الإثنين 12 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
لماذا لا تضرب مصر الحوثيين؟ ‏

لماذا لا تضرب مصر الحوثيين؟ ‏

يبدو أن ثمة مثقفين عربًا لا يعجبهم «الموقف» الحكيم الذى تتخذه مصر من أعمال الحرب ‏التى ترتكبها جماعة الحوثيين فى جنوب البحر الأحمر، وتحرم بها مصر من 70 % من ‏إيراداتها الدولارية من قناة السويس، وهى إيرادات فى غاية الحيوية، وغيابها خسارة كبيرة ‏على الاقتصاد المصرى، والأخطر أن هذه الأعمال أوحت إلى الرئيس الأمريكى صاحب ‏الأفكار غير المنطقية بأن يطمع، ويطالب بأن تعبر السفن الأمريكية سواء كانت تجارية أو ‏عسكرية قناة السويس مجانًا.



 

فبلاده هى التى تتصدى للحوثيين عسكريًا بالغارات الجوية ‏والصواريخ الموجهة، كما لو أن الجيش الأمريكى مثل أى قوات مرتزقة يحارب بالأجرة، ‏متجاهلًا أن الولايات المتحدة قوة عظمى لها مهام وأدوار فى العالم توجبها هذه القيادة، وإلا ‏فقدت معناها، كما أنها فى الأصل تحارب من أجل الدفاع عن إسرائيل قبل أن تعمل على ‏حماية طرق التجارة العالمية. ‏

من هؤلاء الدكتور هيثم الزبيدي، وهو كاتب عراقى يعيش فى لندن، وله اهتمامات ثقافية ‏واسعة، ويكتب فى مجالات متعددة، ونشر مقالًا قبل أيام فى جريدة العرب اللندنية بعنوان ‏مثير جدًا: «انعدام الفعل ليس خيارًا مصريًا أمام مطالب ترامب»، وقال: «ما يجعل الأمر معقدًا ‏وصعبًا على الفهم هو انعدام الخطط المصرية فى مواجهة الحوثى عسكريًا، بجيش يقول عنه ‏أصحابه إنه جيش جبار ومزود بأفضل الأسلحة والمعدات»!‏

عبارات فى منتهى الاستفزاز لمصر، لكن يبدو أن صاحبها، مع فرض حسن النية فى ‏تحريضه ضد الحوثيين وإيران، تجاهل عمدًا طبيعة مصر وتاريخها ودورها الإقليمي، والأهم ‏فهمها لفلسفة «الأمن القومي» واستراتيجيته، بدليل أن قال: لو أن مصر أقدمت مثلًا على ‏الاقتداء بالتاريخ القريب لندها اللدود إسرائيل حين اعتبر إغلاق مصر عبدالناصر مضائق ‏تيران عملًا عسكريًا يبرر الحرب!، أى يريد أن تتصرف مصر مع محيطها العربي، بمنطق ‏إسرائيل، كما لو أن مصر وإسرائيل مجرد بلدين فى منطقة واحدة، وليسا ضدين فى الفلسفة ‏والتاريخ والاهتمامات والمفاهيم، فلم يقدر أن قدرات جيش مصر لا تستخدم ضد أشقائها مهما ‏ارتكبوا من حماقات، وهى قدرات للدفاع عن مصر فى منطقة هى الأكثر اضطرابًا فى ‏العالم، لأن العديد من القوى غربًا وشرقًا تدوس بأقدامها وخططها فى أرضها، ناهيك أن جارها ‏الشرقى مستعمر استيطانى مدعوم عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا من الغرب وعلى رأسه ‏أمريكا!‏

طبعا الحوثيون خطر حقيقى فى مدخل البحر الأحمر، وما يفعلونه فيه عدوان على مصر، ‏حتى لو كان مقصده إسرائيل، وقد يكون مقصودًا، ليس من منفذيه، ولكن ممن يحركونهم ‏ويقفون خلفهم، لعله يورط مصر فى معمعة المعارك الدائرة الآن، كجزء من محاولات ‏توسيع الصراع، تخفيفًا عن الأطراف المباشرة، وخلط الأوراق وإيقاع مزيد من الضعف ‏والوهن على نظام الأمن العربي، بدليل أن أعمال الحوثيين العسكرية ضد إسرائيل هامشية ‏ولا تضعف جرائم الإبادة التى تمارسها فى غزة، وهى أقرب إلى «مساعدة معنوية»، لا تعادل ‏واحدًا على مائه مما يتحمله اليمنيون من تكاليف باهظة فى الأرواح والبنى التحتية!‏

كل هذا تعرفه مصر وتدركه تمام الإدراك، لكن إدراكها لمفهوم الأمن القومى الشامل فى ‏هذه المنطقة المضطربة هو الذى قيدها عن أى رد فعل عسكرى فى هذا الوضع الخاص جدًا، ‏بالقطع لن تعمل على تمزيق المنطقة أكثر مما هى ممزقة، بالرغم من خسائرها الاقتصادية.‏

