غياب يخصم من ثراء الأدب العربى:
ما الذى فقدناه برحيل «صنع الله»؟!

عبدالله رامى
رحل صنع الله إبراهيم، بعدما حمل راية الكتابة الحقيقية فى أزمنة غابت فيها المعانى الأصيلة. غادر جسدا صار محبوبا وسط حرّاس الرفض والذاكرة، وبقى اسمه حيا، وكلمة تذكّرنا أن الأدب ليس ترفا إنما مشروع حياة.. برحيله، خسرنا الكاتب الذى كان يعيش على هامش «الكلام المدجن»، لكنه الأقدر على تحويل «غير المريح» إلى جمال لا تهرب منه العين ولا القلب.
من صحفى معتقل إلى كاتب مقاوم
وُلد فى العام 1937 فى شارع من شوارع القاهرة، حيث برجُ الحرية يصارع نسمات المدينة. منتصف شبابه، فى عام 1959، دخل فيما يعرف بـ«قضية الشيوعيين»، رغم أنه لم يكن شيوعيًا. فى الزنزانة الهادئة والتعيسة اكتسب مقوماته الأخلاقية الأدبية: رفض الذل، حب الكلمات التى ترفض الصمت، ورغبة لا تنضب فى أن تكون الكلمة جسرًا لا إناء يُسكب فيه.
خرج من وراء القضبان، ليجد فى الرواية طريقه المنشود، بعدما شعر بأن النهج الصحفى لا يكفى لقول ما لا يُقال. فوجد فى الحكاية ساحة للوعى، وفى التشظى الاجتماعى مادة للتأليف، وفى الكتابة حقل مقاومة مستدام لا يضع له النظام حدًّا.
مشاهد المقاومة فى لوحات سردية
«اللجنة» (1981) كانت المواجهة الكبرى. رجل بلا اسم يُستدعى إلى «اللجنة» بلا سبب، يدخل الغرفة البيضاء، لا يجد إلا مكتبًا وثلاثة كراسى. لا شيء يوضّح، ولكن كل شيء يوحى. هى لوحة عن المواطن العربى المبحر فى متاهات بيروقراطية، والرعب من “لا سبب”، البطل فيها هو ضحية السؤال الذى لا يسمى، وفضول يحول الغرفة إلى ستار يكشف مدى تفشِّى العدمية داخل أنظمة لا تُسأل، بل تُجبر على الصمت.
أما “شرف” فهى رواية السجن، بطلها تعرض للظلم، ثم وجد نفسه وسط قاع أخلاقى يخنق الضحايا والمفكرين تحت جور الزمن. وصنع الله هنا لا يبتكر عالما متخيلا أو فانتازيا، بل يكتب من قلب فساد يتوغل، ليسجل أن «الكلمة تستحق أن تُقال مهما كانت التبعات».
وفى عمله الأروع “ذات” تتكدّس الجُمَل فوق بعضها “كأنها لا تخص أحدا”، لكنها تخص “ذات” وحدها، وتخصنا جميعا. فى تقاطع الخفاء والخطاب اليومي، خلق صنع الله سردا يقيس حرارة تحول الوطن من الداخل، حيث يفهم القارئ أنّ المرأة العادية يمكن أن تكون سجل الوطن الحى.
الكلمة فوق الخوف
فى عام 2003، رفض جائزة الدولة التقديرية، معلنا احتجاجه على غياب الديمقراطية. المشهد لم يكن من باب الزهو الأدبي، لكنه تحول إلى علامة على أن الكلمة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الكاتب الحقيقى لا يقايض مبادئه بمكافآت صامتة. كان موقفًا تحفظه الذاكرة كذكرى ثبات، لا كشيء يُباع أو يُنسى.
لم يكن فخرا ثقافيا يتباهى هو به أو يزايد به على غيره، بل رسالة لكل كاتب وقارئ: لا تقبل أن يُسجّلك التاريخ فى خانة «الكتب الجميلة»، بينما أنت غائب عن «الكتّاب الأحياء الذين غيروا شيئًا».
اللغة التى تُعيدنا إلى الذات
لغة صنع الله كانت ناعمة، لكنها محكمة. لا تجد فيها زينة كلمات لا تدفع إلى التفكير. لا تجد تزويقا أو زخرفة تخفى المعاني، بل ألوانًا تكشف. جمل حاسمة مثل «الكلمة فوق الخوف»، و«قلها وادخلها مرفوع الرأس»، والخبر يشط فى القلب”، جعلت القارئ لا يتنفس النص، بل يعيش معانيه كنبض. هذه اللغة التى لا تُغنى عن الضمير، لكنها تُذكِّره أن ما نقرأ مهم، وأن الكلمات هى ما يخلد.
حضور مستمر
فى رحيله، نختبر أن فُقدان صنع الله ليس موتًا تقليديًا لروائي، بل هو خفوتٌ لجسد شكّل تاريخًا ليظل الخيال، والحركة، والكتابة من حوله حيّة. فى غيابه، يمكن أن نكتب عن ظلال الأنظمة، عن الجموع التى تنام فى صمت، عن الرأسمال الذى يُنهى الأمل، لكنه لا ينهى الكتابة. ونقول: نعم، هناك من يكتب مثلما كان هو، من يبقى الكلمة فوق الخوف، من يجد فى الفن موقعًا للمساءلة لا المجاملة.
لم يمت صنع الله إبراهيم، بل صار حراسة على مساحة لا يموت فيها السؤال. وحين نقرأ «اللجنة»، فإننا نستعدّ لاكتشاف تفاصيل ما لا يعرفه أحد. وحين نقرأ «شرف»، نفهم أن الكاتب هو من يوقظنا. وحين نقرأ «ذات» أو «وردة»، نرى قضايانا تُكتب باطمئنان كأنها أمانة فى قلم.
رحيلُه هو فرصة كبيرة لنا أن نتذكّر من هو الكاتب الحقيقي، وكيف يكون حضورُه وفكُّه وخطُّه أكبر من الجسد، وأشدّ أثرا فى زمنٍ يفتقدُ إلى الكتابة التى تنبع من صمت القلب قبل أن تُقال.. لقد صار صنع الله يقينا فى ذاكرة الكلمة الحرة، مؤكدا أن الطرح الجرىء يعيش، وإن غاب الراوى.. ليبقى «ضمير الرواية العربية» كما سميناه هنا فى مجلة روزاليوسف.