«القاهرة» حائط صد أمام المخطط التهجير ظلــم لــن نشــارك فيـه

الحسين عبدالفتاح
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى 7 أكتوبر 2023، تتعدد الروايات الموجعة، تدمج بين الألم المتجذر فى الوجدان الفلسطينى، وبريق الأمل القادم من بوابة الجوار المصرى.
حكايات إنسانية تسكن تفاصيل الحرب، وتكشف كيف أسهمت الجهود المصرية فى تثبيت الفلسطينيين فى أرضهم، بوصفها امتدادًا طبيعيًا للروابط العميقة بين الشعبين الشقيقين. ويقف مستشفى العريش العام شاهدًا على عمق هذا الالتزام المصرى. المستشفى الذى كانت «روزاليوسف» قد تفقدته قبل اندلاع العدوان ضمن جولة نظمتها إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة للمحررين العسكريين، تحول إلى مركز إنسانى مفتوح يستقبل المصابين الفلسطينيين من كل الأعمار. هناك يظهر الأطباء المصريون كملائكة رحمة، يسابقون الزمن لإنقاذ الجرحى، بعيدًا عن الأضواء، وفاءً لما يعتبرونه واجبًا أخلاقيًا قبل أن يكون مهنيًا.
التهجير القسرى
منذ انطلاق العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى 7 أكتوبر 2023، عبر عملية عسكرية غير مسبوقة شملت قصفًا جويًا وبريًا مكثفًا، واجه الفلسطينيون موجة تهجير قسرى غير معلنة. فقد أدت العمليات الإسرائيلية إلى سقوط ما يقارب 200 ألف قتيل وجريح، بينما أصدرت سلطات الاحتلال أوامر إخلاء جماعية لنحو 1.1 مليون شخص من شمال القطاع باتجاه الجنوب، فى خطوة وصفت بأنها نذير لتطهير ديموغرافى ممنهج.
ورغم تصاعد العدوان، اتخذت مصر موقفًا متوازنًا، فعززت وجودها العسكرى على طول الحدود مع غزة، ورفعت حالة التأهب فى سيناء، بالتوازى مع جهودها الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، وفتح معبر رفح لإدخال المساعدات. ولكن المأساة داخل القطاع كانت تتسارع:
فبحسب تقارير الأونروا، نزح داخليًا نحو 1.9 مليون فلسطينى، أى أكثر من %85 من السكان، نحو الجنوب، لاسيما إلى رفح وخان يونس. لم يكن النزوح هروبًا من القتال فحسب، بل نتيجة تدمير ممنهج للأحياء السكنية، حيث أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة إلى أن نحو 70 % من مبانى شمال غزة دُمّرت بحلول يناير 2024.
فى هذا السياق، سعت إسرائيل لتكريس الوقائع على الأرض، حيث شنت حملة عسكرية لاجتياح مدينة رفح الفلسطينية، التى كانت قد تحوّلت إلى ملاذ لنحو 1.4 مليون نازح، ودفع السكان قسرًا نحو منطقة المواصى فى أقصى جنوب غرب القطاع. غير أن مصر، وبكل مؤسساتها، تصدّت لمحاولات فرض التهجير كأمر واقع، فوضعت جدارًا سياسيًا وأمنيًا فى وجه هذا المخطط، واستنفرت أدواتها لحماية الشعب الفلسطينى من تصفية جغرافيته وتاريخه.
موقف مصر لم يكن موقفًا عاطفيًا أو ظرفيًا، بل يستند إلى أربعة مرتكزات حاسمة: أولًا، لأن التهجير يمثل التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، إذ يُفقد اللاجئين حق العودة، كما نص عليه القرار الأممى 194، ويحول النكبة من مأساة تاريخية إلى واقع دائم. ثانيًا، لأنه يهدد الأمن القومى المصرى بشكل مباشر؛ فإغراق سيناء بموجات بشرية مهجّرة، وتحويلها إلى مخيم مفتوح للنزاع، يعنى استدعاء أجواء التوتر والإرهاب التى عانت منها مصر عقودًا.
الدبلوماسية المصرية
على الساحة الدولية، اكتسبت مصر دعمًا واسعًا من دول عربية وإسلامية، انعكس فى إشادة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خلال زيارته لمعبر رفح، حين أكد أن موقف القاهرة «حاسم فى منع كارثة إنسانية». لم يكن هذا التأييد إلا نتيجة لتحرك دبلوماسى فاعل، رسّخ موقع مصر كقوة إقليمية تدافع عن الحقوق الفلسطينية فى مواجهة محاولات فرض أمر واقع جديد.