العرب جميعًا لهم عدو استراتيجي، لكن لا تجمعهم رؤى متشابهة، بل على العكس يتنافسون ‏بشراسة ويتعاونون بخفة على الأدوار والقيمة، وهذا التنافس الشرس أنبت خلافات غبية تنتج ‏حماقات وأضرارًا مباشرة وغير مباشرة، وهى تحاول بقدر طاقتها أن تحاصر هذه الخلافات، ‏حتى لا تسمح لهذا العدو الاستراتيجى بالسيطرة على المنطقة وقيادتها كما تخطط الولايات ‏المتحدة.‏

بالتالى لا يعقل أن تتورط مصر أمام مطالب ترامب الخرافية فى «شن الحرب» على الحوثيين، ‏كأنها ترفع عن ترامب عبء الحرب ضد الحوثيين، فتنعدم أسباب طلبه، هذه فرضية غير ‏واقعية ولا تتفق وأسلوب ترامب، فترامب لا يعنيه معقولية تفكيره، وإلا ما فكر فى ضم كندا ‏إلى أمريكا ولا أعلن عن نيته فى احتلال جزيرة جرينلاند الدانماركية، كما أن مصر لم ‏تسأل ترامب أن يتدخل ضد الحوثيين، ليطلب منها ثمن تكاليف حربه!‏

ونحب أن نطمئن الدكتور هيثم أن مصر تملك من الأفكار والحقوق التى لا تجعل انعدام الفعل ‏خيارًا مصريًا أمام مطالب ترامب، وقطعًا ليس منها إعلان الحرب على الحوثيين.‏

وموقف مصر من الحوثيين هو نفس موقفها من حماس، بالرغم من الأضرار الرهيبة التى ‏تسببت فيها حماس لمصر على مدى الـ18 سنة الأخيرة، سواء دعمًا للجماعات الإرهابية فى ‏سيناء أو لجماعة الإخوان فى سنوات الاضطراب التى صاحبت ثورة 25 يناير 2011، أو ‏بتداعيات طوفان الأقصى، وقد تجاوزت هذه الخطايا الرهيبة، من أجل غاية أهم، وهى ‏القضية الفلسطينية.‏

ومصر بالرغم من سلامها الرسمى مع إسرائيل، واحترامها له لا يغيب عنها مفهوم الأمن ‏القومى العربي، وسلامها كان اختيارًا ضروريًا إذا جاز التعبير، فالعدو الإسرائيلى مجرد «واجهة» لصراع أكبر، لا تستطيع مصر أن تتحمله بمفردها اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيًا ‏إلى أن يأذن الله بحله، وفى الوقت نفسه تحافظ على جيشها قويًا مستعدًا بكل ما فى العصر من ‏إمكانات، لأن العدو الإسرائيلى لا يخفى أطماعه، فقط يتحين الفرصة والظروف المواتية، ‏ولهذا عدّل من تكتيكاته مؤقتًا من المواجهة إلى الاحتواء والتمدد «السلمي» إلى خلايا ‏ومراكز التأثير العربية، وهو الذى اخترع مصطلح «الشرق الأوسط الجديد»، تحديدًا على ‏لسان شيمون بيريز السياسى الإسرائيلي، الداهية، الذى سجله فى كتاب بنفس العنوان ‏أصدر عام 1993، ويقترح فيه شرق أوسط ينبذ الحرب ويرتمى سلامًا فى حضن إسرائيل ‏ويفتح لها خزائنه وحصونه، لتحقيق تنمية المنطقة وازدهارها.‏

‏ وقد حدث أن رجل أعمال مصريًا دُعى إلى عاصمة عربية فى عام 1987، وفوجئ بوجود ‏شيمون بيريز على رأس الطاولة ضيفا شرفيا فى حفل عشاء أعد خصيصًا له، واعتذر له ‏المضيفون عن المفاجأة وقالوا له: أنتم تطبعون معهم ما الذى يمنع أن نستضيفه؟، فرد ‏بسؤال: ولماذا تستضيفونه سرًا؟

وتحدث بيريز عن الشرق الأوسط الذى تحلم به إسرائيل، وبدأت تتمدد خيوطه ببطء، حتى ‏أسس له دونالد ترامب فى ولايته الأولى ديانة جديدة هى «الإبراهيمية»، فأصبحت كلمة السر ‏إلى «مغارة» العرب: ذهب وياقوت ومرجان .. أحمدك يارب.‏

المدهش أن إسرائيل لا تخفى أطماعها التوسعية فى بناء مملكة إسرائيل الكبرى أو مملكة ‏داود، مستندة إلى أساطير قديمة، لا تقف عند حدود المسجد الأقصى ونهر النيل والفرات ‏وبعضًا من سوريا، وإنما تمتد أيضًا إلى الأماكن المقدسة فى مكة ويثرب، وقد سجلها المؤرخ ‏اليهودى دينيس آفى لبيكين، فى كتابه «العودة إلى مكة»، وقال إن بنى إسرائيل استوطنوا قديمًا ‏شبه جزيرة العرب، وأن التيه الذى عانوا منه كان هناك، وأن الجبل الذى كلم الله موسى فيه، ‏ليس جبل الطور فى سيناء وإنما هو جبل اللوز فى تبوك بالسعودية، ومن حق اليهود العودة ‏إلى مكة ويثرب أيضًا!‏

هل عرفت يا دكتور هيثم لماذا لا تضرب مصر الحوثيين؟