويات المألوفة تصبح ‏الجريمة ظاهرة شاذة وغير سوية.‏

وقد انتهى أغلب تعريفات الجريمة إلى عدة توصيفات..‏

1 - هى كل فعل يتعارض مع ما تعتبره الجماعة نافعا لها وعادلا فى نظرها.‏

2 -  هى كل فعل يرتكبه الفرد بدوافع شخصية خالصة تقلق حياة الجماعة وتتعارض مع نظام ‏الأخلاق السائد فى لحظة معينة.‏

‏3 -  هى سلوك لا اجتماعى موجهٌ ضد مصالح المجتمع ككل، وكل انتهاك للعرف السائد بما ‏يستوجب عقاب صاحبه. ‏

4 - هى الخروج على قواعد السلوك التى يحددها المجتمع لأفراده بدقة، ويفصل فيها بين ‏ماهية السلوك العادى وماهية السلوك الإجرامى وفقًا لقيمه ومعاييره.‏

وهنا يمكن أن نصف الجريمة بأنها الابن غير الشرعى للنظم الاجتماعية والسياسية ‏والاقتصادية والثقافية السائدة فى المجتمع، هى حصالة السيئات لكل التصرفات المجتمعية ‏التى يشوبها قدر من الإهمال وعدم الاكتراث وفساد التربية وسوء التعليم وإحساس بالغبن ‏سواء كان صحيحا أو غبيا.‏

والمجتمع العفى هو الذى يقف أمام المرآة كل فترة، بالعلماء والمفكرين وأساتذة علم الاجتماع ‏والباحثين ورجال القضاء، ويرى صورته وأحواله على حقيقتها دون أن يكذب على نفسه أو ‏يبررها أو يتهرب منها أو يهول من عيوبه ومثالبه، ثم يعيد التفكير والنظر، فى نظام إدارة ‏حياته بشرا وموارد،  ويطور هذا النظام  بالدرجة التى تقلل من عوادم التشغيل الخارجة عنه، ‏وأن تكون ملوثاتها من جرائم شاذة ومرعبة فى أضيق الحدود الممكنة!‏>