هذا التحرك انطلق من قناعة مصرية راسخة برفض تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وهو موقف يستند إلى سجل طويل من الوساطة المصرية فى الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى، منذ اتفاقيات أوسلو فى التسعينيات، حيث كانت القاهرة ولا تزال لاعبًا رئيسيًا فى محطات وقف إطلاق النار وتهدئة التوترات.
فى المحافل الدولية، اتخذت مصر مواقف صلبة للدفاع عن الفلسطينيين. ففى جلسة طارئة لمجلس الأمن، طالب مندوب مصر، بإدانة أوامر الإخلاء الإسرائيلية لشمال غزة، واصفًا إياها بأنها «محاولة للتهجير القسرى» تنتهك القانون الدولى. هذا الموقف رافقه تحرك عربى مشترك، قادته مصر فى قمة طارئة للجامعة العربية بالرياض، حيث تقدمت القاهرة بمشروع قرار يدين التهجير، ويطالب بحماية دولية للفلسطينيين. وتأكيدًا لموقفها القانونى، شاركت مصر فى جلسة استماع بمحكمة العدل الدولية فى لاهاى، دعمت خلالها دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، متهمةً إياها بارتكاب إبادة جماعية فى غزة. وقدمت القاهرة مذكرة قانونية وصفت فيها التهجير القسرى بأنه «انتهاك جسيم» لاتفاقيات جنيف، مطالبة بمحاسبة المسئولين عن تلك الانتهاكات.
على الصعيد الإسلامى، نسّقت مصر مواقفها مع دول محورية كالسعودية وقطر خلال قمة منظمة التعاون الإسلامى بالرياض، مما أفضى إلى إصدار بيان مشترك يدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل، ويؤكد رفض المخططات الرامية إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وضمن هذا الزخم، استضافت مصر «مؤتمر القاهرة للسلام» بحضور قادة 31 دولة ومنظمة دولية، حيث طُرحت مبادرات للتهدئة وإيصال المساعدات، وأكدت القاهرة بوضوح رفضها لأى مشروع للتهجير. وقد خرج المؤتمر ببيان دعا لحماية المدنيين ورفض أى محاولات لإعادة رسم الخريطة السكانية للقطاع.
وفى تحرك موازٍ، عقدت مصر مؤتمرًا تحت عنوان «التضامن مع فلسطين»، حضرته وفود عربية وأفريقية، وركز على إعادة إعمار غزة وتثبيت سكانها فى أماكنهم. وخلاله، أعلنت القاهرة عن تخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار البنية التحتية فى القطاع، مشروطة ببقاء القطاع تحت السيطرة الفلسطينية. كما دعا الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى إنشاء آلية دولية لمراقبة دخول المساعدات، بما يمنع استخدامها كأداة ضغط لفرض التهجير.
هكذا، جمعت مصر فى أدائها الدبلوماسى بين الحراك الميدانى، والتحرك القانونى، والتنسيق السياسى، لترسيخ معادلة واحدة: لا تهجير، لا إعادة رسم ديموغرافى، ولا تسوية على حساب الفلسطينيين. لكن كل ذلك لم يخلُ من التحديات. فكل موقف مصرى حازم كان يقابله ضغط إسرائيلى أو حملة تشويه مدروسة. واجهت مصر عواصف من الاتهامات، خاصة فى ملف معبر رفح. ناشطون معروفو التمويل والارتباطات، ومنظمات ذات مواقف مسيّسة، وعلى رأسها «هيومان رايتس ووتش»، شنوا حملات تتهم القاهرة بتقييد المساعدات، متجاهلين أن المعبر لم يُغلق يومًا، بل فُتح على مدار الساعة، ضمن رؤية توازن بين الدعم الإنسانى وحماية الأمن القومى.
وكان خطاب مصر واضحًا: لا تنازل عن سيناء، ولا قبول بتمرير مشاريع التهجير. فحين قال الرئيس عبد الفتاح السيسى «سيناء خط أحمر»، لم تكن مجرد عبارة بل إعلان موقف، أغلقت أمامه كل أبواب المساومة. فالدعم لغزة لا يعنى أبدًا فتح حدود بلا ضوابط، لأن ذلك -ببساطة- يُحقق لإسرائيل ما لم تحققه دباباتها: تهجير الفلسطينيين إلى خارج أرضهم.